تراجع آمال الأمازيغ والطوارق والتبو في دولة ما بعد القذافي

شاركت القبائل الليبية غير العربية في انتفاضة 2011 لكنها انسحبت من المسرح السياسي لأسباب مختلفة

متظاهرات ليبيات يطالبن بحقوق الأمازيغ في دستور البلاد
متظاهرات ليبيات يطالبن بحقوق الأمازيغ في دستور البلاد
TT

تراجع آمال الأمازيغ والطوارق والتبو في دولة ما بعد القذافي

متظاهرات ليبيات يطالبن بحقوق الأمازيغ في دستور البلاد
متظاهرات ليبيات يطالبن بحقوق الأمازيغ في دستور البلاد

رفرفَ علمُ الأمازيغ الليبيين، بألوانِه الأربعة، فوق مبانٍ على شاطئ طرابلس، لأول مرة.
امتلأت قيادات سياسية ليبية، ذات أصول غير عربية، بآمال عريضة، وهي تبحث عن مكان لها في نظام الدولة الوليد، بعد عقود من المعاناة مع نظام معمر القذافي. ورغم مضي قرابة السنة على حكم رئيس المجلس الرئاسي، فايز السراج، فإن الأقليات الليبية تتعرض اليوم لإحباط آخر. ويقول قادة من الأمازيغ لـ«الشرق الأوسط» إنهم قاطعوا كل الهياكل التشريعية، البرلمان، والهيئة التي تقوم بإعداد الدستور، ما يعني أنهم لا وجود لهم فعليا في دولة ما بعد القذافي.
وأدت استقالة نائب السراج، موسى الكوني، القيادي في قبيلة الطوارق، قبل أسبوعين، إلى عودة قضية الأقليات على مسرح الجدل السياسي؛ فقد شاركت القبائل الليبية غير العربية في الانتفاضة التي أطاحت بحكم القذافي في 2011، لكن الحُلم ببناء دولة تعترف بـ«المكونات الثقافية» للأمازيغ والطوارق والتبو، تراجع مرتين إلى حد كبير؛ المرة الأولى حين دخلت البلاد في فوضى بداية من عام 2012، والمرة الثانية، تجري وقائعها في هذه الأيام؛ حيث يعاني مجلس السراج الرئاسي من عراقيل جمَّة.
يقول القيادي في قبيلة التبو، عيسى عبد المجيد، النائب السابق لرئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح، إن «البعض (في ليبيا) يُصرُّ على تهميشنا... التبو شاركوا في الثورة، واليوم يشاركون في الحرب على الإرهاب، ولهم حقوق».
ولا يقتصر صراع الأقليات في ليبيا على داخل البلاد فقط، لكنه يمتد إلى خارجها أيضا في بعض الأحيان؛ مثلا، هناك موقف من الجامعة العربية نفسها. وينظر عبد المجيد، مثل فتحي بن خليفة، الرئيس السابق للكونغرس الأمازيغي، بعين الريبة، إلى قول أحد مسؤولي الجامعة إن ليبيا لا يوجد فيها أقليات، كما زاد الطين بِلّة قيام سياسي ليبي كبير، من قبيلة عربية، بعقد لقاء مع قبائل ليبية في القاهرة قبل أيام، لم يكن التبو من بينهم.
بيد أنَّ إبراهيم عميش، رئيس لجنة العدل والمصالحة الوطنية في البرلمان الليبي، يقلل، في رَده على أسئلة «الشرق الأوسط»، من الزخم المطروح حول القضية، ويشير إلى أن القبائل غير العربية «لا تشكل في مجموعها إقليما بكامله في ليبيا».
وفي حين ينظر البعض بتشكك للممارسات السياسية للأغلبية الليبية ذات الأصول العربية، تبدو مسارات الخلاف موجودة أيضا بين الأمازيغ والطوارق والتبو، أنفسهم، ما يلقي بمزيد من الظلال على خفايا صراع الأقليات في هذا البلد النفطي، شاسع المساحة وقليل السكان. ويقدر عدد الأمازيغ بنحو 165 ألف نسمة، وتقول تقديرات أخرى إن نسبتهم تبلغ نحو عشرة في المائة من بين ستة ملايين ليبي.
ويتركز وجود معظم الأمازيغ في مدن الجبل غرب طرابلس، وغالبية الطوارق في جنوب غربي البلاد، بينما ينتشر التبو بين الجنوب والشرق والشمال، ويبالغُ كلُّ طرفٍ في عدد أبناء قبيلته كعادة معظم القبائل الليبية الأخرى. وتقع معارك طاحنة بين الطوارق والتبو كل حين وآخر، وبخاصة في البلدات الجنوبية التي تعد تخومها معبرًا للمهرِّبين والمهاجرين غير الشرعيين، إضافة إلى نشاط الجماعات المسلحة العابرة للحدود من دول الجوار. ويتهمُ عربٌ من سكان طرابلس أجنحة أمازيغية بزحف شبه «ممنهج» تجاه العاصمة.
ومِن بين المظاهر التي لفتت الأنظار قيام قيادي سياسي أمازيغي في طرابلس بجلب عناصر أمازيغية مسلحة للعاصمة من مسقط رأسه في بلدة زُوَّارة، وحين سُئِل عن ذلك من جانب أمراء ميليشيات منافسة، قال إنها ليست ذات طابع عرقي، ولكنها لحماية عائلته في المدينة التي تعاني من الفوضى، زاعمًا تلقيه تهديدات من موالين للمجلس الرئاسي. ويوجد في معظم مدن الأمازيغ ميليشيات أيضا تُعرف باسم «سرايا الثوار» مثل غالبية المدن الليبية الأخرى.
وفيما بعد عثرت السلطات على منشورات مطبوعة في مطبعة أمازيغية تسمى «زهر الزيتون»، كانت تُوزَّع في ضواحي «غوط الشعال» و«قرقارش» بالعاصمة تحت عنوان «صرخة ليبية»، وتدعو إلى «النضال من أجل استرداد وإقرار الحق الأمازيغي»، لكن في إطار «الدولة الليبية»، قائلة في صوت وُصِف بالمعتدل إن «أمازيغ ليبيا، ليبيون، وبوصلتهم يجب أن تكون ليبية، وضِمن الهوية الليبية وفي حدود الوطن ومع إخوتهم وشركائهم في الوطن».
وفي هذه الأثناء كان الكوني، بصفته نائبا للسراج في المجلس الرئاسي، يعاني من ضغوط من قبيلته، الطوارق، وتحديدا من مدن غدامس، وسبها، وأوباري، من أجل الإسراع في تقديم الخدمات والأمن للمناطق التي تعاني من تهميش الدولة لها منذ سنين طويلة. كان الكوني من رجال نظام القذافي، وأصبح من رجال السراج، لكن الأمور أخذت تنفلت أكثر من أي وقت مضى، والفقر والاقتتال القبلي يعصف بالمناطق الجنوبية، دون وجود سُلطة مركزية قوية.
يقول الدكتور سعد سلامة، الأستاذ في جامعة الزيتونة في ترهونة، ورئيس مركز دراسات الجنوب الليبي للبحوث والتنمية، لـ«الشرق الأوسط»: «بشكل عام لا يفضِّل الليبيون، من غير العرب، لقب «(أقليات)». وفي 2011 أُطلق عليهم اسم «المكونات الثقافية»، ويضيف أنه لا توجد أي إحصاءات مبنيّة على أُسس عرقية في ليبيا، وأن لدى هذه «المكونات الثقافية»، في الوقت الحالي، تيارا سياسيا معتدلا، وتيارا شبه متطرف في مطالبه، وتيارا عروبيا، لكن يغلب على من يقود هذه «المكونات الثقافية» أصحاب المطالب الحادة. و«حاليا توجد مشكلات حتى في داخل هذا المكونات نفسها».
عقب سقوط نظام القذافي، حاول مئات النشطاء الأمازيغ والطوارق والتبو، المشاركة في بناء دولة تأخذ في الاعتبار حقوق الأقليات. ورفرف علم الأمازيغ إلى جوار علم الدولة الجديد، في العاصمة، أثناء احتفالات النصر مع نهاية 2011، وشغل الكوني، في تلك السنة، عضوية المجلس الانتقالي الذي تولى زمام الانتفاضة على القذافي. كما عاد عبد المجيد، الذي كان يتزعم «حركة تحرير التبو»، المعارضة، لبدء عهد مختلف. وتولى الأمازيغي نوري أبو سهمين، رئاسة المؤتمر الوطني العام (البرلمان السابق)، لكن طموحات كثير من القيادات السياسية غير العربية، تعثرت بحلول عام 2014؛ بسبب اندلاع الحروب بين ميليشيات متناحرة، جهوية ومذهبية، وبخاصة في مدن، طرابلس وبنغازي وسبها.
ويقول مصدرٌ قريبٌ من المجلس الرئاسي، إن الحوار الذي رعته الأمم المتحدة بين أطراف ليبية في بلدة الصخيرات المغربية، ونتجَ عنه «المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني»، تعاملَ معه كثيرٌ من قيادات قبائل غير عربية، باعتباره بارقة أمل لطرح حقوق الأقليات على الطاولة، ومنها الاعتراف، في دستور البلاد، بالعلم الأمازيغي وباللغة الأمازيغية لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية.
ويضيف المصدر: «في مطلع العام الماضي، وأثناء الإعداد في تونس لدخول مجلس السراج إلى العاصمة، قدَّم بعض كبار الساسة الأمازيغ بوادر حسن نية؛ فقد أبلغوا السراج أنَّهم لن يقفوا مع المعارضين لدخوله طرابلس، وأنه إذا لم يستطع العمل من العاصمة، فيمكن لهُ أن يباشر مهام إدارة الدولة، مؤقتا، من مدن ذات أغلبية أمازيغية، مثل غدامس أو زوَّارة».
وحين ركب السراج البحر في طريقه إلى «قاعدة بوستة» في طرابلس بنهاية مارس (آذار) الماضي، ظهر متطوعون أمازيغ قرب القاعدة، وهم يشاركون في تنظيف الشوارع وغرس الورود، لاستقبال أعضاء المجلس الرئاسي، ومن بين هؤلاء الأعضاء موسى الكوني، بينما كان العلم الأمازيغي يرفرف مع العلم الليبي أيضا أعلى الأسوار.
وبمرور الوقت بدأت شكوك قادة من الأمازيغ والطوارق والتبو تتزايد بشأن قدرة السراج على الإمساك بزمامِ الأمور. وأخذتْ الأوضاع تتجه إلى الانفلات، وأدَّى الاحتراب بين الميليشيات، التي يتكون معظمها من مقاتلين عرب، إلى تبدد طموحات «المكونات الثقافية»، مرة أخرى، وأمام هذا الانسداد تفجرت حروب صغيرة بين الطوارق والتبو في الجنوب، ومناوشات بين أمازيغ وعرب حول طرابلس شمالا، ودخلت أطراف إقليمية ودولية على الخط لاستغلال الوضع، وتحقيق مكاسب خاصة في المنطقتين الغربية والجنوبية، وهي غنية بالنفط والغاز والذهب واليورانيوم. كما ازدادت الأوضاع تعقيدا في مدنٍ مطلة على البحر، مع احتدام الصراع بين كتلتين كبيرتين... الأولى: القوات المدججة بالأسلحة الثقيلة في طرابلس وما حولها، حيث يغلب عليها الطابع الديني المتشدد. والثانية: «الجيش الوطني» الذي يقوده المشير خليفة حفتر في بنغازي وما حولها، وهي كتلة ذات طابع علماني، خصوصا حين أخذ كل طرف من هذين الطرفين يغري أبناء الأقليات العرقية بالانضمام له في القتال، على وعدٍ ببحث مطالبه الخاصة باللغة والعَلَم، وغيرها، مستقبلا. وأظهر غالبية التبو تمسُّكا بالعمل تحت قيادة المشير حفتر. وخاض قادة عسكريون من التبو معارك ملحمية ضد تواجد الميليشيات المتطرفة في الجنوب وفي بعض مدن الشمال، مثل بنغازي، من بينهم العميد عيسى آبه.
ولم يكن عبد المجيد راضيا عما يجري؛ من ناحية، استمر على موقفه في معارضة مجلس السراج، حيث وصفه بأنه «مجلس وُلد ميتا»، منذ البداية، ومن ناحية أخرى، استمرَّ في موقعه نائبا لرئيس البرلمان للشؤون الأفريقية، وهو يشعر بوطأة الضغوط من قبيلته التي تحارب مع حفتر دون أي ضمانات بشأن المستقبل. وكان من بين الخلافات إصرار حفتر والبرلمان، على تسمية الجيش «القوات المسلحة العربية الليبية»، وليس «القوات المسلحة الليبية».
وبشكل عام لم تظهر أي مشاركة يُعتد بها من جانب ممثلي الأقليات خلال حوار الصخيرات، بغض النظر عن اختيار الكوني نائبا للسراج، لكن مما لا شك فيه أنَّ المبعوث الأممي إلى ليبيا، مارتن كوبلر، كان حريصًا على الاستماع إلى ممثلين قبليين لهذه الأقليات، حتى لو كان ذلك قد حدث بعد توقيع الاتفاق، وهو أمرٌ قامَ به السراج أيضا مع بعض ممثلي التبو، إلا أنَّ محاولات كهذه يبدو أنها جاءت متأخرة، حيث ظهر أن هناك جِراحًا كان ينبغي مداواتها مبكرًا.
وبينما كانت الجامعة العربية تسعى للدخول لحلحلة الملف الليبي، وتعيين مبعوث خاص لهذا الغرض، هو السفير التونسي صلاح الدين الجمالي، نقلت وسائل إعلام عن السفير الجزائري الذي يشغل موقع نائب الأمين العام للجامعة، أحمد بن حلي، قوله في تصريحات صحافية إن ليبيا «لا يوجد فيها أقليات أو عرقيات». ولم يتسن التواصل مع بن حلي لتوضيح المقصود بهذه النقطة التي أدت لردود فعل غاضبة من جانب قادة من التبو والأمازيغ والطوارق. يقول عبد المجيد: «هذا موقف غريب... هذا فيه تجاهل للواقع الليبي».
ومن جانبه، هاجمَ فتحي بن خليفة، الجامعة العربية، ووصفها بأنها «منظمة إقصائية». ويضيف: «لا أعتقد أن هناك عاقلا موضوعيا يمكن له أن يتعامل مع الجامعة العربية أو يتناول معها أي أمور بشكل ديمقراطي وليبرالي حقيقي... من اسمها هي عبارة عن شيء فئوي نخبوي عرقي عربي».
وعما إذا كان الأمازيغ ما زالوا يقاطعون لجنة صياغة الدستور، أجاب قائلا: «بالطبع... نحن نقاطع كل الهياكل التشريعية... قاطعنا البرلمان ولم نترشح، ولم نخض جولة الانتخابات، ونقاطع الهيئة الدستورية من منطلق أننا نتحدث من مفهوم الدولة بمعناها الشامل بوصفها مظلة مدنية تحمي المواطنين بمساواة وبعدل... نحن لا نتكلم عن مفهوم الحكم بل عن الدولة».
وتابع موضحا: «الجميع، بمن فيهم المجتمع الدولي، يتدخل في الشأن الليبي ويخوض في الشأن الليبي من منطلق مَنْ يحكم. نحن لا نفكر بهذه الطريقة». ويقول إن الأمازيغ يراهنون على الدولة، و«الدولة قوامها الدستور، وبالتالي لا تهاون ولا استخفاف ولا تنازل في الاستحقاقات التشريعية، وعلى رأسها الاستحقاق الدستوري... هذه المعطيات وهذه الأفكار بعيدة كل البعد عن رؤى الآخرين». ولا يتفق بن خليفة مع الطرح الوارد من الشرق الليبي، لأن من يتبنونه هم - كما يقول - «بقايا الفكر القومجي»، و«الوحدة العربية».
ولا يتفق كذلك مع المشروع الذي تتبناه ميليشيات في الغرب الليبي، لأنه مشروع يتحدث عن «خلافة موهومة، وعن أمة دينية، والعودة إلى الوراء برؤية المستقبل... هذا شيء ينافي العقل والمنطق».
ويعد الأمازيغ في ليبيا «مكونًا ثقافيًا» أكثر التفافا حول هويته الخاصة، مقارنة بالطوارق والتبو، وهذا أمر كان يقلق القذافي. وينتشر الأمازيغ في عدة بلدان في شمال أفريقيا، منها الجزائر والمغرب وتشاد ومالي وبوركينا فاسو. ويتكون العلم الأمازيغي من ثلاثة ألوان أفقية؛ أزرق، وأخضر، وأصفر. ويتوسطه حرف «الزاي» باللغة الأمازيغية باللون الأحمر. وتأسس الكونغرس الأمازيغي، الذي كان يرأسه الليبي، بن خليفة، بوصفه منظمة غير حكومية، قبل نحو عشرين عاما، وترأسه، منذ عام 2015 الجزائرية كاميرا نايت سيد.
وقبل عدة أيام احتفل السكان الأمازيغ في شمال أفريقيا برأس السنة الأمازيغية 2967، بما فيها ليبيا، التي حرص فيها نشطاء أمازيغ في ملابس ملونة على التذكير بحقوقهم، ودعوة الليبيين للتصالح حفاظا على الوحدة الوطنية؛ يقرعون الطبول ويعزفون موسيقاهم الخاصة، وهذا مكسب في حد ذاته مقارنة بالماضي. فقد كان القذافي يقف ضد الاحتفال برأس السنة الأمازيغية، خشية تسببها في التفريق بين الليبيين، كما لم يكن متحمسا لتسجيل الأسماء غير العربية وغير الإسلامية لمواليد الأمازيغ، في سجلات الدولة.
في الوقت الراهن عادتْ مشاعر الإحباط للأمازيغ وأقرانهم من الطوارق والتبو، لأن المطالب الكبيرة لم يتحقق منها أي شيء يذكر. لم تعد غالبية القيادات الأمازيغية تعوِّل على حكومة السراج الضعيفة، وربما كان هذا أحد أسباب «الانقلاب» على المجلس الرئاسي من جانب حكومة خليفة الغويل، المنبثقة عن المؤتمر الوطني العام الذي يرأسه نوري أبو سهمين، وهو من أصول أمازيغية، وما زال أبو سهمين متمسكا بـ«المؤتمر» بوصفه جسما تشريعيا، رغم انتهاء دوره باتفاق الصخيرات، وإحلال جسم استشاري بدلا منه اسمه «المجلس الأعلى للدولة» برئاسة القيادي المصراتي، عبد الرحمن السويحلي.
كما أن استقالة الكوني - وفقا لمصدر من زعماء الطوارق - كانت لها أسباب، من بينها أنَّ الرجل لم يكن يكتفي بالتعامل في المجلس الرئاسي بصفته قائدا «قبليا طارقيا» فقط، ولكنه كان يعتبر نفسه ممثلا لجميع قبائل إقليم فزان (جنوب ليبيا) في مجلس السراج.
ويضيف المصدر أن مقترحات كثيرة تقدم بها الكوني للمجلس الرئاسي، تخص الجنوب، يبدو أنه جرى تجاهلها، ما دفعه في نهاية المطاف إلى تركِ منصبه؛ ومن بين هذه المقترحات، ضرورة تدخل المجلس بشكل جدي ومحايد لمنع تدفق السلاح لأطراف قَبَليِّة، ومنها كذلك مزاعم عن سحب أطراف في حكومة السراج لعقود شركات جنوبية ومنحها، في المقابل، لمحسوبين على رجال أعمال من المدن الليبية الشمالية.
ويشير المصدر نفسه إلى غضب الكوني أيضا من خلو قائمة تعيين سفراء ليبيين في الخارج من جميع الأسماء التي قدمها للمختصين بتسمية السفراء الجدد، وتابع قائلا إنَّ الكوني رَاهنَ، بعد كل هذه الإحباطات التي تسببت في إحراجه أمام أبناء الجنوب، على أنَّ المستقبل ليس مع المجلس الرئاسي، ولكن مع قبيلته؛ الطوارق، ومع غيرها من قبائل دعمت ترشحه لعضوية هذا المجلس، وبالتالي وجد في الاستقالة طوق نجاة من سفينة السراج.
خروج قيادات طارقية وتباوية، مثل الكوني في الغرب، وعبد المجيد في الشرق، من المشهد، إضافة لموقف القيادي الأمازيغي، أبو سهمين، يجعل المشكلة أكثر تعقيدا، وبخاصة أن الأمازيغ وبعضا من قيادات الطوارق والتبو كانوا قد قاطعوا، منذ البداية، الانتخابات البرلمانية ولجنة صياغة الدستور، احتجاجًا على تجاهل معاناتهم وعودتهم مرة أخرى إلى المربع الأول، ولم تأتِ وسائل الضغط هذه بالنتائج المرجوَّة في ظل مصاعب اقتصادية وانفلات أمني واضطراب سياسي بلا حُدود.
وعن موضوع اللغة والمطالب الخاصة بـ«المكونات الثقافية الليبية»، يقول عميش إن هذا الموضوع سوف يعتمد على ما ستطرحه الأغلبية خلال المرحلة المقبلة، مشيرا إلى أن البلاد مُنقسمة، في الوقت الراهن، بين ثلاث حكومات. ويُوضح قائلا: «بعد أن تستقر الدولة سيجري بحث حق الأمازيغ في استعمال لغتهم، وسيحصلون على حقوقهم الطبيعية العادلة».
ويضيف رئيس لجنة العدل والمصالحة الوطنية: «هم لا يشكلون في مجموعهم إقليمًا بكامله، حتى يَكُونُوا بشكل مُعيَّن، لكنهم أجزاء موزعة في عدة مدن». ويزيد عميش قائلا إن أغلب التبو والطوارق في صراعات مع بعضهما بعضا، في عدة مناطق، وفي الوقت نفسه يتعاملان مع الواقع الموجود الآن، ولا يطالبان بتضمين لغتهما الخاصة في الدستور، كما يفعل الأمازيغ. وينظر عميش إلى لهجة بعض المتشددين للقومية الأمازيغية في ليبيا، في هذا التوقيت، باعتبارها محاولة، من جانب أطراف دولية، لخلق مزيد من التعقيد في المنطقة العربية وإذكاء الصراعات فيها، قائلا إن «موضوع الأمازيغ في ليبيا لم يكن أبدا يمثل أي مشكلة».
ومن جانبه، يوضح الدكتور سلامة بشأن الكتلة العددية لـ«المكونات الثقافية الليبية» بقوله إنه لم يسبق إجراء إحصاء لهم... «لا تستطيع أن تقول كم عدد الأمازيغ، أو كم عدد التبو والطوارق... وليس لكل هؤلاء كتلة بشرية بارزة، حتى تجمعاتهم بصفتهم سكان مناطق، دائما السقف لا يتجاوز نحو 10 آلاف نسمة لكل منطقة... وفي الإجمالي لا توجد إحصاءات».
وعن الوضع الحالي في ظل تعدد الحكومات وحالة الاحتراب بين الخصوم، يقول سلامة إن «الانقسام السياسي في ليبيا أثَّرَ على التوجهات السياسية لهذه المكونات الثقافية... مثلا التبو أقرب إلى معسكر السيد حفتر، والطوارق محسوبون على فجر ليبيا في المنطقة الغربية، الأمازيع منقسمون؛ منهم من هو محسوب على فجر ليبيا وفيهم من يقف على الحياد».



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.