سياسات الصادق المهدي أبعدت السودان عن الغرب والجيران

وثائق الاستخبارات الأميركية كشفت عن أنه دفع ثمن الإطاحة بالنميري

الصادق المهدي (غيتي)
الصادق المهدي (غيتي)
TT

سياسات الصادق المهدي أبعدت السودان عن الغرب والجيران

الصادق المهدي (غيتي)
الصادق المهدي (غيتي)

عقب الإطاحة بالرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري في أبريل (نيسان) من عام 1985، كانت هناك فترة فاصلة قصيرة في السودان، لم تتجاوز 14 شهرا، تولى السلطة خلالها مجلس عسكري انتقالي بقيادة الفريق عبد الرحمن سوار الذهب، قبل أن يسلم السلطة بدوره لحكومة منتخبة برئاسة الصادق المهدي ومجلس سيادة يرأسه أحمد الميرغني.
وبعد مرور نحو عامين على حكومة الصادق المهدي، تنبهت الاستخبارات المركزية الأميركية إلى أهمية تقييم فترة حكمه، فتم تكليف مجموعة من المحللين لتقديم تحليل لصناع القرار، حرصوا فيه على عدم تقديم أي توصيات أو نصائح، بل ترك المعلومات كما هي وإضافة بعض الخلفيات التي قد يجهلها صانع القرار الأميركي. وتستعرض «الشرق الأوسط» مضمون هذا التحليل إضافة إلى مضامين وثائق أخرى حواها ملف السودان في الفترة التي أزيح عنها ستار السرية من أرشيف الاستخبارات الأميركية.
بعد دراسة فترة الشهور الأولى من عهد الصادق المهدي، خرج محللو الاستخبارات الأميركية باستنتاجات تتمحور حول محاولة إثبات أن المهدي نهج سياسة مختلفة عن جعفر نميري أدت إلى نقل السودان من موالاة الغرب في السياسة الخارجية إلى وضع أقرب إلى الحياد، وأن هذه السياسة، أبعدت بلاده عن الغرب والدول المجاورة، كما كلفت السودان ثمنا باهظا على الصعيدين الخارجي والداخلي.
فعلى الصعيد الخارجي، اعتقدت وكالة الاستخبارات الأميركية، طبقا لما ورد في الوثيقة، أن سياسات المهدي أسفرت عن خسران بلده جزءا كبيرا من مساعدات داعميه التقليديين في الغرب؛ حيث إنهم خفضوا مساعداتهم العسكرية والاقتصادية بسبب طموحاته. لكن الوثيقة على غير عادة التحليلات الاستخبارية لم تدلل على صحة هذا الزعم بأرقام محددة عن حجم ما خسره السودان من معونات، كما لم توضح ما طموحات الصادق المهدي التي أجبرت الغرب على معاقبة بلاده. ورغم أن الوثيقة أوردت المهدي بصفته رئيسا للوزراء، فإنها تحدثت عنه كما لو أنه رأس الدولة، متجاهلة تماما الدور المناط برئيس مجلس السيادة أحمد الميرغني، وهو شريك أساسي في السلطة.

كلفة الحياد
فيما يتعلق بخسائر الصادق المهدي على الصعيد الداخلي فقد انعكس النقص في المساعدات الخارجية سلبا على نفوذ الصادق المهدي ومكانته داخليا؛ حيث أدى تدهور الأوضاع الاقتصادية للناس، إلى ارتفاع الأصوات المعارضة للمهدي التي وجدت في ذلك التدهور مادة خصبة لمهاجمة الصادق المهدي وحكومته وفقا لتقييم «سي آي إيه».
واعتقد المهدي - وفقا للوثيقة - أن سياسة الحياد الإقليمي مفيدة للحفاظ على حكمه وعلى أمن السودان في وسط إقليمي مضطرب. ومن بين الهموم الإقليمية للصادق المهدي، أن طموح القذافي هدد السودان في قلب الخرطوم، كما أن إيران قد تسعى لتسليح بعض الأطراف السياسية المتنافسة بما يشكل ذلك من خطورة نشوب صراع مسلح إضافي في السودان إلى الصراعات المسلحة القائمة. وفضلا عن ذلك، فإن السيادة السودانية على إقليم دارفور في غرب السودان مهددة إلى درجة تقلق الصادق المهدي، إضافة إلى أن متمردي حركة جون قرنق يمضون قدما في تحقيق مسارهم نحو الاستقلال عن الخرطوم.
ومن الواضح في الوثيقة أن وكالة الاستخبارات المركزية كانت غير مطمئنة لبقاء المهدي وتوقعت أن تتم الإطاحة به خلال أشهر قليلة، ولكن محلليها لم يعتبروا الإطاحة مدعاة للأسف عليه، بل أرادوا التعجيل بهذا الرحيل.
وتشير المعلومات الواردة في الوثيقة إلى أن الانطباع السائد وقتها عن حكومة المهدي أنها كانت على علاقة وطيدة مع الزعيم الليبي معمر القذافي على حساب مصر، غير أن المهدي يبرر ذلك بحرصه على عدم استعداء القذافي أو كما يقول: «تفاديا لشره وليس أملا في خيره».

بين ليبيا ومصر
وجزم المحللون أن الإطاحة بالمهدي ستتم العام المقبل، دون أي إشارة أو تلميح إلى أن الوكالة ستلعب دورا في ذلك. واكتفى التقرير بالقول إن الإطاحة بحكومة المهدي ستكون في صالح الولايات المتحدة والغرب لأن من سيأتي بعده، حسب جزم الوكالة في حينه، عسكريون، والعسكريون السودانيون بطبيعتهم عمليون وأكثر واقعية في تعاملهم مع الغرب.
وكون التحليل تم إعداده لصناع القرار باسم الوكالة فيمكن اعتبار ما ورد فيه معبرا عن وجهة نظر الوكالة بوصفها مؤسسة وليس رأي محلل فردي؛ ولهذا يمكن القول إن الوكالة عادت وأنصفت المهدي في الوثيقة ذاتها، حيث أشارت إلى أن الصادق المهدي يمكن اعتباره من قادة العالم الثالث، ويتمتع بقدر كبير من الثقة بنفسه.
وكشفت الوكالة عن معلومات لديها بأن أكثر ما يضايق الصادق المهدي التعالي الذي كانت تبديه الجارة مصر، وكأن السودان لا يزال تابعا لها، أو أنه يتحتم على السودان أن يمضي في فلك القاهرة أينما سارت. واعتقد المهدي، طبقا لما يقوله لمن كان حوله، أن من الأسباب التي أطاحت بجعفر نميري تبعيته الكاملة للسادات ولحسني مبارك من بعده، لكن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عابت على الصادق المهدي من جانبها اعتقاده أن من حقه أن يحكم أسرته ويحكم طائفته ويحكم السودان في آن واحد، ولمحت الوكالة إلى أن هذا الاعتقاد نابع من الإيمان بالحق الإلهي وهو ما يتنافى مع الواقعية السياسية.
ووصف خبراء الوكالة الصادق المهدي بأنه واسع الثقافة وذو مؤلفات وغزير المعرفة في التاريخ والأديان. وما لم يشر إليه التحليل أن الثقافة شيء والسياسة شيء آخر، لا يلتقيان بالضرورة ولا يفترقان بالضرورة. ويخلص التحليل إلى أن حكم المهدي لن يعمر لأنه أمام خيارات صعبة ولن يتمكن من الاستمرار في سياسة الحياد والبقاء في السلطة. وإذا كان الصادق المهدي يعتقد أن انحياز نميري قد أطاح به، فإن وكالة الاستخبارات المركزية بالعكس من ذلك، ترى أن حياد المهدي هو الذي سيطيح به.

جمعية الصحافيين السودانية
في تقرير آخر لافت، لكونه عن جمعية الصحافيين السودانية، وكان مختصرا لا يتجاوز الصفحتين، يبدو أن مصدره من السودان مرسل إلى واشنطن، وتحمل الوثيقة تاريخ 10 ديسمبر (كانون الأول)، ولكن العام لم يظهر في صورة الوثيقة المفرج عنها، وربما الأشخاص الواردة أسماؤهم في الوثيقة هم القادرون على معرفة العام الذي كتبت فيه.
يبدأ التقرير بإيراد معلومة أن الحكومة السودانية في إطار سعيها للسيطرة على جميع الصحف والدوريات الصادرة في البلاد، شجعت على تأسيس كيان للصحافيين السودانيين باسم جمعية الصحافيين ليكون الكيان بمثابة أداة غير مباشرة للحكومة لفرض الوصاية على الصحافة السودانية عن طريق قسم الصحافة في مكتب العلاقات العامة التابع للحكومة السودانية.
ويشير التقرير إلى أن شخصا باسم مايكل عيساوي كان يرأس قسم الصحافة في مكتب العلاقات العامة المشار إليه قبل أن ينتقل للقاهرة. أما جمعية الصحافيين السودانية فإنها تدار من قبل شخصيات سياسية أبرزهم: أحمد يوسف حازم رئيس الجمعية وهو كذلك ناشر صحيفة السودان الجديد، وكاتب ذائع الصيت في الصحافة السودانية وقت كتابة الوثيقة. أما الثاني فهو إسماعيل عتباني سكرتير الجمعية ومحرر صحيفة الرأي العام، وكان في السابق يرأس تحرير صحيفة صوت السودان. وتشير الوثيقة إلى أنه على الرغم من أن إسماعيل عتباني عضو في الحزب الاتحادي، فإنه تمكن من الحفاظ على موقف حيادي في الجمعية
وفي الفقرة الثانية من الوثيقة قائمة بأسماء أبرز الصحافيين الداعمين لجبهة الاستقلال وسياسات حزب الأمة وهم:
- عبد الرحيم أمين رئيس تحرير «النيل»، ثم انتقل إلى «الأمة»، ومحمد أحمد عمر، حل محل أمين في «النيل» وكان في السابق يرأس تحرير أسبوعية «الهادي»، ويوسف مصطفى تيناني، محرر سابق في «الأمة» وعضو في حزب الأمة، وعبد الله ميرغني سكرتير الحزب الاتحادي ورئيس تحرير «صوت السودان»، ومحمود فاضلي عضو حزب الأشقاء حتى منتصف عام 1948، ومكي عباس، صحيفة «الرائد»، ومحمد أمين بشير، «الأخبار»، وصالح عريبي، «التلغراف»، والفاتح النور، مجلة «كردفان»، وكمال ماجد، «يو إس بي يو»، وأمين رياض، «يو إس بي يو».
ومن غير المعروف ما سبب اهتمام وكالة الاستخبارات المركزية بهذه الأسماء، ولكن من المؤكد بشكل قاطع ألا أحد منهم يعمل مع الوكالة؛ لأنها في العادة تشطب أسماء المتعاونين معها ولا تسمح بظهور أسماء عملائها، حتى في الوثائق التي أزيح عنها ستار السرية. ومن الملاحظ في هذه الوثيقة ذاتها أن الوكالة عمدت إلى تسويد مصدر الوثيقة في صدر الصفحة الأولى لإخفائه ربما للأبد.

اهتمام أميركي بالوجود الفلسطيني في السودان
* تكشف الوثائق الأميركية المتعلقة بالسودان أن الاستخبارات المركزية كانت تبدي اهتمامًا كبيرًا بالوجود الفلسطيني في السودان، حيث إن السودان كان من ضمن الدول العربية التي اختيرت لاستضافة النازحين الفلسطينيين من لبنان بعد اجتياح إسرائيل لبيروت عام 1982.
وتحت عنوان: «معسكر محتمل للاجئي منظمة التحرير الفلسطينية بمدينة شندي السودانية»، تم إرسال تقرير سري في تلك الفترة إلى واشنطن من مصدر ذي صلة بالاستخبارات المركزية، من صفحة واحدة، جاء فيه:
1- معسكر ثان لاستقبال لاجئي منظمة التحرير الفلسطينية المنقول إلى السودان.
2- عنوان معسكر شندي المقرر استضافته لمقر منظمة التحرير الفلسطينية: «1 إن إم» غرب مدينة شندي، و«85 إن إم» شمال شرقي الخرطوم، ومن المتوقع أن يجري إخلاء المعسكر الأول بمدينة شندي والمخصص للاجئي منظمة التحرير الفلسطينية الكائن في «7 إن إم» جنوب شندي.
وتشير الرسالة المقتضبة إلى أن مشروع المعسكر الجديد لا يزال قيد الإنشاء ويتألف من خمسة مبان ثابتة، وثلاث خيام كبيرة، وثلاث خيام أخرى متوسطة، ونحو 180 خيمة صغيرة، غير أن الرسالة أكدت أن أربعة من تلك المباني الموجودة في المخطط الهندسي لم يبدأ مباشرة البناء فيها بعد، كما لم يتم نصب الخيام حتى الآن.
وأفادت الرسالة بأن فريق منظمة التحرير الفلسطينية بالسودان رفض الموقع المبدئي والمخصص لإعادة توطين لاجئيهم وأنه جرى تخصيص معسكر ثان داخل مرفق مخصص للأبحاث الزراعية بالقرب من مدينة شندي.

عمل سري في مجتمع حر
* رغم الإمكانات الكبيرة المتوفرة لوكالة الاستخبارات الأميركية فإن إلقاء نظرة فاحصة على معلومات محلليها عن الشأن السوداني تكشف عن مدى سطحية تلك المعلومات، أو في أحسن الأحوال يمكن وصفها بأنها لا تتناسب مع التوقعات بأن الوكالة لديها مخزون ثري من المعلومات والأسرار غير المعروفة.
ولكن في المقابل، ماذا عساها أن تعرف أكثر مما يعرفه المواطن السوداني، أو رجل الشارع الذي تصل إليه الأسرار أولا بأول دون تأخير. فمن المعروف أن السودان بطبيعته بلد مفتوح اعتاد مواطنوه على التعامل مع قضايا بلدهم بشفافية متناهية، فضلا عن أن العمل السياسي في السودان في كل العهود يجري على المكشوف، لا مجال فيه للخبايا والخفايا.
ومن الواضح أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لم تهمل متابعة قضايا بلد في حجم قارة بأكملها، هو السودان، فقد كانت التقارير من حيث الكم كثيرة جدًا، ولكنّ محللي الوكالة لم يكن يسمح لهم بالنزول الميداني لاستشراف المعلومات من منابعها، فأثبتت مضامين التقارير أن محللا يجلس على مكتب وثير في لانغلي بولاية فرجينيا (المقر الرئيسي لوكالة الاستخبارات الأميركية)، سوف يصعب عليه أن يلم بأوضاع بلد متنوع الثقافات مثل السودان.
ومع ذلك فإن تقارير «سي آي إيه» عن السودان يمكن أن تكون مدخلا لتقييم مراحل عديدة من تاريخ السودان المعاصر، ويمكن لأصحاب الأسماء الواردة في كل تقرير من تقارير الاستخبارات الأميركية ممن لا يزالون على قيد الحياة، إثراء الموضوعات والفترات التاريخية التي تطرقت إليها التقارير بالمزيد من النقاش والتفنيد للمحتويات خصوصًا ما كان منها مثيرًا للجدل.
ومع إدراكنا لوجود قصور في معلومات الوكالة عن الشأن السوداني فإن العديد من التحليلات تستحق القراءة والتأمل، ومن بينها الوثائق التي رأينا تلخيصها وإبراز جزء من محتوياتها بالقدر الذي تسمح به مساحة الصفحة.



السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.