في خطاب الوداع الذي وجهه إلى الأمة عام 1989، سرد الرئيس رونالد ريغان قصة جندي بالبحرية الأميركية كان يقوم بدورية في بحر الصين الجنوبي ورأى «قاربا صغيرًا مثقوبًا» يتكدس به لاجئون من إقليم الهند الصينية يحاولون الوصول إلى أميركا.
وصرخ أحد الرجال على متن القارب في اتجاه السفينة التابعة للبحرية الأميركية: «مرحبًا، أيها البحار الأميركي. مرحبًا يا رجل الحرية». ولم يستطع ريغان محو هذه اللحظة من ذاكرته لما تعكسه عما كانت الولايات المتحدة تجسده لمن كانوا يعيشون هناك وباقي أرجاء العالم.
إلا أن التاريخ يكشف أنه في الوقت الذي انتقلت الولايات المتحدة من سياسات الهجرة المقيدة منذ قرن مضى إلى سياسة الباب المفتوح أمام اللاجئين التي أقرها ريغان، تأرجح الرأي العام حيال هذه القضية. ويأتي قرار ترمب، الجمعة، لمنع المقيمين في سبع دول ينتمي غالبية سكانها إلى المسلمين من دخول الولايات المتحدة ليعيد البلاد لفترة اعتادت خلالها الحكومة الأميركية منع دخول لاجئين أو مهاجرين من دول كانت تنظر إلى شعوبها باعتبارها أدنى منزلة، أو خطيرة، أو غير متوافقة مع القيم الأميركية.
ويشكل هذا القرار التنفيذي من جانب ترمب المرة الأولى التي يسعى رئيس أميركي لمنع دخول أشخاص إلى البلاد بسبب جنسياتهم أو دينهم، منذ صدور قانون الهجرة والمواطنة عام 1965 الذي ألغى الحصص المعتمدة على المواطنة الأصلية، مع تحويل بؤرة الاهتمام بدلاً عن ذلك إلى مهارات اللاجئين وصلاتهم الشخصية بالأميركيين.
عن ذلك، قال ديفيد بير، الذي يعكف على دراسة سياسة الهجرة بمعهد «كاتو»: «يعتبر هذا تحولاً نوعيًا، ويأتي بمثابة رفض صريح للتوجه الذي اتبعه كل من جورج دبليو. بوش وباراك أوباما، الذي ركز في جزء كبير منه على اجتذاب حلفاء في الحرب ضد الإرهاب من خلال توضيح أننا لا نشن حربًا ضد الإسلام وإظهار أننا مجتمع منفتح على المسلمين».
في الواقع، إن التاريخ الأميركي هو مزيج من أمة من المهاجرين والأبواب المفتوحة والبوابات المغلقة وأجيال من السياسيين والنشطاء الذين يدّعون أن القيم الأميركية ستقوض إذا ما سمح بتدفق الأجانب إلى داخل البلاد.
في هذا الصدد، شرح روجر دانييلز، المؤرخ المعني بتاريخ الهجرة الأميركية والبروفسور لدى جامعة سيسيناتي، أنه «كل من السياسات المرحبة بالهجرة والأخرى المقيدة لها نالت معدلات تأييد كبيرة في استطلاعات الرأي عبر الأعوام. في أوقات الاضطرابات، نالت السياسات التي يصفها ترمب بـ(أميركا أولاً) بتأييد أكبر. ومنذ الحقب الاستعمارية، ظل هناك تيار قوي لمثل هذا التوجه كان يهيمن على الساحة أحيانًا ويتعرض للتجاهل في أحيان أخرى».
في عام 1924، أعلن الرئيس كالفين كوليدج بينما كان يوقع على قانون ينهي أكبر موجة هجرة في تاريخ الولايات المتحدة: «يجب أن تبقى أميركا أميركية». واستغل القانون الجديد «علم» تحسين النسل لفرض قيود شديدة على دخول فئات اعتبرتها الحكومة «غير لائقة اجتماعيًا»، وهي فئات الإيطاليين ويهود شرق أوروبا. في ذات العام، أعلن الرئيس ذاته «تمثال الحرية» نصبًا وطنيًا. وبعد أربعة عقود، انتقل الرئيس ليندون بي. جونسون إلى التمثال للتوقيع على قانون ما يزال يشكل أساس سياسة الهجرة الأميركية وهو قانون عام 1965، الذي قال عنه جونسون إنه: «يصحح إجراء خاطئا قاسيا استمر لفترة طويلة... على امتداد أكثر من أربعة عقود، اتسمت سياسة الهجرة الأميركية بالالتواء والتشوه بسبب الظلم البين المتمثل في نظام الحصص تبعًا للأصل الوطني. في ظل ذلك النظام، اعتمدت قدرة المهاجرين الجدد على الدخول إلى الولايات المتحدة على بلد المولد الخاص بهم. اليوم... ألغي هذا النظام».
من ناحية أخرى، يرى بير وآخرون أن القرار الأخير من جانب ترمب غير قانوني لسعيه لاستعادة الجنسيات والبلد الأصلي كعامل محدد في تقرير من يسمح له بدخول البلاد. من جهتها، تؤكد إدارة ترمب أن الرئيس يملك سلطة تجميد دخول أي فئة يرى أنها تضر بالأمن الوطني.
الملاحظ أن القضية انتقلت إلى ساحات القضاء، في وقت يعود الجدال حول كيف ينبغي تحديد من يسمح له بدخول الولايات المتحدة إلى قرون مضت وشكل قضية ساخنة في الانتخابات الرئاسية والمحلية على امتداد عقود عدة. ورغم أن كل الرؤساء الذين تعاقبوا على الولايات المتحدة منذ فرنكلين دي. روزفلت أيدوا السماح للمهاجرين الفارين من اضطهاد سياسي أو ديني بدخول الولايات المتحدة، فإن هؤلاء الرؤساء ناضلوا للدفاع عن مثل هذه السياسات في مواجهة أصوات قوية تدعو لفرض قيود أشد صرامة على الوافدين الجدد إلى البلاد.
عند اقتراب الحرب العالمية الثانية من نهايتها، قرر روزفلت، بعد فترة طويلة من مقاومة مناشدات والتماسات اليهود الأميركيين الهاربين من الإبادة النازية، السماح لألف لاجئ بدخول البلاد، وتم إيواؤهم في قاعدة عسكرية في شمال مدينة نيويورك. وقال دانييلز: «كانت هذه بداية تدخل السلطة الرئاسية في السياسة الخاصة بالهجرة. واستمر التدخل على هذا النحو منذ ذلك الحين».
يتناقض تركيز ترمب على منع الناس القادمين من الدول الإسلامية، وتوفير استثناءات للمسيحيين الهاربين من تلك الدول «مع كل ما قمنا به منذ أرسى كل من روزفلت، وترومان، وأيزنهاور، نهجنا في التعامل مع اللاجئين» بحسب ما قال دانييلز.
ولعل من المفارقة ألا يكون هناك قيود على بوابات دخول الولايات المتحدة أثناء الحرب. وقام جورج بوش الابن بزيادة تدفق اللاجئين إلى البلاد خلال نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة تعبيرًا عن شكره للأشخاص الذين ساعدوا القوات الأميركية في العراق، وأفغانستان، وكدلالة على جديته فيما يتعلق بمحاربة الإرهاب لا الإسلام.
وأدت الصعوبات الاقتصادية أحيانًا إلى تعالي الأصوات الداعية إلى وضع المزيد من القيود على الهجرة، والسياسات الخاصة باللاجئين، على حد قول المؤرخين، لكن كان تنامي مشاعر ينبع من هجوم ثقافي ارتدادي أكثر من كونه نابعًا من الأوقات الصعبة أو الحروب. فعلى سبيل المثال تم سنّ قانون عام 1924، الذي يتضمن قيودًا: «خلال فترة العشرينات التي شهدت نموًا اقتصاديا مذهلا» كما يشير بيير.
ومنذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى ثلاثينات القرن العشرين، كان الاعتقاد الشعبي في مبحث تحسين النسل، إلى جانب التنافس والخصومة بين الجماعات الدينية المختلفة، هو ما يغذي الحركات التي استهدفت الكاثوليك، واليهود، والأوروبيين الشرقيين، والآسيويين، والأفارقة. ويقول بيير: «لقد كانت حركة الحقوق المدنية في ستينات القرن الماضي هي التي غيرت هذا النهج». بعد صدور قانون الحقوق المدنية عام 1964، الذي وضع نهاية للفصل العنصري، ومنع التمييز في التوظيف على أساس العرق، أو الديانة، أو القومية، بدت فكرة الاعتراف بالمهاجرين على أساس البلد القادمين منه فكرة قديمة عفى عليها الزمن.
في ثمانينات القرن الماضي، تمحور الجدل الخاص بالهجرة حول الهجرة غير الشرعية. وكان ما يوجه سياسات تلك الفترة هو فكرة أن توسيع نطاق الطرق القانونية لدخول البلاد قد يساعد في الحد من وتيرة الدخول غير الشرعي. مع ذلك لم يجدِ الأمر نفعًا، واستمرت معركة الهجرة غير الشرعية.
ورأى بعض النشطاء المناهضين للهجرة أن المشكلة لم تكن تقتصر على الهجرة غير الشرعية، بل امتدت إلى كل الوافدين الجدد. وواصل هؤلاء النشطاء التركيز على الجرائم التي يرتكبها الأجانب غير الحاصلين على الجنسية، وتضمنت حملة ترمب الانتخابية هذا الموضوع، مسلطة الضوء على قصص أميركيين فقدوا أحباءهم الذين قُتلوا على أيدي مهاجرين.
نجح ذلك النهج في كسب دعم النشطاء، الذين لم يكونوا يسعون فقط وراء بناء جدار على طول الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة الأميركية، ولكن أيضًا وراء خفض وتيرة الهجرة الشرعية بشكل كبير.
ورحب مارك كريكوريان، المدير التنفيذي لمركز دراسات الهجرة، الذي يستهدف سياسات «هجرة منخفضة»، بآخر تحركات ترمب، لكنه أشار إلى أن الفعل التنفيذي لا يكفي، حيث ذكر على مدونته أن الحد من الهجرة القانونية، وهو أهم هدف من منظور الوظائف، أو الرفاهة، أو حتى الأمن، يجب أن يأتي من الكونغرس.
أما بيير، فقال: «نحن نرى الشعبوية تسيطر على السياسة الخاصة بالهجرة للمرة الأولى» منذ الحرب العالمية الثانية. وأضاف قائلا: «ليس لديك حاليًا قادة في السياسة عازمين على القول إننا نرحب بالأشخاص الهاربين من أعداء الولايات المتحدة».
وبدأ ريغان خطاب وداعه وأنهاه بالتماسات قوية موجهة لبلده بفتح أبوابها. كانت «المدينة المتألقة على تل»، التي أراد أن تكونها أميركا، هي مكان «يعجّ بالناس من جميع الأجناس الذين يعيشون في سلام ووئام... وإذا كان لا بد من وجود جدران للمدينة، فينبغي أن يكون بتلك الجدران أبواب مفتوحة لكل من لديه الرغبة في الدخول إلى هنا».
* خدمة «واشنطن بوست»
خاص بـ«الشرق الأوسط»
مراحل تطور سياسة الهجرة الأميركية
من فرنكلين روزفلت مرورا برونالد ريغان ووصولا إلى دونالد ترمب
مراحل تطور سياسة الهجرة الأميركية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة
