قراران قاتلان اتخذهما النميري في أواخر عهده

الـ«سي آي إيه» تنبأت بسقوطه قبل عامين من الإطاحة به

الرئيس السوداني الراحل جعفر النميري يتوسط الرؤساء الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (يسار) والمصري الراحل أنور السادات والليبي الراحل معمر القذافي أثناء لقائهم مع السياسي السوفياتي أليكسي كوسيغن (غيتي)
الرئيس السوداني الراحل جعفر النميري يتوسط الرؤساء الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (يسار) والمصري الراحل أنور السادات والليبي الراحل معمر القذافي أثناء لقائهم مع السياسي السوفياتي أليكسي كوسيغن (غيتي)
TT

قراران قاتلان اتخذهما النميري في أواخر عهده

الرئيس السوداني الراحل جعفر النميري يتوسط الرؤساء الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (يسار) والمصري الراحل أنور السادات والليبي الراحل معمر القذافي أثناء لقائهم مع السياسي السوفياتي أليكسي كوسيغن (غيتي)
الرئيس السوداني الراحل جعفر النميري يتوسط الرؤساء الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (يسار) والمصري الراحل أنور السادات والليبي الراحل معمر القذافي أثناء لقائهم مع السياسي السوفياتي أليكسي كوسيغن (غيتي)

اعتقد محللو الاستخبارات أن الدوافع الشخصية والسياسية للرئيس السوداني الراحل جعفر النميري هي التي قادته إلى اتخاذ قرارات مثيرة دون مراعاة للعواقب المحتملة لسياسته، وأن قدرته على المحافظة على كرسيه أصبحت مهددة بدرجة كبيرة حال قرر مواصلة السير في الطريق نفسه، وما أوقع به كان اتخاذ قرارين، هما تطبيق الشريعة وتقسيم جنوب السودان، بحسب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.
ففي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1983، اشترك محللون من وكالة الاستخبارات المركزية مع زملاء لهم من استخبارات الجيش واستخبارات قوات البحرية واستخبارات القوات الجوية، لتقييم الوضع في السودان بعد أن أصدر الرئيس السوداني في ذلك الوقت جعفر نميري عددا من القرارات المثيرة للجدل، التي اعتبرتها الاستخبارات الأميركية مؤشرا خطرا لقرب زوال حليف مهم للولايات المتحدة في جزء مهم من العالم.
وخرجت الوكالات الاستخباراتية الأربع بتقييم وضع مؤلف من تسع صفحات تنبأت فيه بقرب سقوط نميري، وهو ما حدث بالفعل بعد أقل من عامين على صدور التقرير في انتفاضة شعبية ضده. ومن المصادفات أن العد التنازلي لرئاسة نميري أثناء وجوده في واشنطن في رحلة علاج.
ففي مارس (آذار) عام 1985، خرج السودانيون إلى الشوارع بتشجيع من النقابات والاتحادات والأحزاب للإعراب عن الغضب من النظام، فقرر نميري العودة إلى الخرطوم للعمل على إجهاض الانتفاضة ضده. وحين كان نميري في الجو عائدًا إلى بلاده، أعلن وزير دفاعه آنذاك، الفريق عبد الرحمن سوار الذهب، انحياز القوات المسلحة للشعب، فما كان من نميري إلا أن عدل عن العودة واضطر إلى تغيير وجهته إلى القاهرة التي اتخذ منها منفى دائما له حتى وفاته في عام 2000.
ومن غير المعروف عما إذا كانت الاستخبارات الأميركية قد أبلغت نميري بما هو مقبل عليه أثناء وجوده في واشنطن، أو ما إذا كان لديها معلومات محددة عما يخطط ضد الرجل، ولكن توقعات محلليها كانت تستند إلى أسباب أخرى قد لا يتفق معها أو في أجزاء منها الكثير من السودانيين الذين يدركون أكثر من غيرهم الأسباب المباشرة لسقوط نميري، ومع ذلك فإن الأسباب التي اعتمد عليها المحللون الأميركيون تستحق التأمل، خصوصا ما اعتبرته الاستخبارات الأميركية أخطر قرارين اتخذهما نمري في عهده، وأدت تداعياتهما إلى سقوطه.
لقد أجمع محللو الوكالات الأربع على أن أكثر قرارين إثارة للجدل في عهد نميري، هما إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية، وتقسيم جنوب السودان إلى ثلاثة أقسام، ورصد عملاء الاستخبارات الأميركية في الخرطوم مؤشرات التذمر في وقت مبكر؛ الأمر الذي دفع المحللين المسؤولين عن فرز المعلومات وتحويلها إلى استنتاجات جاهزة تقدم إلى مراكز اتخاذ القرار الأميركي، الذي يمكنه إشراك الحليف المعني بما لديه من معلومات إذا ما أراد ذلك.
ويجزم المحللون الأميركيون، في ذلك الوقت، بأن نطاق المشكلات التي باتت تواجه النميري، ستتسع، وأنه مقبل على تحديات هي الأخطر على نظامه منذ استيلائه على السلطة عام 1969.
واستدرك المحللون في تقريرهم بالقول إن الشهور المقبلة ستكشف مدى جدية النميري في تطبيق الشريعة الإسلامية ومدى تصميه على المضي قدما في إجراءاته بشأن تقسيم جنوب السودان؛ لأن الإجراءات العملية هي التي ستحدد مستوى المعارضة ضد حكومته لاحقا.
وأعتقد محللو الاستخبارات، أن الدوافع الشخصية والسياسية للنميري هي التي تقوده في هذا الاتجاه من دون مراعاة للعواقب المحتلمة لسياسيته، وأن قدرته على المحافظة على كرسيه ستصبح مهددة بدرجة كبيرة حال قرر مواصلة السير في الطريق نفسه. لكنهم لم يوضحوا ماهية تلك الدوافع الشخصية على وجه التحديد.
كما اعتقدوا أن الأحزاب السياسية والجماعات الجنوبية المعارضة المحظورة في عهد نميري تعمل على تشكيل جبهات مشتركة في مواجهة النظام. لكن التقرير يرجح أن تشكل الحساسيات والصراعات الشخصية، والدينية، والآيديولوجية عوائق أمام تكوين تحالفات حقيقية.
من جانب آخر، رصدت الاستخبارات الأميركية تحركات مصدرها ليبيا وإثيوبيا تهدف إلى زعزعة استقرار حكومة النميري، استغلالا للقلاقل التي تتسبب فيها أفعال النميري في الجنوب. وجاء في التقرير أن هاتين الدولتين تعملان على تشجيع المنشقين الجنوبيين المقيمين في إثيوبيا على زيادة الهجمات التي يقومون بها على جنوب السودان.
ووفقا للتقرير، تسببت إجراءات نميري المثيرة للجدل في زيادة حالة السخط في صفوف القوات المسلحة، خصوصا مع تردي الأوضاع الاقتصادية وتهالك الأسلحة والآليات التي يستخدمونها. وشكك التقرير في ولاء القوات المسلحة السودانية نميري، كما تنبأ أن يحجم الجيش عن الدفاع عن النميري حال قامت ضده احتجاجات شعبية أو تعرض لانقلاب عسكري. وهذا الاستنتاج تحقق بالفعل عندما أعلن سوار الذهب وقوفه إلى جانب الشعب في احتجاجاته ضد النميري.

أبرز التحديات أمام النميري
أصدر النميري عددا من القرارات المثيرة للجدل العام الجاري، مثل الكثير منها تحديا خطيرا لمنصبة. كان أهم تلك القرارات إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية، ووضع نهاية لوضع جنوب السودان باعتباره حالة خاصة أو منطقة مستقلة، ومن ضمن أسباب المشكلات أيضا المحاولات الفاشلة لنقل قوات عسكرية من الجنوب للشمال. غير أن تلك الخطوات قوبلت بالرفض من الكثير من السودانيين، وبخاصة في الجنوب، وربما دفعتهم إلى القيام بأنشطة معادية للنظام. غير أن جدية النميري في تطبيق الشريعة الإسلامية وإجراءاته المستقبلية تجاه الجنوب هي ما ستحدد رد الفعل تجاه سياساته. كذلك، على النميري أن يثبت للأعداد المتزايدة من المتشككين أنه بالفعل يمتلك القدرة والكفاءة على قيادة البلاد.
يعد جنوب السودان، غالبية سكانه من المسيحيين، الأعلى صوتا بين معارضي تطبيق الشريعة الإسلامية. وتسببت الإجراءات الحكومية في إحياء المخاوف القديمة من إحياء الهيمنة والتمييز العنصري من قبل الشمال المسلم. وعارض الكثير من القادة الجنوبيين، ومنهم من ساند النميري في سياساته في المنطقة في بداية حكمه، التحول إلى النمط الإسلامي. وفي أكتوبر (تشرين الأول) شارك آلاف عدة من الجنوبيين مسيرات احتجاجية بمدينة جوبا ضد القوانين الجديدة.
وشعر الكثير من الشماليين، حتى غير المتدينين، بقلق من تطبيق الإجراءات الجديدة، بيد أن اعتراضهم لم يتخذ شكلا عاما، وشملت الفئات الرافضة للنهج الجديد فئات من السودانيين العلمانيين، بعضهم في القوات المسلحة والمخابرات وأجهزة الأمن، وفي المستويات العليا في الجهاز المدني للدولة، وحتى المعارضة الهادئة استشعرت ضعف موقف النميري.
أبدت حكومات شقيقة للسودان بقلق من أن تتسبب حملة النميري لتطبيق الشريعة الإسلامية في إثارة القلاقل السياسية له، حيث ينصح أشقاء النميري العرب بإيجاد حكومة معتدلة في السودان. وقد شعر القادة المصريون بالغضب من عدم استشارة النميري لهم قبل الشروع فجأة في تطبيق الشريعة الإسلامية، بيد أنهم التزموا بمواصلة الدفاع عن السودان ضد أي اعتداء خارجي بالقوة نفسها.
وأكد نميري أيضا على الدور الكبير للشريعة الإسلامية في سياساته المقبلة. ومن شأن الإجراءات الجديدة، مثل تعيين قضاة إسلاميين في الجنوب، أو تشكيل هيئات استشارية إسلامية تابعة للحكومة أن تساهم في تفاقم الأوضاع.

مشاكل في الجنوب
- وصف قرار النميري في يونيو (حزيران) لتقسيم الجنوب إلى ثلاث مناطق صغيرة بصفته جزءا من برنامج يغطي الدولة بالكامل لتوزيع صلاحيات الحكومة المركزية وجعل الحكومات أكثر استجابة وقدرة على التنفيذ. بيد أن الخطة لقيت اعتراضات من قبيلة «الدنكة»، أكبر قبائل الجنوب، والتي تحكم سيطرتها على الحكومات بمختلف المناطق هناك منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1972. في حين رأت القبائل الأصغر من «الدنكة» الإجراءات محاولة من النميري لزرع الفرقة بتقسيم البلاد ليسهل له حكمها.
- حلت سلسلة من أحداث العنف بجنوب السودان عام 1983، ومن المحتمل تدهور الأوضاع هناك في الشهور القليلة المقبلة، وربما يتعرض الأميركيون والمصالح الأميركية هناك لهجمات عن طريق جماعات جنوبية منشقة، وسيصبح من الصعب تحديد المسؤول عن الهجمات الفردية في الجنوب.
- وإثر محاولات النميري فصل الجنوب، وبعد محاولات الحكومة إجبار بعض القوات الجنوبية على العمل في الشمال، حاولت المعارضة الشمالية تنظيم صفوفها في مواجهة النظام، واجتمع بعض الساسة الجنوبيين المعارضين وقادة الفصائل المنشقة والضباط الجنوبيين في إثيوبيا، وشكلوا جبهة جنوبية متماسكة في مواجهة النظام، ناهيك عن بعض الطوائف التي شرعت في إعادة تنظيم صفوفها، وكذلك المتمردون.
- كانت ليبيا وإثيوبيا على إدراك بحالة الهياج التي تسبب فيها النميري في الجنوب، وربما يرون الوضع الراهن فرصة ممتازة لزعزعة استقرار الحكومة السودانية.
- بات واضحا أن القوات المسلحة والشرطة السودانية غير مهيأين للتصدي لأي عمليات انشقاق بعد أن تراجعت معنويات المقاتلين إثر عمليات التبديل والإحلال التي تمت بإرسال مقاتلي الجنوب إلى الشمال بداية العام الجاري.
- ربما دفع تفاقم أحداث العنف في الجنوب الحكومة في الشهور القليلة القادمة إلى إرسال المزيد من القوات الشمالية، وهي الخطوة التي قد تسبب مشكلات في ظل حساسية الجنوبيين من تواجد القوات العربية على أرضهم.

الوضع الاقتصادي
- زادت الأزمات الاقتصادية من مشكلات السودان السياسية والأمنية. فبسبب قلة التمويل، باتت الحكومة عاجزة عن توفير الاحتياجات والخدمات الأساسية، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي بواقع 2 في المائة في العام المالي المنتهي في يونيو 1983. ورغم النجاح الذي حققته الحكومة في السيطرة على الموازنة العامة والعجز، فقد ارتفع معدل التضخم ليبلغ 41 في المائة.
– بلغت ديون السودان الخارجية 9 مليارات دولار، وهو مبلغ يفوق إجمالي الناتج المحلي لعام كامل، ولكي تسدد السودان ما عليها من التزامات مالية للدائنين، كان عليها أن تدفع نحو مليار دولار سنويا فوائد على الديون، وهو مبلغ يفوق إجمالي صادراتها السنوية.
- يتعين على السودان الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، لا لكي تكون مستعدة للوفاء بمتطلبات الصندوق عام 1984، لكن لتجنب التخلف عن التزاماتها لسنوات. لكن فرص إجراء تغييرات هيكلية تحتاج إليها البلاد على المدى البعيد لكي تتعافى اقتصاديا باتت باهتة

أهمية السودان ونظام النميري للولايات المتحدة
1 - يعد السودان أكبر دولة أفريقية من حيث المساحة، ويحتل موقعًا استراتيجيًا في الشرق الأوسط والقرن الأفريقي. وفي السنوات الأخيرة لعبت حكومة الرئيس جعفر النميري دورًا مهمًا في دعم جهود الولايات المتحدة لمنع تمدد النفوذ الليبي والسوفياتي في المنطقة، وكذلك في حماية طريق إمداد الولايات المتحدة باحتياجاتها النفطية.
2 - وفي مارس (آذار) 1981، عرضت الحكومة السودانية السماح للولايات المتحدة استخدام القواعد العسكرية السودانية، حيث وافق السودانيون العام الجاري رسميًا على السماح للولايات المتحدة بنشر معدات تابعة للقيادة العسكرية الأميركية بميناء بورت سودان، وكذلك سمح النميري بنشر طائرات «بوينغ» بميناء الخرطوم الجوي خلال فترة الأزمة مع تشاد الصيف الحالي.
3 - ساند النميري الأهداف السياسية للولايات المتحدة في المنطقة، منها اتفاق كامب ديفيد، وفي سبتمبر (أيلول) 1982، دعم مبادرة السلام الأميركية في الشرق الأوسط. في السودان استثمارات أميركية خاصة كبيرة، حيث يعمل عدد كبير من الشركات النفط الأميركية في مجال الاستكشافات وتنمية قطاع النفط في السودان.



واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».