قراران قاتلان اتخذهما النميري في أواخر عهده

الـ«سي آي إيه» تنبأت بسقوطه قبل عامين من الإطاحة به

الرئيس السوداني الراحل جعفر النميري يتوسط الرؤساء الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (يسار) والمصري الراحل أنور السادات والليبي الراحل معمر القذافي أثناء لقائهم مع السياسي السوفياتي أليكسي كوسيغن (غيتي)
الرئيس السوداني الراحل جعفر النميري يتوسط الرؤساء الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (يسار) والمصري الراحل أنور السادات والليبي الراحل معمر القذافي أثناء لقائهم مع السياسي السوفياتي أليكسي كوسيغن (غيتي)
TT

قراران قاتلان اتخذهما النميري في أواخر عهده

الرئيس السوداني الراحل جعفر النميري يتوسط الرؤساء الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (يسار) والمصري الراحل أنور السادات والليبي الراحل معمر القذافي أثناء لقائهم مع السياسي السوفياتي أليكسي كوسيغن (غيتي)
الرئيس السوداني الراحل جعفر النميري يتوسط الرؤساء الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (يسار) والمصري الراحل أنور السادات والليبي الراحل معمر القذافي أثناء لقائهم مع السياسي السوفياتي أليكسي كوسيغن (غيتي)

اعتقد محللو الاستخبارات أن الدوافع الشخصية والسياسية للرئيس السوداني الراحل جعفر النميري هي التي قادته إلى اتخاذ قرارات مثيرة دون مراعاة للعواقب المحتملة لسياسته، وأن قدرته على المحافظة على كرسيه أصبحت مهددة بدرجة كبيرة حال قرر مواصلة السير في الطريق نفسه، وما أوقع به كان اتخاذ قرارين، هما تطبيق الشريعة وتقسيم جنوب السودان، بحسب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.
ففي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1983، اشترك محللون من وكالة الاستخبارات المركزية مع زملاء لهم من استخبارات الجيش واستخبارات قوات البحرية واستخبارات القوات الجوية، لتقييم الوضع في السودان بعد أن أصدر الرئيس السوداني في ذلك الوقت جعفر نميري عددا من القرارات المثيرة للجدل، التي اعتبرتها الاستخبارات الأميركية مؤشرا خطرا لقرب زوال حليف مهم للولايات المتحدة في جزء مهم من العالم.
وخرجت الوكالات الاستخباراتية الأربع بتقييم وضع مؤلف من تسع صفحات تنبأت فيه بقرب سقوط نميري، وهو ما حدث بالفعل بعد أقل من عامين على صدور التقرير في انتفاضة شعبية ضده. ومن المصادفات أن العد التنازلي لرئاسة نميري أثناء وجوده في واشنطن في رحلة علاج.
ففي مارس (آذار) عام 1985، خرج السودانيون إلى الشوارع بتشجيع من النقابات والاتحادات والأحزاب للإعراب عن الغضب من النظام، فقرر نميري العودة إلى الخرطوم للعمل على إجهاض الانتفاضة ضده. وحين كان نميري في الجو عائدًا إلى بلاده، أعلن وزير دفاعه آنذاك، الفريق عبد الرحمن سوار الذهب، انحياز القوات المسلحة للشعب، فما كان من نميري إلا أن عدل عن العودة واضطر إلى تغيير وجهته إلى القاهرة التي اتخذ منها منفى دائما له حتى وفاته في عام 2000.
ومن غير المعروف عما إذا كانت الاستخبارات الأميركية قد أبلغت نميري بما هو مقبل عليه أثناء وجوده في واشنطن، أو ما إذا كان لديها معلومات محددة عما يخطط ضد الرجل، ولكن توقعات محلليها كانت تستند إلى أسباب أخرى قد لا يتفق معها أو في أجزاء منها الكثير من السودانيين الذين يدركون أكثر من غيرهم الأسباب المباشرة لسقوط نميري، ومع ذلك فإن الأسباب التي اعتمد عليها المحللون الأميركيون تستحق التأمل، خصوصا ما اعتبرته الاستخبارات الأميركية أخطر قرارين اتخذهما نمري في عهده، وأدت تداعياتهما إلى سقوطه.
لقد أجمع محللو الوكالات الأربع على أن أكثر قرارين إثارة للجدل في عهد نميري، هما إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية، وتقسيم جنوب السودان إلى ثلاثة أقسام، ورصد عملاء الاستخبارات الأميركية في الخرطوم مؤشرات التذمر في وقت مبكر؛ الأمر الذي دفع المحللين المسؤولين عن فرز المعلومات وتحويلها إلى استنتاجات جاهزة تقدم إلى مراكز اتخاذ القرار الأميركي، الذي يمكنه إشراك الحليف المعني بما لديه من معلومات إذا ما أراد ذلك.
ويجزم المحللون الأميركيون، في ذلك الوقت، بأن نطاق المشكلات التي باتت تواجه النميري، ستتسع، وأنه مقبل على تحديات هي الأخطر على نظامه منذ استيلائه على السلطة عام 1969.
واستدرك المحللون في تقريرهم بالقول إن الشهور المقبلة ستكشف مدى جدية النميري في تطبيق الشريعة الإسلامية ومدى تصميه على المضي قدما في إجراءاته بشأن تقسيم جنوب السودان؛ لأن الإجراءات العملية هي التي ستحدد مستوى المعارضة ضد حكومته لاحقا.
وأعتقد محللو الاستخبارات، أن الدوافع الشخصية والسياسية للنميري هي التي تقوده في هذا الاتجاه من دون مراعاة للعواقب المحتلمة لسياسيته، وأن قدرته على المحافظة على كرسيه ستصبح مهددة بدرجة كبيرة حال قرر مواصلة السير في الطريق نفسه. لكنهم لم يوضحوا ماهية تلك الدوافع الشخصية على وجه التحديد.
كما اعتقدوا أن الأحزاب السياسية والجماعات الجنوبية المعارضة المحظورة في عهد نميري تعمل على تشكيل جبهات مشتركة في مواجهة النظام. لكن التقرير يرجح أن تشكل الحساسيات والصراعات الشخصية، والدينية، والآيديولوجية عوائق أمام تكوين تحالفات حقيقية.
من جانب آخر، رصدت الاستخبارات الأميركية تحركات مصدرها ليبيا وإثيوبيا تهدف إلى زعزعة استقرار حكومة النميري، استغلالا للقلاقل التي تتسبب فيها أفعال النميري في الجنوب. وجاء في التقرير أن هاتين الدولتين تعملان على تشجيع المنشقين الجنوبيين المقيمين في إثيوبيا على زيادة الهجمات التي يقومون بها على جنوب السودان.
ووفقا للتقرير، تسببت إجراءات نميري المثيرة للجدل في زيادة حالة السخط في صفوف القوات المسلحة، خصوصا مع تردي الأوضاع الاقتصادية وتهالك الأسلحة والآليات التي يستخدمونها. وشكك التقرير في ولاء القوات المسلحة السودانية نميري، كما تنبأ أن يحجم الجيش عن الدفاع عن النميري حال قامت ضده احتجاجات شعبية أو تعرض لانقلاب عسكري. وهذا الاستنتاج تحقق بالفعل عندما أعلن سوار الذهب وقوفه إلى جانب الشعب في احتجاجاته ضد النميري.

أبرز التحديات أمام النميري
أصدر النميري عددا من القرارات المثيرة للجدل العام الجاري، مثل الكثير منها تحديا خطيرا لمنصبة. كان أهم تلك القرارات إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية، ووضع نهاية لوضع جنوب السودان باعتباره حالة خاصة أو منطقة مستقلة، ومن ضمن أسباب المشكلات أيضا المحاولات الفاشلة لنقل قوات عسكرية من الجنوب للشمال. غير أن تلك الخطوات قوبلت بالرفض من الكثير من السودانيين، وبخاصة في الجنوب، وربما دفعتهم إلى القيام بأنشطة معادية للنظام. غير أن جدية النميري في تطبيق الشريعة الإسلامية وإجراءاته المستقبلية تجاه الجنوب هي ما ستحدد رد الفعل تجاه سياساته. كذلك، على النميري أن يثبت للأعداد المتزايدة من المتشككين أنه بالفعل يمتلك القدرة والكفاءة على قيادة البلاد.
يعد جنوب السودان، غالبية سكانه من المسيحيين، الأعلى صوتا بين معارضي تطبيق الشريعة الإسلامية. وتسببت الإجراءات الحكومية في إحياء المخاوف القديمة من إحياء الهيمنة والتمييز العنصري من قبل الشمال المسلم. وعارض الكثير من القادة الجنوبيين، ومنهم من ساند النميري في سياساته في المنطقة في بداية حكمه، التحول إلى النمط الإسلامي. وفي أكتوبر (تشرين الأول) شارك آلاف عدة من الجنوبيين مسيرات احتجاجية بمدينة جوبا ضد القوانين الجديدة.
وشعر الكثير من الشماليين، حتى غير المتدينين، بقلق من تطبيق الإجراءات الجديدة، بيد أن اعتراضهم لم يتخذ شكلا عاما، وشملت الفئات الرافضة للنهج الجديد فئات من السودانيين العلمانيين، بعضهم في القوات المسلحة والمخابرات وأجهزة الأمن، وفي المستويات العليا في الجهاز المدني للدولة، وحتى المعارضة الهادئة استشعرت ضعف موقف النميري.
أبدت حكومات شقيقة للسودان بقلق من أن تتسبب حملة النميري لتطبيق الشريعة الإسلامية في إثارة القلاقل السياسية له، حيث ينصح أشقاء النميري العرب بإيجاد حكومة معتدلة في السودان. وقد شعر القادة المصريون بالغضب من عدم استشارة النميري لهم قبل الشروع فجأة في تطبيق الشريعة الإسلامية، بيد أنهم التزموا بمواصلة الدفاع عن السودان ضد أي اعتداء خارجي بالقوة نفسها.
وأكد نميري أيضا على الدور الكبير للشريعة الإسلامية في سياساته المقبلة. ومن شأن الإجراءات الجديدة، مثل تعيين قضاة إسلاميين في الجنوب، أو تشكيل هيئات استشارية إسلامية تابعة للحكومة أن تساهم في تفاقم الأوضاع.

مشاكل في الجنوب
- وصف قرار النميري في يونيو (حزيران) لتقسيم الجنوب إلى ثلاث مناطق صغيرة بصفته جزءا من برنامج يغطي الدولة بالكامل لتوزيع صلاحيات الحكومة المركزية وجعل الحكومات أكثر استجابة وقدرة على التنفيذ. بيد أن الخطة لقيت اعتراضات من قبيلة «الدنكة»، أكبر قبائل الجنوب، والتي تحكم سيطرتها على الحكومات بمختلف المناطق هناك منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1972. في حين رأت القبائل الأصغر من «الدنكة» الإجراءات محاولة من النميري لزرع الفرقة بتقسيم البلاد ليسهل له حكمها.
- حلت سلسلة من أحداث العنف بجنوب السودان عام 1983، ومن المحتمل تدهور الأوضاع هناك في الشهور القليلة المقبلة، وربما يتعرض الأميركيون والمصالح الأميركية هناك لهجمات عن طريق جماعات جنوبية منشقة، وسيصبح من الصعب تحديد المسؤول عن الهجمات الفردية في الجنوب.
- وإثر محاولات النميري فصل الجنوب، وبعد محاولات الحكومة إجبار بعض القوات الجنوبية على العمل في الشمال، حاولت المعارضة الشمالية تنظيم صفوفها في مواجهة النظام، واجتمع بعض الساسة الجنوبيين المعارضين وقادة الفصائل المنشقة والضباط الجنوبيين في إثيوبيا، وشكلوا جبهة جنوبية متماسكة في مواجهة النظام، ناهيك عن بعض الطوائف التي شرعت في إعادة تنظيم صفوفها، وكذلك المتمردون.
- كانت ليبيا وإثيوبيا على إدراك بحالة الهياج التي تسبب فيها النميري في الجنوب، وربما يرون الوضع الراهن فرصة ممتازة لزعزعة استقرار الحكومة السودانية.
- بات واضحا أن القوات المسلحة والشرطة السودانية غير مهيأين للتصدي لأي عمليات انشقاق بعد أن تراجعت معنويات المقاتلين إثر عمليات التبديل والإحلال التي تمت بإرسال مقاتلي الجنوب إلى الشمال بداية العام الجاري.
- ربما دفع تفاقم أحداث العنف في الجنوب الحكومة في الشهور القليلة القادمة إلى إرسال المزيد من القوات الشمالية، وهي الخطوة التي قد تسبب مشكلات في ظل حساسية الجنوبيين من تواجد القوات العربية على أرضهم.

الوضع الاقتصادي
- زادت الأزمات الاقتصادية من مشكلات السودان السياسية والأمنية. فبسبب قلة التمويل، باتت الحكومة عاجزة عن توفير الاحتياجات والخدمات الأساسية، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي بواقع 2 في المائة في العام المالي المنتهي في يونيو 1983. ورغم النجاح الذي حققته الحكومة في السيطرة على الموازنة العامة والعجز، فقد ارتفع معدل التضخم ليبلغ 41 في المائة.
– بلغت ديون السودان الخارجية 9 مليارات دولار، وهو مبلغ يفوق إجمالي الناتج المحلي لعام كامل، ولكي تسدد السودان ما عليها من التزامات مالية للدائنين، كان عليها أن تدفع نحو مليار دولار سنويا فوائد على الديون، وهو مبلغ يفوق إجمالي صادراتها السنوية.
- يتعين على السودان الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، لا لكي تكون مستعدة للوفاء بمتطلبات الصندوق عام 1984، لكن لتجنب التخلف عن التزاماتها لسنوات. لكن فرص إجراء تغييرات هيكلية تحتاج إليها البلاد على المدى البعيد لكي تتعافى اقتصاديا باتت باهتة

أهمية السودان ونظام النميري للولايات المتحدة
1 - يعد السودان أكبر دولة أفريقية من حيث المساحة، ويحتل موقعًا استراتيجيًا في الشرق الأوسط والقرن الأفريقي. وفي السنوات الأخيرة لعبت حكومة الرئيس جعفر النميري دورًا مهمًا في دعم جهود الولايات المتحدة لمنع تمدد النفوذ الليبي والسوفياتي في المنطقة، وكذلك في حماية طريق إمداد الولايات المتحدة باحتياجاتها النفطية.
2 - وفي مارس (آذار) 1981، عرضت الحكومة السودانية السماح للولايات المتحدة استخدام القواعد العسكرية السودانية، حيث وافق السودانيون العام الجاري رسميًا على السماح للولايات المتحدة بنشر معدات تابعة للقيادة العسكرية الأميركية بميناء بورت سودان، وكذلك سمح النميري بنشر طائرات «بوينغ» بميناء الخرطوم الجوي خلال فترة الأزمة مع تشاد الصيف الحالي.
3 - ساند النميري الأهداف السياسية للولايات المتحدة في المنطقة، منها اتفاق كامب ديفيد، وفي سبتمبر (أيلول) 1982، دعم مبادرة السلام الأميركية في الشرق الأوسط. في السودان استثمارات أميركية خاصة كبيرة، حيث يعمل عدد كبير من الشركات النفط الأميركية في مجال الاستكشافات وتنمية قطاع النفط في السودان.



في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.