ليندسي لوهان تسجل عودة «رسمية» لتركيا و«رمزية» للاجئين السوريين

استقبلها إردوغان وزوجته ورافقتها طفلة «تويتر» السورية

إردوغان وزوجته لدى استقبالهما ليندسي لوهان وبصحبتها الطفلة السورية بانا العابد (إ.ب.أ)
إردوغان وزوجته لدى استقبالهما ليندسي لوهان وبصحبتها الطفلة السورية بانا العابد (إ.ب.أ)
TT

ليندسي لوهان تسجل عودة «رسمية» لتركيا و«رمزية» للاجئين السوريين

إردوغان وزوجته لدى استقبالهما ليندسي لوهان وبصحبتها الطفلة السورية بانا العابد (إ.ب.أ)
إردوغان وزوجته لدى استقبالهما ليندسي لوهان وبصحبتها الطفلة السورية بانا العابد (إ.ب.أ)

عادت نجمة هوليوود الأميركية ليندسي لوهان إلى تركيا مرة أخرى، وهذه المرة حملت زيارتها الثانية، التي جاءت بعد نحو أربعة أشهر من زيارتها الأولى، طابعًا أكثر رسمية عن زيارتها الأولى في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي التي خصصتها للاجئين السوريين، حيث زارت مخيماتهم في غازي عنتاب وسط استقبال من مسؤولي الولاية التي تقع جنوب تركيا، ثم زارت إحدى العائلات السورية في إسطنبول.
أما في زيارتها الثانية فاستقبلها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وزوجته أمينة إردوغان حيث أهدتهما قلادة تحمل شعار «العالم أكبر من خمس»، وهو شعار يرمز إلى أن مصير العالم أكبر من أن يُترك تحت تصرّف الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن، ولطالما ردده الرئيس التركي في خطاباته وتصريحاته في كثير من المناسبات، كدعوة إلى ضرورة إصلاح الأمم المتحدة ومجلس الأمن.

استقبال معتم إعلاميًا
واستقبل إردوغان وزوجته ليندسي لوهان التي رافقتها الطفلة السورية بانا العابد (7 أعوام)، في القصر الرئاسي بالعاصمة أنقرة، بعيدًا عن الإعلام. فيما نشر المكتب الإعلامي للرئاسة التركية صور الاستقبال وخبرًا صغيرًا عنه لاحقًا.
وسبق أن استقبل إردوغان وزوجته الطفلة السورية بانا العابد وأسرتها بعد نقلهم إلى تركيا، حيث كانت تنقل بمساعدة والدتها أخبار مجازر النظام السوري وداعميه أثناء حصار أحياء حلب الشرقية إلى العالم عبر شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة، وناشدت وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في رسالة عبر «تويتر» عدم ترك أطفال حلب عرضة للقتل، وتفاعل معها واعدًا إياها ببذل كل جهد ممكن لوقف إطلاق النار، وإجلاء المدنيين من شرق حلب، وبعدها تم نقلها وأسرتها إلى تركيا.
وفي أكتوبر الماضي، أجرت لوهان زيارة للاجئين السوريين في مدينة إسطنبول، والتقت عددًا منهم في مركز صحي تابع لإحدى الجمعيات المعنية بتقديم خدمات لهم، كما قامت بزيارة لغازي عنتاب أثارت خلالها الجدل بوضع غطاء رأس، مما فتح الباب أمام كثير من الشائعات حول اعتناقها الإسلام وارتداء الحجاب، وأكدت خلال الزيارة أن «العالم أكبر من خمس»، في إشادة بدور تركيا في مساعدة اللاجئين رغم عدم اكتراث العالم بهم، بحسب قولها آنذاك.
وقالت في ذلك الوقت إن «تركيا قامت بما عجزت عنه كثير من دول العالم، 5 دول عظمى (صاحبة حق النقض) وعدت لكنها أخلفت وعودها، هناك من يخاف من المجيء إلى تركيا بسبب الحملات الموجهة ضدها، لكنني أشعر بارتياح كبير هنا». وسعى إردوغان أكثر من مرة من خلال ترديده عبارة «العالم أكبر من خمس» لتسليط الضوء على ضرورة إصلاح الأمم المتحدة، وعدم ترك مصير العالم بيد الدول الخمس دائمة العضوية، وهي الولايات المتحدة، وروسيا وبريطانيا، والصين، وفرنسا.

زيارة سابقة وجدل
وفجرت نجمة هوليوود الأميركية ليندسي لوهان جدلا واسعًا وحالة من الدهشة بعد ظهورها بالحجاب في تركيا خلال زيارة لمخيمات اللاجئين السوريين في غازي، وإحدى العائلات السورية في إسطنبول التي قامت بزيارتها مرتين في أسبوع واحد مرتدية الحجاب.
وتعد لوهان، الممثلة والمطربة وعارضة الأزياء، من أكثر شخصيات هوليوود إثارة للجدل، وغالبًا ما تتصدر أخبار مغامراتها مع المخدرات والكحول وفضائحها الجنسية ومشاجراتها مع الباباراتزي الصفحات الأولى. وعادت لتتصدر الاهتمام برحلتها إلى تركيا في أكتوبر قادمة من روسيا، لكن متابعة هذه الرحلة كانت مختلفة وأكثر إثارة للجدل.
وتكهنت وسائل الإعلام بأن تطول زيارة لوهان لتركيا، وأنها نقلت إقامتها إليها تمامًا، ولم تحمل الزيارة بُعدًا إنسانيًا يتعلق باللاجئين السوريين فحسب، لكنها خاضت في أمور سياسية أظهرت تبنيها وجهات نظر الحكومة التركية، مما فتح المزيد من التساؤلات حول طبيعة وجودها في تركيا.
ليندسي لوهان لفتت الأنظار إلى معاناة السوريين بزيارتها لمخيمات غازي عنتاب التي صحبتها فيها رئيسة البلدية فاطمة شاهين، حيث حملت الهدايا للأطفال وغنَّت معهم، لكن المشهد الأكثر جذبًا للانتباه كان تعاطفها مع أسرة محمد حسين، السوري الذي فقد ذراعه وساقه ويعيش مع أطفال ويبذل كل ما بوسعه لرعايتهم.
وقالت لوهان إنها عاودت زيارة منزل اللاجئ السوري محمد حسين في منطقة سلطان بيلي بإسطنبول، بسبب تأثرها الشديد بوضعهم خلال زيارتها الأولى قبل أسبوع.
وقالت ليندسي لوهان وقتها إن «هناك من يخشى القدوم إلى تركيا بسبب المعلومات المغلوطة التي تروّج ضدّها، لكنني أشعر بالراحة عندما آتي إلى إسطنبول»، قائلة إن «الحريات الموجودة في تركيا تفوق ما هو موجود في أميركا».
وبداية من الجملة الأخيرة بدأت الأنظار داخل تركيا وخارجها تتجه إلى ليندسي لوهان والأسباب الحقيقية وراء وجودها في تركيا، لا سيما بعد أن بدأت تردد مقولات شهيرة للرئيس التركي رجب طيب إردوغان فيما تكتبه على «إنستغرام»، وأولها أن العالم لا يمكن أن يبقى رهنًا لإرادة الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن.
كما روجت أيضًا لمقولة «أنا أومن بأن الحكومة هي خادم الشعب وليست سيده»، وهي مقولة لإردوغان أيضًا.
وكانت لوهان فاجأت متابعيها بارتدائها الحجاب في المؤتمر الصحافي الذي عقدته في غازي عنتاب بعد زيارتها للاجئين السوريين هناك.
والتقطت مجلة «دير شبيغل» الألمانية المشهد، لافتة إلى أن ليندسي لوهان أثارت موجة من الجدل في تركيا، بسبب دفاعها الشديد عن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وظهورها مرتدية الحجاب.
ولم يحظ الجدل الكبير حول إصبع ليندسي لوهان التي قُطعت خلال رحلة بحرية قامت بها في مضيق البسفور باهتمام لدى وسائل إعلام تابعة للحكومة التركية، لكن الاهتمام الكبير الذي أبدته كان عبر تناقل صورها وهي تحتضن الأطفال خلال زيارتها لمخيمات اللاجئين السوريين، مرتدية الحجاب على الطريقة التركية.
وجذبت هذه الصورة الكاتبة التركية أمبرين زمان، المحللة في موقع «ذا مونيتور» الأميركي، حيث قارنت بين زيارة لوهان وزيارة مواطنتها أنجلينا جولي، التي زارت مخيمات اللاجئين السوريين على طول الحدود التركية السورية مرات عدة، لكنها لم تحظ بالقدر نفسه من اهتمام وسائل الإعلام المحسوبة على الحكومة، مع أن لوهان تعد من مشاهير الدرجة الثانية في هوليوود، ومعروفة بفضائحها أكثر من أفلامها، كما قالت أمبرين زمان.
وخلصت الكاتبة التركية إلى أن هذا الاهتمام يرجع إلى أن لوهان خاضت في السياسة التركية بشكل كبير، وتعاملت مع بعض الأمور الأخرى ومنها المقولة الشهيرة للرئيس إردوغان «العالم أكبر من خمس»، التي تعني ضرورة توسيع العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي إلى أكثر من الدول الخمس لتشمل تركيا.

سفيرة إردوغان
وكانت لوهان، التي لم يكن معروفًا عنها شغفها بمتابعة السياسة، قالت في مقابلة مع قناة «إيه تي في» الموالية لإردوغان إن مصير الملايين من البشر لا ينبغي أن تقرره الدول الخمس.
وفي مقابلة أخرى، مع صحيفة «خبر تورك» الموالية للحكومة، أشادت لوهان بإردوغان في طريقة تعامله مع محاولة انقلاب 15 يوليو (تموز) الماضي. وقالت إن الشعب التركي يحترم إردوغان بحق.
وعلقت صحيفة «إندبندنت» البريطانية على الاهتمام التركي الرسمي بالممثلة الأميركية، قائلة إن «ليندسي لوهان أصبحت بطلة في أعين الإسلاميين في تركيا، وذلك بعدما قامت بالثناء على الرئيس التركي رجب طيب إردوغان».
وأشارت الصحيفة إلى تصريح لوهان: «إن الحريات في تركيا أفضل مما عليه في أميركا»... وإنها باتت تشعر بمعاناة النساء اللواتي منعن من ارتداء الحجاب في تركيا لسنين طويلة.
وتناول المحلل السياسي التركي سنك شيدار مواقف تصريحات لوهان عن تركيا قائلا في تغريدة على «تويتر»: «قد تلقت لوهان أموالا من الحكومة التركية مقابل ارتداء الحجاب والترويج لتركيا... الكحول وإدمان المخدرات راعيان رائعان».
وأشار بعض المغردين إلى أن لوهان لا تعرف غير لغة المال، ولا تعمل مجانًا، ووضعوا خبرًا نقله موقع «تي إم زي» الأميركي المتخصص في أخبار المشاهير خلال شهر أغسطس (آب) الماضي، جاء فيه أن لوهان دُعيت للمشاركة في برنامج روسي، لكنها طلبت الحصول على 655 ألف دولار، إضافة إلى عقد لقاء وجلسة تصوير مع فلاديمير بوتين، وطائرة خاصة لتنقلاتها في روسيا، وتأشيرة دخول إلى روسيا صالحة لمدة عام.
وتسببت ليندسي لوهان في حالة جدل كبيرة في تركيا، وأصبح هناك من يطلقون عليها «سفيرة إردوغان»، ومن يقولون إن وجودها في تركيا هو حملة مدفوعة الأجر لصالح إردوغان.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)