تراجع آمال الأمازيغ والطوارق والتبو في دولة ما بعد القذافي

شاركت القبائل الليبية غير العربية في انتفاضة 2011 لكنها انسحبت من المسرح السياسي لأسباب مختلفة

متظاهرات ليبيات يطالبن بحقوق الأمازيغ في دستور البلاد
متظاهرات ليبيات يطالبن بحقوق الأمازيغ في دستور البلاد
TT

تراجع آمال الأمازيغ والطوارق والتبو في دولة ما بعد القذافي

متظاهرات ليبيات يطالبن بحقوق الأمازيغ في دستور البلاد
متظاهرات ليبيات يطالبن بحقوق الأمازيغ في دستور البلاد

رفرفَ علمُ الأمازيغ الليبيين، بألوانِه الأربعة، فوق مبانٍ على شاطئ طرابلس، لأول مرة.
امتلأت قيادات سياسية ليبية، ذات أصول غير عربية، بآمال عريضة، وهي تبحث عن مكان لها في نظام الدولة الوليد، بعد عقود من المعاناة مع نظام معمر القذافي. ورغم مضي قرابة السنة على حكم رئيس المجلس الرئاسي، فايز السراج، فإن الأقليات الليبية تتعرض اليوم لإحباط آخر. ويقول قادة من الأمازيغ لـ«الشرق الأوسط» إنهم قاطعوا كل الهياكل التشريعية، البرلمان، والهيئة التي تقوم بإعداد الدستور، ما يعني أنهم لا وجود لهم فعليا في دولة ما بعد القذافي.
وأدت استقالة نائب السراج، موسى الكوني، القيادي في قبيلة الطوارق، قبل أسبوعين، إلى عودة قضية الأقليات على مسرح الجدل السياسي؛ فقد شاركت القبائل الليبية غير العربية في الانتفاضة التي أطاحت بحكم القذافي في 2011، لكن الحُلم ببناء دولة تعترف بـ«المكونات الثقافية» للأمازيغ والطوارق والتبو، تراجع مرتين إلى حد كبير؛ المرة الأولى حين دخلت البلاد في فوضى بداية من عام 2012، والمرة الثانية، تجري وقائعها في هذه الأيام؛ حيث يعاني مجلس السراج الرئاسي من عراقيل جمَّة.
يقول القيادي في قبيلة التبو، عيسى عبد المجيد، النائب السابق لرئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح، إن «البعض (في ليبيا) يُصرُّ على تهميشنا... التبو شاركوا في الثورة، واليوم يشاركون في الحرب على الإرهاب، ولهم حقوق».
ولا يقتصر صراع الأقليات في ليبيا على داخل البلاد فقط، لكنه يمتد إلى خارجها أيضا في بعض الأحيان؛ مثلا، هناك موقف من الجامعة العربية نفسها. وينظر عبد المجيد، مثل فتحي بن خليفة، الرئيس السابق للكونغرس الأمازيغي، بعين الريبة، إلى قول أحد مسؤولي الجامعة إن ليبيا لا يوجد فيها أقليات، كما زاد الطين بِلّة قيام سياسي ليبي كبير، من قبيلة عربية، بعقد لقاء مع قبائل ليبية في القاهرة قبل أيام، لم يكن التبو من بينهم.
بيد أنَّ إبراهيم عميش، رئيس لجنة العدل والمصالحة الوطنية في البرلمان الليبي، يقلل، في رَده على أسئلة «الشرق الأوسط»، من الزخم المطروح حول القضية، ويشير إلى أن القبائل غير العربية «لا تشكل في مجموعها إقليما بكامله في ليبيا».
وفي حين ينظر البعض بتشكك للممارسات السياسية للأغلبية الليبية ذات الأصول العربية، تبدو مسارات الخلاف موجودة أيضا بين الأمازيغ والطوارق والتبو، أنفسهم، ما يلقي بمزيد من الظلال على خفايا صراع الأقليات في هذا البلد النفطي، شاسع المساحة وقليل السكان. ويقدر عدد الأمازيغ بنحو 165 ألف نسمة، وتقول تقديرات أخرى إن نسبتهم تبلغ نحو عشرة في المائة من بين ستة ملايين ليبي.
ويتركز وجود معظم الأمازيغ في مدن الجبل غرب طرابلس، وغالبية الطوارق في جنوب غربي البلاد، بينما ينتشر التبو بين الجنوب والشرق والشمال، ويبالغُ كلُّ طرفٍ في عدد أبناء قبيلته كعادة معظم القبائل الليبية الأخرى. وتقع معارك طاحنة بين الطوارق والتبو كل حين وآخر، وبخاصة في البلدات الجنوبية التي تعد تخومها معبرًا للمهرِّبين والمهاجرين غير الشرعيين، إضافة إلى نشاط الجماعات المسلحة العابرة للحدود من دول الجوار. ويتهمُ عربٌ من سكان طرابلس أجنحة أمازيغية بزحف شبه «ممنهج» تجاه العاصمة.
ومِن بين المظاهر التي لفتت الأنظار قيام قيادي سياسي أمازيغي في طرابلس بجلب عناصر أمازيغية مسلحة للعاصمة من مسقط رأسه في بلدة زُوَّارة، وحين سُئِل عن ذلك من جانب أمراء ميليشيات منافسة، قال إنها ليست ذات طابع عرقي، ولكنها لحماية عائلته في المدينة التي تعاني من الفوضى، زاعمًا تلقيه تهديدات من موالين للمجلس الرئاسي. ويوجد في معظم مدن الأمازيغ ميليشيات أيضا تُعرف باسم «سرايا الثوار» مثل غالبية المدن الليبية الأخرى.
وفيما بعد عثرت السلطات على منشورات مطبوعة في مطبعة أمازيغية تسمى «زهر الزيتون»، كانت تُوزَّع في ضواحي «غوط الشعال» و«قرقارش» بالعاصمة تحت عنوان «صرخة ليبية»، وتدعو إلى «النضال من أجل استرداد وإقرار الحق الأمازيغي»، لكن في إطار «الدولة الليبية»، قائلة في صوت وُصِف بالمعتدل إن «أمازيغ ليبيا، ليبيون، وبوصلتهم يجب أن تكون ليبية، وضِمن الهوية الليبية وفي حدود الوطن ومع إخوتهم وشركائهم في الوطن».
وفي هذه الأثناء كان الكوني، بصفته نائبا للسراج في المجلس الرئاسي، يعاني من ضغوط من قبيلته، الطوارق، وتحديدا من مدن غدامس، وسبها، وأوباري، من أجل الإسراع في تقديم الخدمات والأمن للمناطق التي تعاني من تهميش الدولة لها منذ سنين طويلة. كان الكوني من رجال نظام القذافي، وأصبح من رجال السراج، لكن الأمور أخذت تنفلت أكثر من أي وقت مضى، والفقر والاقتتال القبلي يعصف بالمناطق الجنوبية، دون وجود سُلطة مركزية قوية.
يقول الدكتور سعد سلامة، الأستاذ في جامعة الزيتونة في ترهونة، ورئيس مركز دراسات الجنوب الليبي للبحوث والتنمية، لـ«الشرق الأوسط»: «بشكل عام لا يفضِّل الليبيون، من غير العرب، لقب «(أقليات)». وفي 2011 أُطلق عليهم اسم «المكونات الثقافية»، ويضيف أنه لا توجد أي إحصاءات مبنيّة على أُسس عرقية في ليبيا، وأن لدى هذه «المكونات الثقافية»، في الوقت الحالي، تيارا سياسيا معتدلا، وتيارا شبه متطرف في مطالبه، وتيارا عروبيا، لكن يغلب على من يقود هذه «المكونات الثقافية» أصحاب المطالب الحادة. و«حاليا توجد مشكلات حتى في داخل هذا المكونات نفسها».
عقب سقوط نظام القذافي، حاول مئات النشطاء الأمازيغ والطوارق والتبو، المشاركة في بناء دولة تأخذ في الاعتبار حقوق الأقليات. ورفرف علم الأمازيغ إلى جوار علم الدولة الجديد، في العاصمة، أثناء احتفالات النصر مع نهاية 2011، وشغل الكوني، في تلك السنة، عضوية المجلس الانتقالي الذي تولى زمام الانتفاضة على القذافي. كما عاد عبد المجيد، الذي كان يتزعم «حركة تحرير التبو»، المعارضة، لبدء عهد مختلف. وتولى الأمازيغي نوري أبو سهمين، رئاسة المؤتمر الوطني العام (البرلمان السابق)، لكن طموحات كثير من القيادات السياسية غير العربية، تعثرت بحلول عام 2014؛ بسبب اندلاع الحروب بين ميليشيات متناحرة، جهوية ومذهبية، وبخاصة في مدن، طرابلس وبنغازي وسبها.
ويقول مصدرٌ قريبٌ من المجلس الرئاسي، إن الحوار الذي رعته الأمم المتحدة بين أطراف ليبية في بلدة الصخيرات المغربية، ونتجَ عنه «المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني»، تعاملَ معه كثيرٌ من قيادات قبائل غير عربية، باعتباره بارقة أمل لطرح حقوق الأقليات على الطاولة، ومنها الاعتراف، في دستور البلاد، بالعلم الأمازيغي وباللغة الأمازيغية لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية.
ويضيف المصدر: «في مطلع العام الماضي، وأثناء الإعداد في تونس لدخول مجلس السراج إلى العاصمة، قدَّم بعض كبار الساسة الأمازيغ بوادر حسن نية؛ فقد أبلغوا السراج أنَّهم لن يقفوا مع المعارضين لدخوله طرابلس، وأنه إذا لم يستطع العمل من العاصمة، فيمكن لهُ أن يباشر مهام إدارة الدولة، مؤقتا، من مدن ذات أغلبية أمازيغية، مثل غدامس أو زوَّارة».
وحين ركب السراج البحر في طريقه إلى «قاعدة بوستة» في طرابلس بنهاية مارس (آذار) الماضي، ظهر متطوعون أمازيغ قرب القاعدة، وهم يشاركون في تنظيف الشوارع وغرس الورود، لاستقبال أعضاء المجلس الرئاسي، ومن بين هؤلاء الأعضاء موسى الكوني، بينما كان العلم الأمازيغي يرفرف مع العلم الليبي أيضا أعلى الأسوار.
وبمرور الوقت بدأت شكوك قادة من الأمازيغ والطوارق والتبو تتزايد بشأن قدرة السراج على الإمساك بزمامِ الأمور. وأخذتْ الأوضاع تتجه إلى الانفلات، وأدَّى الاحتراب بين الميليشيات، التي يتكون معظمها من مقاتلين عرب، إلى تبدد طموحات «المكونات الثقافية»، مرة أخرى، وأمام هذا الانسداد تفجرت حروب صغيرة بين الطوارق والتبو في الجنوب، ومناوشات بين أمازيغ وعرب حول طرابلس شمالا، ودخلت أطراف إقليمية ودولية على الخط لاستغلال الوضع، وتحقيق مكاسب خاصة في المنطقتين الغربية والجنوبية، وهي غنية بالنفط والغاز والذهب واليورانيوم. كما ازدادت الأوضاع تعقيدا في مدنٍ مطلة على البحر، مع احتدام الصراع بين كتلتين كبيرتين... الأولى: القوات المدججة بالأسلحة الثقيلة في طرابلس وما حولها، حيث يغلب عليها الطابع الديني المتشدد. والثانية: «الجيش الوطني» الذي يقوده المشير خليفة حفتر في بنغازي وما حولها، وهي كتلة ذات طابع علماني، خصوصا حين أخذ كل طرف من هذين الطرفين يغري أبناء الأقليات العرقية بالانضمام له في القتال، على وعدٍ ببحث مطالبه الخاصة باللغة والعَلَم، وغيرها، مستقبلا. وأظهر غالبية التبو تمسُّكا بالعمل تحت قيادة المشير حفتر. وخاض قادة عسكريون من التبو معارك ملحمية ضد تواجد الميليشيات المتطرفة في الجنوب وفي بعض مدن الشمال، مثل بنغازي، من بينهم العميد عيسى آبه.
ولم يكن عبد المجيد راضيا عما يجري؛ من ناحية، استمر على موقفه في معارضة مجلس السراج، حيث وصفه بأنه «مجلس وُلد ميتا»، منذ البداية، ومن ناحية أخرى، استمرَّ في موقعه نائبا لرئيس البرلمان للشؤون الأفريقية، وهو يشعر بوطأة الضغوط من قبيلته التي تحارب مع حفتر دون أي ضمانات بشأن المستقبل. وكان من بين الخلافات إصرار حفتر والبرلمان، على تسمية الجيش «القوات المسلحة العربية الليبية»، وليس «القوات المسلحة الليبية».
وبشكل عام لم تظهر أي مشاركة يُعتد بها من جانب ممثلي الأقليات خلال حوار الصخيرات، بغض النظر عن اختيار الكوني نائبا للسراج، لكن مما لا شك فيه أنَّ المبعوث الأممي إلى ليبيا، مارتن كوبلر، كان حريصًا على الاستماع إلى ممثلين قبليين لهذه الأقليات، حتى لو كان ذلك قد حدث بعد توقيع الاتفاق، وهو أمرٌ قامَ به السراج أيضا مع بعض ممثلي التبو، إلا أنَّ محاولات كهذه يبدو أنها جاءت متأخرة، حيث ظهر أن هناك جِراحًا كان ينبغي مداواتها مبكرًا.
وبينما كانت الجامعة العربية تسعى للدخول لحلحلة الملف الليبي، وتعيين مبعوث خاص لهذا الغرض، هو السفير التونسي صلاح الدين الجمالي، نقلت وسائل إعلام عن السفير الجزائري الذي يشغل موقع نائب الأمين العام للجامعة، أحمد بن حلي، قوله في تصريحات صحافية إن ليبيا «لا يوجد فيها أقليات أو عرقيات». ولم يتسن التواصل مع بن حلي لتوضيح المقصود بهذه النقطة التي أدت لردود فعل غاضبة من جانب قادة من التبو والأمازيغ والطوارق. يقول عبد المجيد: «هذا موقف غريب... هذا فيه تجاهل للواقع الليبي».
ومن جانبه، هاجمَ فتحي بن خليفة، الجامعة العربية، ووصفها بأنها «منظمة إقصائية». ويضيف: «لا أعتقد أن هناك عاقلا موضوعيا يمكن له أن يتعامل مع الجامعة العربية أو يتناول معها أي أمور بشكل ديمقراطي وليبرالي حقيقي... من اسمها هي عبارة عن شيء فئوي نخبوي عرقي عربي».
وعما إذا كان الأمازيغ ما زالوا يقاطعون لجنة صياغة الدستور، أجاب قائلا: «بالطبع... نحن نقاطع كل الهياكل التشريعية... قاطعنا البرلمان ولم نترشح، ولم نخض جولة الانتخابات، ونقاطع الهيئة الدستورية من منطلق أننا نتحدث من مفهوم الدولة بمعناها الشامل بوصفها مظلة مدنية تحمي المواطنين بمساواة وبعدل... نحن لا نتكلم عن مفهوم الحكم بل عن الدولة».
وتابع موضحا: «الجميع، بمن فيهم المجتمع الدولي، يتدخل في الشأن الليبي ويخوض في الشأن الليبي من منطلق مَنْ يحكم. نحن لا نفكر بهذه الطريقة». ويقول إن الأمازيغ يراهنون على الدولة، و«الدولة قوامها الدستور، وبالتالي لا تهاون ولا استخفاف ولا تنازل في الاستحقاقات التشريعية، وعلى رأسها الاستحقاق الدستوري... هذه المعطيات وهذه الأفكار بعيدة كل البعد عن رؤى الآخرين». ولا يتفق بن خليفة مع الطرح الوارد من الشرق الليبي، لأن من يتبنونه هم - كما يقول - «بقايا الفكر القومجي»، و«الوحدة العربية».
ولا يتفق كذلك مع المشروع الذي تتبناه ميليشيات في الغرب الليبي، لأنه مشروع يتحدث عن «خلافة موهومة، وعن أمة دينية، والعودة إلى الوراء برؤية المستقبل... هذا شيء ينافي العقل والمنطق».
ويعد الأمازيغ في ليبيا «مكونًا ثقافيًا» أكثر التفافا حول هويته الخاصة، مقارنة بالطوارق والتبو، وهذا أمر كان يقلق القذافي. وينتشر الأمازيغ في عدة بلدان في شمال أفريقيا، منها الجزائر والمغرب وتشاد ومالي وبوركينا فاسو. ويتكون العلم الأمازيغي من ثلاثة ألوان أفقية؛ أزرق، وأخضر، وأصفر. ويتوسطه حرف «الزاي» باللغة الأمازيغية باللون الأحمر. وتأسس الكونغرس الأمازيغي، الذي كان يرأسه الليبي، بن خليفة، بوصفه منظمة غير حكومية، قبل نحو عشرين عاما، وترأسه، منذ عام 2015 الجزائرية كاميرا نايت سيد.
وقبل عدة أيام احتفل السكان الأمازيغ في شمال أفريقيا برأس السنة الأمازيغية 2967، بما فيها ليبيا، التي حرص فيها نشطاء أمازيغ في ملابس ملونة على التذكير بحقوقهم، ودعوة الليبيين للتصالح حفاظا على الوحدة الوطنية؛ يقرعون الطبول ويعزفون موسيقاهم الخاصة، وهذا مكسب في حد ذاته مقارنة بالماضي. فقد كان القذافي يقف ضد الاحتفال برأس السنة الأمازيغية، خشية تسببها في التفريق بين الليبيين، كما لم يكن متحمسا لتسجيل الأسماء غير العربية وغير الإسلامية لمواليد الأمازيغ، في سجلات الدولة.
في الوقت الراهن عادتْ مشاعر الإحباط للأمازيغ وأقرانهم من الطوارق والتبو، لأن المطالب الكبيرة لم يتحقق منها أي شيء يذكر. لم تعد غالبية القيادات الأمازيغية تعوِّل على حكومة السراج الضعيفة، وربما كان هذا أحد أسباب «الانقلاب» على المجلس الرئاسي من جانب حكومة خليفة الغويل، المنبثقة عن المؤتمر الوطني العام الذي يرأسه نوري أبو سهمين، وهو من أصول أمازيغية، وما زال أبو سهمين متمسكا بـ«المؤتمر» بوصفه جسما تشريعيا، رغم انتهاء دوره باتفاق الصخيرات، وإحلال جسم استشاري بدلا منه اسمه «المجلس الأعلى للدولة» برئاسة القيادي المصراتي، عبد الرحمن السويحلي.
كما أن استقالة الكوني - وفقا لمصدر من زعماء الطوارق - كانت لها أسباب، من بينها أنَّ الرجل لم يكن يكتفي بالتعامل في المجلس الرئاسي بصفته قائدا «قبليا طارقيا» فقط، ولكنه كان يعتبر نفسه ممثلا لجميع قبائل إقليم فزان (جنوب ليبيا) في مجلس السراج.
ويضيف المصدر أن مقترحات كثيرة تقدم بها الكوني للمجلس الرئاسي، تخص الجنوب، يبدو أنه جرى تجاهلها، ما دفعه في نهاية المطاف إلى تركِ منصبه؛ ومن بين هذه المقترحات، ضرورة تدخل المجلس بشكل جدي ومحايد لمنع تدفق السلاح لأطراف قَبَليِّة، ومنها كذلك مزاعم عن سحب أطراف في حكومة السراج لعقود شركات جنوبية ومنحها، في المقابل، لمحسوبين على رجال أعمال من المدن الليبية الشمالية.
ويشير المصدر نفسه إلى غضب الكوني أيضا من خلو قائمة تعيين سفراء ليبيين في الخارج من جميع الأسماء التي قدمها للمختصين بتسمية السفراء الجدد، وتابع قائلا إنَّ الكوني رَاهنَ، بعد كل هذه الإحباطات التي تسببت في إحراجه أمام أبناء الجنوب، على أنَّ المستقبل ليس مع المجلس الرئاسي، ولكن مع قبيلته؛ الطوارق، ومع غيرها من قبائل دعمت ترشحه لعضوية هذا المجلس، وبالتالي وجد في الاستقالة طوق نجاة من سفينة السراج.
خروج قيادات طارقية وتباوية، مثل الكوني في الغرب، وعبد المجيد في الشرق، من المشهد، إضافة لموقف القيادي الأمازيغي، أبو سهمين، يجعل المشكلة أكثر تعقيدا، وبخاصة أن الأمازيغ وبعضا من قيادات الطوارق والتبو كانوا قد قاطعوا، منذ البداية، الانتخابات البرلمانية ولجنة صياغة الدستور، احتجاجًا على تجاهل معاناتهم وعودتهم مرة أخرى إلى المربع الأول، ولم تأتِ وسائل الضغط هذه بالنتائج المرجوَّة في ظل مصاعب اقتصادية وانفلات أمني واضطراب سياسي بلا حُدود.
وعن موضوع اللغة والمطالب الخاصة بـ«المكونات الثقافية الليبية»، يقول عميش إن هذا الموضوع سوف يعتمد على ما ستطرحه الأغلبية خلال المرحلة المقبلة، مشيرا إلى أن البلاد مُنقسمة، في الوقت الراهن، بين ثلاث حكومات. ويُوضح قائلا: «بعد أن تستقر الدولة سيجري بحث حق الأمازيغ في استعمال لغتهم، وسيحصلون على حقوقهم الطبيعية العادلة».
ويضيف رئيس لجنة العدل والمصالحة الوطنية: «هم لا يشكلون في مجموعهم إقليمًا بكامله، حتى يَكُونُوا بشكل مُعيَّن، لكنهم أجزاء موزعة في عدة مدن». ويزيد عميش قائلا إن أغلب التبو والطوارق في صراعات مع بعضهما بعضا، في عدة مناطق، وفي الوقت نفسه يتعاملان مع الواقع الموجود الآن، ولا يطالبان بتضمين لغتهما الخاصة في الدستور، كما يفعل الأمازيغ. وينظر عميش إلى لهجة بعض المتشددين للقومية الأمازيغية في ليبيا، في هذا التوقيت، باعتبارها محاولة، من جانب أطراف دولية، لخلق مزيد من التعقيد في المنطقة العربية وإذكاء الصراعات فيها، قائلا إن «موضوع الأمازيغ في ليبيا لم يكن أبدا يمثل أي مشكلة».
ومن جانبه، يوضح الدكتور سلامة بشأن الكتلة العددية لـ«المكونات الثقافية الليبية» بقوله إنه لم يسبق إجراء إحصاء لهم... «لا تستطيع أن تقول كم عدد الأمازيغ، أو كم عدد التبو والطوارق... وليس لكل هؤلاء كتلة بشرية بارزة، حتى تجمعاتهم بصفتهم سكان مناطق، دائما السقف لا يتجاوز نحو 10 آلاف نسمة لكل منطقة... وفي الإجمالي لا توجد إحصاءات».
وعن الوضع الحالي في ظل تعدد الحكومات وحالة الاحتراب بين الخصوم، يقول سلامة إن «الانقسام السياسي في ليبيا أثَّرَ على التوجهات السياسية لهذه المكونات الثقافية... مثلا التبو أقرب إلى معسكر السيد حفتر، والطوارق محسوبون على فجر ليبيا في المنطقة الغربية، الأمازيع منقسمون؛ منهم من هو محسوب على فجر ليبيا وفيهم من يقف على الحياد».



الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري