المخابرات الأميركية استخفت بالسادات ثم أشادت بحنكته ودهائه

تنبأت بفراغ في مصر بعد رحيل عبد الناصر... والأيام كشفت عكس ذلك

الرئيس المصري الأسبق أنور السادات مع نظيره الأميركي ريتشارد نيكسون عام 1974 في مصر (غيتي)
الرئيس المصري الأسبق أنور السادات مع نظيره الأميركي ريتشارد نيكسون عام 1974 في مصر (غيتي)
TT

المخابرات الأميركية استخفت بالسادات ثم أشادت بحنكته ودهائه

الرئيس المصري الأسبق أنور السادات مع نظيره الأميركي ريتشارد نيكسون عام 1974 في مصر (غيتي)
الرئيس المصري الأسبق أنور السادات مع نظيره الأميركي ريتشارد نيكسون عام 1974 في مصر (غيتي)

حظيت مصر بنصيب وافر من تقارير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، حيث تكرر ذكرها، في الوثائق التي أزيح عنها ستار السرية، أكثر من 16 ألف مرة، ازدادت تدريجيا من مرتين فقط عام 1941، إلى أن وصلت ذروتها عام 1975 منتصف عهد السادات، بتكرار بلغ نحو ألف مرة، ثم عادت إلى التناقص في أوائل عهد الرئيس مبارك، طبقا لنتائج محركات البحث. ومن غير المعروف ما إن كان الاهتمام قد عاد إلى وتيرته السابقة في التقارير التي لم يمر عليها 25 عاما؛ الفترة القانونية لإزالة ستار السرية عنها.
ومن أهم الفترات التي سلطت عليها التقارير الاستخبارية الضوء بالمعلومات والتحليل، فترة السنتين الأوليين من عهد السادات، حيث تضمن التقرير الأول المكتوب في اليوم التالي لوفاة الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر، استخفافا بخليفته وتشكيكا في قدرته على حكم مصر، ثم ما لبث الأمر أن تغير إلى إشادة بحنكة السادات أثناء مواجهته لمن أسماهم بمراكز القوى.

وفاة ناصر... وأزمة خلافته
الوثيقة الأولى مؤرخة في 29 سبتمبر (أيلول) 1970، وجاءت على هيئة مذكرة معلوماتية تحت عنوان «وفاة ناصر... وأزمة خلافته»، وتضمنت المذكرة جملة من الأحكام والاستنتاجات، من بينها أن وفاة جمال عبد الناصر تركت فراغا في مصر من الصعب ملؤه. ثم تطرقت إلى نائبه أنور السادات بأنه سيتولى الرئاسة بشكل مؤقت؛ لأن هذا هو ما ينص عليه الدستور المصري قبل أن يتم اختيار رئيس.
ووصفت المذكرة السادات بأنه شخصية يحيط بها الغموض، وظل سنوات طويلة في عهد عبد الناصر يتولى مسؤوليات رمزية، وتقلد مناصب كثيرة منذ مشاركته مع ناصر في حركة الضباط الأحرار. لكن المذكرة تستحسن في السادات معاداته للشيوعية وتصفه بالشخصية الانتهازية وغير مرتبط بآيديولوجية معينة.
وبشأن الثقل السياسي للسادات، تزعم المذكرة أنه شخصية لا وزن لها في دوائر اتخاذ القرار، بل وتجزم أن رئاسته لن تدوم سوى فترة انتقالية قصيرة. لكن المعضلة حسب ما ورد في المذكرة هو عدم وجود أي شخص آخر قادر على ملء الفراغ الذي تركه عبد الناصر. ولهذا فقد رجح محللو «سي آي إيه» أن تكون القيادة جماعية في الفترة المقبلة بالتقاسم بين 3 أشخاص بصورة رئيسية، هم علي صبري وحسين الشافعي وأنور السادات. أما الأشخاص ذوو النفوذ في صنع القرار، فقد ورد في المذكرة اسم سامي شرف وزير الدولة لشؤون الرئاسة ومدير مكتب الرئيس للمعلومات سابقا، إلى جانب وزير الإرشاد القومي محمد هيكل، ووزير الداخلية شعراوي جمعة، وأمين هويدي مدير المخابرات العامة.
وطبقا لمعلومات المحللين الأميركيين في ذلك الوقت، فإن هؤلاء الأشخاص جميعا كانون يدينون بالولاء لجمال عبد الناصر، ولكنهم لا يدين بعضهم بالولاء لبعض، ويوجد بينهم تنافس وصراع مكبوت، توقع المحللون أن يخرج إلى السطح بعد انتهاء مفعول الحزن على عبد الناصر. وخلصت المذكرة إلى أن الجيش بقيادة الفريق فوزي سوف يلعب دور المرجح لكفة أي شخصية عندما يحين موعد المواجهة بين المتصارعين. وتطرقت المذكرة إلى قلق السوفيات على مصير علاقتهم مع مصر بعد رحيل عبد الناصر. ولكن الأغرب من ذلك هو القلق الإسرائيلي من المجهول بعد رحيل خصم عنيد لهم، رغم أن ساسة إسرائيل على المستوى الشخصي يشعرون بالرضا من رحيل ناصر.
وفي يوم السادس من أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1970، أي بعد مرور أسبوع واحد فقط على وفاة عبد الناصر، قدمت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية إيجازا للرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون عن الأوضاع في مصر، جاء في عنوانه أن مشكلة اختيار خليفة لعبد الناصر قد تم حلها، لكن مصر مقبلة على تغييرات إضافية وإعادة هيكلة لتركيبته القيادية. وتم إبلاغ الرئيس الأميركي بأن السادات اختير من قبل اللجنتين التنفيذية والمركزية للاتحاد الاشتراكي العربي. كما دعي أعضاء الجمعية الوطنية (البرلمان) لحضور جلسة المصادقة على اختيار السادات رئيسا.
وأعادت الوكالة في هذا التحليل التذكير بأن السادات لا يتمتع بالكاريزما التي يتمتع بها ناصر، معربة عن اعتقادها بأن احتمالات استمراره في الرئاسة ستعتمد إلى حد كبير على موقف عدد من رجال عبد الناصر، منهم شعراوي جمعة، وسامي شرف ومحمود رياض.
وبعد نحو 5 أسابيع من المذكرة الثانية، قدمت وكالة الاستخبارات المركزية لصناع القرار في واشنطن تحليلا جديدا عن تصور الوكالة لمستقبل مصر من دون عبد الناصر. وجاء في التحليل أن الأشخاص الذين يديرون مصر بعد وفاة عبد الناصر لم يثيروا إعجاب الشعب المصري حتى ذلك الحين، ولكنهم تمكنوا من السيطرة على الأوضاع. والمشكلة وفقا للتحليل المشار إليه أن المصريين اعتادوا على قيادة الفرد الواحد القوي، وليس لهم تجارب مع القيادة الجماعية.
لكن المحللين حاولوا إنصاف أنور السادات هذه المرة بالقول إن الانطباع الذي كان سائدا عنه بأنه سياسي غير فعال، بدأ يتغير على نحو مفاجئ بعد قبوله تحمل المسؤولية، مشيرين إلى أن السادات اتخذ قرارات تنبئ عن دهاء، في إشارة إلى تعيينه علي صبري وحسين الشافعي نائبين له، دون منحهما أي صلاحيات تذكر.
ورغم الخلافات بين قادة مصر الجدد والصراعات الخفية بينهم فإنهم، حسب معلومات الوكالة، متفقون على أمر واحد، وهو استبعاد زكريا محي الدين وعبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين، من أدي دور في الدولة المصرية. ولمح التحليل إلى أن الثلاثة وهم من أعضاء تنظيم الضباط الأحرار ومن زملاء عبد الناصر في حركة يوليو (تموز)، يحاولون العودة إلى المعترك السياسي دون جدوى.
وتوقع المحللون أن يبقى صنع القرار بأيدي 8 أشخاص، هم أعضاء اللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكي.

حركة تصحيحية وحليف جديد لأميركا
وفي الرابع عشر من مايو (أيار) عام 1971، أي قبل حركة «15 مايو» التصحيحية، التي أطاح السادات فيها بخصومه، كانت الاستخبارات الأميركية بوسائلها الخاصة ترصد وتراقب ما يحدث، ولهذا فقد ضمنت الملف اليومي المعروض على الرئيس تلخيصا للوضع في مصر، حتى تلك اللحظة. وأبلغت الوكالة الرئيس نيكسون بالاستقالات الجماعية التي قدمها للسادات وزير الداخلية شعراوي جمعة، ووزير شؤون رئاسة الجمهورية سامي شرف، ووزير الحربية محمد فوزي، احتجاجا منهم على إقالة نائب الرئيس علي صبري من منصبه في الثاني من مايو 1971. ووصف الإيجاز شعراوي جمعة وسامي شرف بأنهما أقوى شخصيتين في مصر نفوذا في تلك الأثناء. وأوضح الإيجاز أن المستقيلين لا يمكن وصفهم باليساريين؛ لأن هذا الوصف لا ينطبق عليهم تماما، ولكن الأمر المؤكد هو أنهم لا يدينون بالولاء للرئيس السادات. واستنتجت الوكالة أن السادات يسعى للتخلص من هؤلاء؛ لأنهم في موقع المنافسة الندية لسلطته، إضافة إلى أن السادات سيكون مطلق اليد في التفاوض مع إسرائيل، بعد أن كان علي صبري ومجموعته يعارضون علنا التفاوض معها. وأشار الإيجاز إلى أن السادات قد عين بالفعل محافظ الإسكندرية ممدوح سالم وزيرا للداخلية، وهو مؤهل للمهمة التي اختير لها بديلا لشعراوي جمعة. كما عين السادات رئيس الأركان محمد صادق وزيرا للحربية بديلا للفريق فوزي، وأشارت المعلومات المقدمة للرئيس الأميركي أن صادق يحظى بنفوذ ودعم في الجيش أوسع مما كان يحوزه سلفه.
ولفتت الوكالة في الإيجاز المشار إليه، إلى أن درجة الثقة العالية التي بدت على السادات وهو يتخذ هذه القرارات، تنم عن أنه قد نسق مع قيادات معينة في القوات المسلحة المصرية، وأن تلك القيادات شجعته على الإقدام على إقالة صبري وقبول استقالات زملائه لاحقا. ولمزيد من الاطمئنان فإن السادات قد سارع بتعيين البديل لفوزي، لضمان قدر أكبر من ولاء الجيش للرئاسة.
وعلى الصعيد المدني، أشارت الوكالة في إيجازها للرئيس الأميركي، إلى أن السادات يعد لإذاعة بيان عبر راديو القاهرة، تعتقد الوكالة أن صياغته تمت بطريقة تسعى لتحقيق هدف استقطاب التعاطف الشعبي، عن طريق الإيحاء بأن بعض المعزولين كانوا متورطين في «التآمر لفرض الوصاية والهيمنة على الشعب عن طريق القمع والإرهاب». وأوضح الإيجاز أن بيان السادات سيتم إذاعته بعد ساعات.
كما أوضح الإيجاز للرئيس نيكسون، أن السادات يحتاج لكل دعم يستطيع الحصول عليه؛ لأن خصومه يستندون على علاقتهم السابقة مع جمال عبد الناصر، فضلا عن أنهم تمكنوا خلال سنوات خدمتهم مع ناصر من تشكيل دوائر نفوذ خاصة بهم. وتوالت بعد ذلك التقارير التي تشيد بحنكة السادات ودهائه وتعترف بأنه استطاع ملء الفراغ الذي خلفه عبد الناصر، ولو أن ذلك تم بطريقته الخاصة.

عن الوثائق السرية
* لأن وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) تزيل أسماء مصادرها وبعض المعلومات التي قد تكشف عنهم من الوثائق المفترض أن السرية قد أزيحت عنها، فإن الوثائق المنشورة عن أي بلد لا تكشف بالضرورة عن معلومات جديدة على مواطني ذلك البلد، ولكن قيمتها التاريخية لا تقدر بثمن؛ لأنها توثق لأهم الأحداث أولا بأول، في حال تم جمعها وترجمة المهم منها بالتسلسل الزمني في أصل الوثائق. ولأن عمل الوكالة لا يقتصر على جمع المعلومات وعرضها على أصحاب القرار، بل يضاف إليه التحليل، فإن ذلك يفيد في معرفة رؤية الوكالة فيما يتعلق بالأحداث المحلية والصراعات كجهة محايدة، يهمها أن تقدم معلومات حقيقية لصانع القرار الأميركي بطريقة مبسطة، لكونه غير ملم على الأرجح بأوضاع البلد المعني أو متابع لأحداثه مثل أبناء ذلك البلد.



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!