المثاقفة الشعرية في «كأنك لم» للشاعر السوداني محمد عبد الباري

البحث عما لم يقله النص المعلن

محمد عبد الباري - غلاف المجموعة
محمد عبد الباري - غلاف المجموعة
TT

المثاقفة الشعرية في «كأنك لم» للشاعر السوداني محمد عبد الباري

محمد عبد الباري - غلاف المجموعة
محمد عبد الباري - غلاف المجموعة

استمعت، أو بالأحرى شاهدت، الشاعر السوداني الشاب محمد عبد الباري لأول مرة قبل عامين أو ثلاثة على «يوتيوب» يلقي قصيدة في منتدى خاص بالقاهرة، وأذكر دهشتي الأولى التي ما لبثت أن توارت قليلاً نتيجة لعدم الاستماع إليه أو قراءة شيء آخر له. كان ذلك حتى لقيته في الرياض وتحدثت إليه وأهداني مجموعتين له أحسبهما كل ما أصدر حتى الآن. ولم تلبث دهشتي الأولى أن عادت بعد قراءة إحدى المجموعتين بتحريض جميل من موسوعة الشعر العربي (موقع «أدب» على الإنترنت) لتقديم قراءة حول عبد الباري في أمسية شعرية بنادي جدة الأدبي. أقول عادت دهشتي والحق أنها لم تعد بل كبرت كثيرًا ولعلها تعمقت أيضًا، فكانت منها قراءة لمجموعته «كأنك لم» أعرضها هنا.
كان أول ما استرعى انتباهي في هذه المجموعة عدد من السمات الشكلية والموضوعية التي تتمحور حول ما يمكن أن نسميه «شعرية مثقفة» أو «مثاقفة شعرية»، وهما عبارتان أحاول من خلالهما اختزال توجهات القصائد نحو التعالق مع نصوص لشعراء وكتاب مختلفين في عملية تناص ليست متعمدة فحسب وإنما معلنة أيضًا. نحن، بتعبير آخر إزاء نصوص شعرية تسعى إلى قطع نصف المسافة مع أي قراءة نقدية لها، فهي ما بعد حداثية من زاوية الوعي الحاد بالذات على النحو الذي يكسر الجدار الرابع ويعلن أن القصائد تدرك ماذا تفعل فنيًا. فحين يتضمن عنوان قصيدة ما كلمة «تناص» فإن الشاعر يتحول إلى ناقد، يكشف هو، قبل القارئ الناقد، ما تفعله قصيدته فيلغي الحاجز الوهمي، حاجز استغراق العمل الفني في طبيعته الشعرية وانتظاره لمن يقرأه ويكشف أسراره. هو هنا عمل يبدو وكأنه ينظر إلى نفسه في المرآة أو يطل على نفسه من الخارج فيقوم بالتفحص والتصنيف وإن توقف دون الحكم.
غير أن هذا الشعور أو هذا الاعتقاد الذي تبلور بعد قراءتي لمجموعة عبد الباري المشار إليها لم يستطع ثني عنان القراءة عن أن تبحث عما لم يقله التناص المعلن أو العتبات المنتشرة طوال قصائد المجموعة، فليس من السهل الاستسلام لرغبة شاعر أن يسلب الناقد أدواته. وأظنني بعد ذلك سعيت إلى إخضاع هذا كله لتأمل لا بد أن يكون سريعًا ومختزلاً لأسباب ليس أقلها المساحة المتاحة في صحيفة سيارة.
تبدأ مجموعة «كأنك لم» بعبارة لم تنسب إلى أحد، فهي للشاعر نفسه، عبارة تحل محل الإهداء التقليدي لتتلو ذلك القصائد بعبارات هي في الواقع اقتباسات من آخرين بعضهم شعراء وبعضهم حكماء وبعضهم غير ذلك. العبارة الأولى تعلن ما يتضح أنه هم رئيسي للقصائد هو الحرية، وهو بالفعل ما تعلنه بعض الاقتباسات، لكن الحرية ليست الهم الوحيد أو الموضوعة الوحيدة. في القصائد حديث كثير عن الوحي والنبوة والتصوف وقدر الشعراء، وفيها قصائد تتجه إلى الأنثى لتسبغ عليها حضورًا إنسانيًا وشعريًا رائعًا في مجمله سواء أكانت أمًا أو معشوقة. هذا إلى جانب اشتغال شعري لافت على الأحداث السياسية كالربيع العربي وغيره من الانشغالات الكبرى. غير أن الاقتباسات التي توحي بمشاغل القصائد تأتي تالية للعنوان، عنوان المجموعة. «كأنك لم» تشير في نقصها، في دفعها القارئ إلى إكمالها أو البحث عما يكملها، إلى أمرين:
الأول: أن ثمة ما هو مسكوت عنه، أن ثمة مشكلا هو الحرية، والذي نطالعه في غير مكان من المجموعة. يصدق ذلك على قصيدة بعنوان «cv لأبي العلاء المعري». تلك القصيدة مونولوغ يتحدث فيه شاعر المعرة وفيلسوفها من زاوية متجاوزة للبشر والتاريخ فيتحول إلى كائن أسطوري وإن ظل مرتبطًا بصورتنا عنه رهينًا لكن ليس لمحبسين وإنما لثلاثة محابس يبين عنها الشطر الأول من بيت يرد في قصيدة عبد الباري وقد حذفت منه كلمة «سجوني»:
أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عن الخبر النثيث
ففقدي ناظري ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسد الخبيث
إنها إشكالية الحرية متجسدة في الحذف المتعمد وفي كون المحذوف كلمة «سجوني».
أما الأمر الثاني الذي يلح عليه الحذف في العنوان فهو شراكة القارئ في صناعة النص، فمن دون ذلك القارئ المستوعب لخلفيات القصائد ومضامينها وتشكيلاتها لن يمكن لقصائد كهذه أن تقول الكثير أو حتى أن تقول شيئا، بل أن تكون شيئا ذا بال.
قصيدة حول قرين أبي العلاء، المتنبي، تشير أيضًا إلى الأمرين معًا. في «الورقة الأخيرة من مذكرات المتنبي» تناص غير معلن في العنوان، أي عكس الحال في قصيدة المعري. هنا التناص، كما يجب أن نتوقع مع المتنبي نفسه في بيت يقول:
«دخلت لتيجان الملوك وعندها
رأيت مماليك بغير ممالك».
المتوقع منا، في تقديري، أن نستعيد هجاء المتنبي لكافور لا سيما هجاءه المبطن في توعده لكافور في قصيدته التي مطلعها:
منى كن لي أن المشيب خضاب
فيخفى بتبييض القرون شباب
والتي يمضي فيها إلى القول:
أُقل سلامي حِب ما خف عنكم
وأسكت كيما لا يكون جواب
وفي النفس حاجات وفيك فطانة
سكوتي بيان عندها وخطاب
السكوت إشكالية عبد الباري في قصيدته عن المتنبي كما هي إشكالية المتنبي في قصيدته عن نفسه، لذا ليس من الصعب أن نتبين أن قصيدة المتنبي تأتي لتكون وبأثر عكسي قصيدة عن عبد الباري أيضا، بحكم التناص أو الاستدعاء المتعمد.
لن أسترسل أكثر لأختم بما يقوله الشاعر عبر أحد أقنعته الكثيرة في المجموعة، ما يقوله حول الكيفية التي يود بها أن يُقرأ. إنه يقترح علينا طريقين متناقضين ولنا أن نختار أحدهما. فهذه القصائد التي يصل بعضها إلى صور باذخة الجمال قد تقرأ كما يقترح الصوفي أبو مدين الغوث في قصيدة بعنوان «تناص في سماء سابعة» على أنها احتفاء بالشكل التقليدي للقصيدة، موزونة مقفاة، لكنها تحيل في قوافيها إلى مخاض عسير يتحول لدى القارئ إلى رذاذ لذيذ:
دمي المصبوب في وجعي المقفى
سيهطل بين قرائي رذاذا
أما السبيل الآخر إلى القراءة أو التلقي فتقترحه القصيدة نفسها حين يقول المتحدث:
ولا تطلب من الكلمات معنى
فحسبك أن تعود بنصف جرس
هذا البيت الأخير جزء من متوالية بيتية آسرة لا أستطيع سوى أن أورد بعضها لأختم بما في صورها من جرس المعنى وقطرات النغم:
قصصت عليك من رؤياي سجنًا
فكن طيرًا لتأكل خبز رأسي
وكن في أول الموال حزنًا
لتذكر.. آخر الموال ينسي
ولا تطلب من الكلمات معنى
فحسبك أن تعود بنصف جرس
ستنسى دائمًا في العود لحنًا
وتنسى قطرتين بكل كأس



ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
TT

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية

كشفت أعمال المسح المتواصلة في الإمارات العربية المتحدة عن مواقع أثرية موغلة في القدم، منها موقع تل أبرق التابع لإمارة أم القيوين. يحوي هذا التل حصناً يضمّ سلسلة مبانٍ ذات غرف متعددة الأحجام، يجاوره مدفن دائري جماعي كبير. وتُظهر الدراسات أن هذه المنشآت تعود إلى فترة تمتد من الألف الثالث إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وترتبط بمملكة عُرفت في تراث بلاد الرافدين باسم ماجان. خرجت من هذا التل مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية كبيرة في الأساليب، وضمَّت هذه المجموعة بضع قطع ذهبية، منها قطعة منمنمة على شكل كبش، وقطعة مشابهة على شكل وعلَين متجاورين.

يقع تل أبرق عند الخط الحدودي الفاصل بين إمارة أم القيوين وإمارة الشارقة، حيث يجاور الطريق الرئيسي المؤدي إلى إمارة رأس الخيمة. شرعت بعثة عراقية باستكشاف هذا الموقع في عام 1973، وبعد سنوات، عُهد إلى بعثة دنماركية تابعة لجامعة كوبنهاغن بإجراء أعمال المسح والتنقيب فيه، فأجرت تحت إدارة العالِم دانيال بوتس خمس حملات بين عامَي 1989 و1998. خرج تل أبرق من الظلمة إلى النور إثر هذه الحملات، وعمد فريق من الباحثين التابعين لكلية برين ماور الأميركية وجامعة توبنغن الألمانية على دراسة مكتشفاتها في 2007. تواصلت أعمال التنقيب في السنوات التالية، وأشرفت عليها بشكل خاص بعثة إيطالية تعمل في إمارة أم القيوين منذ مطلع 2019.

استعاد دانيال بوتس فصول استكشاف هذا الموقع في كتاب صدر عام 1999 تحت عنوان «ماجان القديمة... أسرار تل أبرق». زار الباحث تل أبرق للمرة الأولى في 1986، يوم كان يقود أعمال التنقيب في مواقع مجاورة، وزاره ثانية بعد عامين، بحثاً عن مؤشرات أثرية خاصة تتعلّق بالأبحاث التي كان يقودها، وكان يومها يعتقد أن تاريخ هذا التل يعود إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، ثم عهد إلى العالِمة الدنماركية آن ماري مورتنسن بمشاركته في استكشاف هذا الموقع، وتبيّن له سريعاً أن الأواني التي كشفت عنها أعمال المسح الأولى تعود إلى القرون الثلاثة الأولى قبل الميلاد بشكل مؤكّد. إثر هذا الاكتشاف، تحوّل موقع تل أبرق إلى موقع رئيسي في خريطة المواقع الأثرية التي ظهرت تباعاً في الأراضي التابعة للإمارات العربية المتحدة، وتوّلت البعثة الدنماركية مهمة إجراء أعمال المسح المعمّق فيه خلال خمسة مواسم متتالية.

حمل عنوان كتاب دانيال بوتس اسم «ماجان القديمة»، وهو اسم تردّد في تراث بلاد الرافدين، ويمثّل جزءاً من شبه جزيرة عُمان كما تُجمع الدراسات المعاصرة. يذكر قصي منصور التركي هذا الاسم في كتابه «الصلات الحضارية بين العراق والخليج العربي»، ويقول في تعريفه به: «تعدّدت الإشارات النصية المسمارية عن المنطقة التي عُرفت باسم ماجان، وهي أرض لها ملكها وحاكمها الخاص، أي إنها تمثّل تنظيماً سياسياً، جعل ملوك أكد يتفاخرون بالانتصار عليها واحداً تلو الآخر». عُرف ملك ماجان بأقدم لقب عند السومريين وهو «إين» أي «السيد»، كما عُرف بلقب «لوجال»، ومعناه «الرجل العظيم». واشتهرت ماجان بالمعادن والأحجار، وشكّلت «مملكة ذات شأن كبير، لها ملكها واقتصادها القوي»، ودلَّت الأبحاث الحديثة على أن مستوطنات هذه المملكة، «بما فيها الإمارات العربية وشبه جزيرة عُمان الحالية، كانت لها قاعدة زراعية، ولكي تجري حماية استثماراتهم هذه شعر المستوطنون بضرورة بناء التحصينات الدفاعية الممكنة لقراهم، حيث احتوت كل قرية أو مدينة صغيرة على أبراج مرتفعة، بمنزلة حصن مغلق واسع، يتفاوت ارتفاعاً ومساحةً بين مدينة وأخرى». يُمثّل تل أبرق حصناً من هذه الحصون، ويُشابه في تكوينه قلعة نزوى في سلطنة عُمان، وموقع هيلي في إمارة أبو ظبي.

يتوقّف دانيال بوتس أمام اكتشافه قطعةً ذهبيةً منمنمةً على شكل كبش في مدفن تل أبرق، ويعبّر عن سعادته البالغة بهذا الاكتشاف الذي تلاه اكتشاف آخر هو كناية عن قطعة مشابهة تمثّل كما يبدو وعلَين متجاورين. وتحمل كلٌّ من هاتين القطعتين ثقباً يشير إلى أنها شُكّلت جزءاً من حليٍّ جنائزية. إلى جانب هاتين الحليتين الذهبيتين، تحضر حلقة على شكل خاتم، وقطعة على شكل ورقة نباتية مجرّدة، إضافةً إلى زر صغير، وتُكوّن هذه القطع معاً مجموعة ذهبية صغيرة تجذب ببيرقها كما بصناعتها المتقنة. يحضر الكبش في وضعية جانبية، ويتميّز بطابع تجسيمي دقيق، يتجلى في جانبيه. في المقابل، يحضر الوعلان متقابلين بشكل معاكس، أي الذيل في مواجهة الذيل، ويتميّزان كذلك بحذاقة في التنفيذ تظهر في صياغة أدّق تفاصيل ملامح كل منهما.

يذكر احد النقوش أن «لوجال ماجان»، أي عظيم ماجان، أرسل ذهباً إلى شولكي، ثاني ملوك سلالة أور الثالثة الذي حكم من 2049 إلى 2047 قبل الميلاد. ويربط دانيال بوتس بين قطع تل أبرق الذهبية وبين هذا الذهب، مستنداً إلى هذه الشهادة الأدبية، ويجعل من هذه القطع قطعاً ملكية ماجانية. في الخلاصة، يبرز كبش تل أبرق ووعلاه بأسلوبهما الفني الرفيع، ويشكّلان قطعتين لا نرى ما يماثلهما في ميراث مكتشفات تل أبرق الذي ضمّ مجموعة من البقايا الحيوانية، تُعد الأكبر في شبه الجزيرة العربية.

من هذا الموقع كذلك، عثرت البعثة الإيطالية في عام 2021 على مجموعة من اللقى، منها تمثال نحاسي صغير على شكل وعل، يبلغ طوله 8.4 سنتيمتر. يعود هذا التمثال إلى فترة زمنية مغايرة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث الميلادي، ويتميّز بطابعه الواقعي الذي يعكس أثراً هلنستياً واضحاً. يماثل هذا التمثال مجموعة كبيرة من القطع مصدرها جنوب الجزيرة العربية، كما يماثل قطعاً معدنية عُثر عليها في قرية الفاو، في الربع الخالي من المملكة السعودية.