وثائق ملكية تكشف أسرار «ملك بريطانيا المجنون»

جورج الثالث تنحى في رسالة لم يسلمها... وعارض استقلال أميركا

لوحة رسمت عام 1771 للملك جورج الثالث  -  رسالة كتبها الملك جورج الثالث عن المفاوضات  مع أميركا بعد حرب الاستقلال - صورة لرسالة من الأرشيف الملكي البريطاني  كتبها الملك جورج الثالث عام 1783 تتحدث عن تنحيه  (أ.ب) (أ.ف.ب)
لوحة رسمت عام 1771 للملك جورج الثالث - رسالة كتبها الملك جورج الثالث عن المفاوضات مع أميركا بعد حرب الاستقلال - صورة لرسالة من الأرشيف الملكي البريطاني كتبها الملك جورج الثالث عام 1783 تتحدث عن تنحيه (أ.ب) (أ.ف.ب)
TT

وثائق ملكية تكشف أسرار «ملك بريطانيا المجنون»

لوحة رسمت عام 1771 للملك جورج الثالث  -  رسالة كتبها الملك جورج الثالث عن المفاوضات  مع أميركا بعد حرب الاستقلال - صورة لرسالة من الأرشيف الملكي البريطاني  كتبها الملك جورج الثالث عام 1783 تتحدث عن تنحيه  (أ.ب) (أ.ف.ب)
لوحة رسمت عام 1771 للملك جورج الثالث - رسالة كتبها الملك جورج الثالث عن المفاوضات مع أميركا بعد حرب الاستقلال - صورة لرسالة من الأرشيف الملكي البريطاني كتبها الملك جورج الثالث عام 1783 تتحدث عن تنحيه (أ.ب) (أ.ف.ب)

قرر القصر الملكي البريطاني أمس، وللمرة الأولى، كشف النقاب عن مجموعة وثائق ضخمة عن عهد آخر ملوك بريطانيا الذين حكموا أميركا. وكشف القصر أنه بالتعاون مع مشروع الأوراق الجورجي الذي أطلقته الملكة إليزابيث الثانية في أبريل (نيسان) 2015، أنه سيتم الكشف عن 350 ألف وثيقة تعود إلى الحقبة الزمنية من عام 1714 إلى 1837 بحلول عام 2020. وجرى نشر 33 ألف وثيقة منها يوم أمس، ومعظم الوثائق تتناول فترة حكم الملك جورج الثالث (1760 - 1820) الذي لقب بالمجنون أو المضطرب عقليا الذي رجح الباحثون فيما بعد أنه كان يعاني من الاضطراب الوجداني ثنائي القطب (Bipolar).
اطلعت «الشرق الأوسط» على الوثائق المنشورة ووجدت أن أهمها مسودة خطاب التنحي التي كتبها الملك جورج الثالث بخط يده ولم يرسلها أبدا. وتمتلئ مسودة الخطاب بالبقع والشطب والتصحيحات. وقد كتبت خلال فترة شهدت أزمة سياسية في مارس (آذار) من عام 1783 في نهاية حرب الاستقلال الأميركية.
وجاء في الخطاب الذي لم يرسله الملك «لذا عقدت العزم على التخلي عن تاجي وكل السلطات المتعلقة بي لأمير ويلز أكبر أبنائي والوريث الشرعي».
إلى جانب رسالة كتبها الملك جورج الثالث عن المفاوضات مع أميركا بعد حرب الاستقلال وفي سطورها: «أميركا باتت ضائعة وهل ممكن أن نستردها بعدما ضاعت منا؟». وتضمنت الوثائق رسالة كتبتها زوجة جورج الثالث الملكة تشارلوت إلى جليسة الطفل الأصغر الأمير ألفريد بعدما غيبته حمى قاسية في ربيعه الثاني. وكتبت الملكة: «أريد أن أشكرك على رعايتك المميزة للأمير ألفريد، وأرفق لك خصلة ذهبية من شعره لتحتفظي بها».
واحتوت الوثائق على إثباتات اضطراب الملك النفسية، وهدد في كتاباته أنه ستنتابه حالة من «الجنون» إن لم يحصل على مراده. وكانت الملكة على علم بحالة زوجها واعتقدت أن الاستحمام المتكرر سيشفي جورج، وفي الوثائق رسائل كتبتها تشارلوت توثق كل المرات التي استحم بها زوجها. وتتضمن الوثائق الأخرى رسائل شخصية بين الملك جورج وزوجته تشارلوت وفواتير منزلية، وعددا هائلا من الرسائل بين الملك والحكومة وبها ملاحظات تفصيلية عن الحرب في أميركا. كما تتضمن أيضا كتيب تعليمات من والد جورج بشأن الملكية. هذه الوثيقة تعود إلى عام 1748، كتبها أمير ويلز فريدريك لابنه جورج كشفت العلاقة التي كانت تربطهما حينها. وفي الرسالة يطلب فريدريك من ابنه جورج الذي لم يتعد سن العاشرة آنذاك أن يتحلى بالسلوك الملكي في جميع الأمور التي ستواجهه في الحياة. واستطرد: «أعلم أنك ستكون دوما كامل الاحترام لوالدتك، وأنك عندما ستصبح ملكا ستفعل كل ما في وسعك لحماية مصلحة عائلتك والبلاد». ومن بين الوثائق 24 كتابا ضخما عن تفاصيل المآدب الملكية من عام 1815 إلى عام 1837. وتشمل قوائم الطعام التي قدمت للحضور المخملي بعد تتويج الملك جورج الرابع (نجل جورج الثالث الأكبر) في 19 يوليو (تموز) من عام 1821 في قاعة ويستمنستر. وجرى تحضير وتقديم كل طبق بحرفية وإتقان ليكون منظر المأدبة جذابا للعيون يليق بالحدث الملكي الضخم، واحتوت قائمة الأطعمة على طبق الدجاج، وطبق اللحم المفروم مع الصلصة البيضاء، والأرانب.
يذكر أن الملك جورج الثالث أطول الملوك جلوسا على العرش في بريطانيا، وكان ذلك من 1760 وحتى 1820. وكان مخلصا لزوجته الملكة تشارلوت وأنجبا 15 طفلا، ومات اثنان في سن مبكرة جراء المرض. كان جورج أول ملك لبريطانيا درس العلوم واهتم بالثقافة والأدب العالمي، وكانت مكتبته مكتظة بكتب متنوعة إذ كان قارئا نهما.
وفي عام 1761 اشترى الملك جورج الثالث منزل باكنغهام لزوجته الذي بات يعرف اليوم بقصر باكنغهام الشهير.
وقد عانى من مشكلات صحية في الفترة الأخيرة من حياته. خصوصا بين عام 1788 و1789 وعاودت النوبات لتضعفه عام 1801. ومن بعدها، تدهورت حالته النفسية والعقلية وبات «مختلا» وغير قادر على حكم البلاد، لذلك تسلم ابنه الأكبر الحكم عام 1811.
وهو ما تم توثيقه في فيلم «ذا مادنيس أوف كينغ جورج» أو (جنون الملك جورج) الذي تم إنتاجه عام 1994 وحاز على عدد من الجوائز. وكان ولي العهد الحالي الأمير تشارلز قد قال إن التاريخ ظلم الملك جورج الثالث حين وصمه بالجنون وبأنه الملك الذي فقد أميركا، في حين أنه من أكثر ملوك بريطانيا ثقافة ومن أكثر من أسيء فهمهم أيضا.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)