سلوى روضة شقير تفتح باب الاجتهاد حول رحلتها الشيقة

برحيلها عن مائة عام رائدةً للنحت العربي

سلوى روضة شقير في مشغلها
سلوى روضة شقير في مشغلها
TT

سلوى روضة شقير تفتح باب الاجتهاد حول رحلتها الشيقة

سلوى روضة شقير في مشغلها
سلوى روضة شقير في مشغلها

لم ترحل الفنانة التشكيلية اللبنانية الرائدة سلوى روضة شقير مغبونة. جاءها الاعتراف متأخرًا، لكنه كان كبيرًا ومدويًا. لسوء الحظ، يوم بدأ العالم يكتشفها كانت قد دخلت تسعيناتها وأخذت تغرق في عالم النسيان، ويسرقها ألزهايمر. معرضها الاستعادي في «مركز بيروت للمعارض» عام 2011 كان مفصليًا، بعدها بعامين فقط، كانت أعمالها في «تيت مودرن» في لندن موعدها الحقيقي للدخول إلى العالمية التي كانت تعرف أنها تستحقها. وتقول إنها لو بقيت في باريس لنالتها منذ زمن بعيد. في يونيو (حزيران) الماضي احتفى لبنان بمئوية نحاتته الرائدة، بأن عرض «متحف سرسق» مجموعة من أعمالها في باحته، وعُقدت جلسة نقاش حول إبداعاتها وريادتها وروحها التجديدية.
هذه الثائرة العنيدة التي درست العلوم الطبيعية ومنها انطلقت إلى التشكيل، بقيت تجمع في أعمالها بين نظرتها الرياضية ومعرفتها في الفيزياء، وعشقها للجماليات وأصالتها وانتمائها إلى بيئتها ومحيطها وشغفها بالفن الإسلامي الذي بقي يصبغ أعمالها شديدة الحداثة حد الغموض بالنسبة لعصرها. هذا ربما ما ظلم الفنانة في بداياتها.
البيروتية التي ولدت عام 1916، وتعلمت في الجامعة الأميركية، تعرفت على مصطفى فروخ وعمر الأنسي، وهما كبيران في الرسم اللبناني، لكن واقعيتهما وكلاسيكيتهما لم تكن هواها. عملت شقير سنة 1944 أمينة مكتبة في الجامعة الأميركية في بيروت، وأنشأت أول معهد للفن التجريدي في لبنان عام 1947. حين ذهبت للعمل خارج بلادها وزارت مصر، تعرفت على العمارة الإسلامية وفنونها التي ستستقر في نفسها وتصبغ أعمالها. ثم سافرت إلى باريس عام 1948 وبقيت فيها لـ3 سنوات ونيف لتصبح من أولئك الأوائل الذين شكلوا جسر الانفتاح على الفن الغربي بين لبنان وأوروبا. درست هناك في معهد الفنون الجميلة. تعلمت الحفر والنحت، والتحقت بمعهد «جراند شوميير للرسم» ومحترف الفنان ليجيه فرنارد، تعرفت على فنانين كبار، وأقامت معارض عدة من بينها ذاك الذي نظم في «غاليري كوليت الندي» المعني بالفن التجريدي. لم تطل الإقامة الباريسية، عودتها إلى بيروت، ومعرضاها اللذان أقامتهما، لفتا النخبة، وعرّفا النقاد بها. لكنها ستبقى لفترة طويلة بعيدة عن الذائقة العامة.
يتذكر صديقها الناقد سيزار نمور وهو يتحدث عنها «أنه حين أقام لها معرضًا في (غاليري كونتكت) الذي كان يديره، وكان ذلك منذ ما يقارب 20 سنة، ومعرضًا ثانيًا بمشاركة فنان آخر لم تكن أعمالها تجد إقبالاً». هذا الصدود لم يشجع على تنظيم معارض لها، خصوصًا أنها لم تكن تسعى بنفسها إلى ذلك.
رسمت في البدايات لكنها اشتهرت بنحتها. أعمالها في غالبيتها من الخشب والبرونز ومن الحجم الصغير. كانت تنحت بيدها، تشتغل كأنما تصيغ تحفًا، بآلات متواضعة. «هكذا هم النحاتون المدنيون، عكس الذين يعيشون في القرى. منحوتاتهم تتلاءم والأماكن التي يعيشون فيها في الحجم والمادة، حيث لا مساحات كبيرة، ولا إمكانية للنحت في الصخر وذرّ الغبار». عمدت الفنانة إلى تكبير بعض أعمالها، وثمة من أخذ على عاتقه أحيانًا هذه المهمة. «لكنها كانت تشعر دائمًا بأنها لم تعط حقها كالنحات ألفريد بصبوص مثلاً، الذي أحبه الناس وكان أقرب إلى مزاجهم، بسبب وجود الإنسان في أعماله. كان ثمة شيء من التجسيد فيما ينحت»، يقول سيزار نمور. منحنيات روضة، رؤيتها الهندسية، تجريديتها عينها التي تنفر من الزخرف، لم تدرك كما كانت تتمنى.
لكنها «رائدة الفنون الحديثة في العالم العربي. وأول من تجرأ وغامر بخوض التجريد رسمًا ونحتًا»، يقول النحات اللبناني إبراهيم ذود. «في أعمالها تنوع دونما الخروج عن قناعاتها في الحداثة. أدخلت التكعيب التركيبي في بناء العمارة النحتية. وواظبت على طليعيتها إلى آخر أعمالها».
انصرفت سلوى روضة شقير للعمل، لم تكن تعبًا كثيرًا بالعلاقات التي كان يمكنها أن تلمع صورتها. «كانت تبدو كتومة ومحافظة لمن يعرفها عن بعد، لكن المقربين منها يدركون كم أنها كانت متمردة حتى حين تدخل إلى المطبخ وتحضر أطباقها على طريقتها». وتقول: «وهل علينا أن نعد الطعام على طريقة الآخرين؟».
فنانة المعادلات المحسوبة بعناية، عاشقة الهندسة، الساعية أبدًا إلى التفكيك والتركيب، المؤمنة بأن الطريق إلى الشكل يمر بالصوفية، الهاربة باستمرار من القيود، الباحثة باستمرار عن التناغم، والمصممة على أن تكون هي، كما تريد، الذاهبة إلى القصيدة والكلمة. كان من الصعب على الجمهور العريض أن يدرك هذه الخلطة الفنية التي لا تشبه غيرها. إنها تنتمي إلى تيار الحداثة العربي المبكر في الأربعينات وسرى في الأدب كالصاعقة في الستينات، وبقي في الفنون التشكيلية خجولاً، لكن سلوى كانت في تلك الفترة استثناء جميلاً.
سلوى روضة شقير رحلت عن مائة عام، وبرحيلها فتحت الأبواب على اجتهادات جديدة حول رحلتها الإبداعية الشيقة، عبر عماراتها وإكسسواراتها، ونسائها، ومكعباتها، وتصميماتها، وحتى رسوماتها الأولى.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.