مناضد طويلة للاستخدامات كافة... والأثاث يقرر مساحة البيت

1360 شركة من 50 بلدًا تشارك في معرض كولون للأثاث

المطبخ ينسجم مع غرفة الطعام والاستقبال  -  البيت بديلاً مريحًا للمكتب والمطعم
المطبخ ينسجم مع غرفة الطعام والاستقبال - البيت بديلاً مريحًا للمكتب والمطعم
TT

مناضد طويلة للاستخدامات كافة... والأثاث يقرر مساحة البيت

المطبخ ينسجم مع غرفة الطعام والاستقبال  -  البيت بديلاً مريحًا للمكتب والمطعم
المطبخ ينسجم مع غرفة الطعام والاستقبال - البيت بديلاً مريحًا للمكتب والمطعم

في المعرض الدولي للأثاث في كولون 2017 عرضت معظم الشركات المساهمة في المعرض مناضد طعام من أطوال كبيرة؛ تعبيرًا عن نزعة تحول المنضدة إلى مكان عمل واجتماع أفراد العائلة. وطبيعي أن النزوع إلى قطع الأثاث الكبيرة، مثل مائدة الطعام، والعودة إلى موضة «الديكور» باستخدام الرفوف والثريات والمجسمات، يعزز النزعة الثابتة في عالم الأثاث منذ سنوات، وهي أن الأثاث يفرض مساحة منزل كبيرة.
وشاركت في معرض الأثاث الدولي، وهو الأكبر من نوعه في العالم، أكثر من 1360 شركة من أكثر من 50 بلدًا. واحتلت المعروضات كافة قاعات المعرض، كما امتدت العروض إلى ساحات المدينة، وإلى مخازن بيع الأثاث الضخمة التي قدمت عروضها الخاصة بالمناسبة.
إنه عالم من الألوان الساحرة، اختيرت فيه قطع الأثاث بدقة لتنسجم مع الستائر وألوان الجدران والمناضد والكراسي، وشعارها الأساسي هذا العام هو أن تكون قطع الأثاث أكثر ما تكون مريحة، وأكثر ما تكون «وظيفية»، بمعنى تعدد استخداماتها لمختلف الأغراض، وأكثر ما تكون متحركة. فالمعرض يريد البيت بديلاً «مريحًا» للمكتب وللمطعم، بل وحتى للرحلات السياحية.
فهناك طاولة يغوص الكومبيوتر والأجهزة الأخرى في جوفها كي تتحول إلى مائدة طعام، وأرائك يمكن تفكيكها وإعادة تركيبها بتصاميم مختلفة تناسب مختلف المناسبات، ومقاعد يمكن التحكم في ارتفاعها كي تناسب الصغار والكبار وطوال وقصار القامة...إلخ.
* البيت الاجتماعي
وذكر ماركوس ماجيروس، المتحدث باسم المعرض، أن الموائد الطويلة تعبر عن النزوع نحو «البيت الاجتماعي». فالطاولة الطويلة تتسع لعمل الأب على كومبيوتره، وإلى الطفل وهو يؤدي واجباته المدرسية بإشراف والديه، وللابن الشاب وهو يعبث بجوّاله، وللأم وهي تؤدي عملها المنزلي. وكل هذه المناضد قابلة للتمدد أو التقلص حسب الحاجة، كما أن معظمها مجوف و«يبتلع» الأجهزة داخله، كما أنها مزودة بأدراج تتسع لأدوات الطعام.
وكمثل فقد عرضت شركة «ثونيت» الألمانية منضدة طولها 3.6 متر قابلة للتمدد إلى 4.2 متر، وعرضت شركة «أركو» منضدة طولها 2.5 متر يمكن أن تتمدد إلى 3.30متر.
وتعبر نزعة المناضد الطويلة عن الميل الواضح منذ عشرين سنة نحو اندماج المطبخ بغرفة الطعام وغرفة الجلوس في غرفة واحدة واسعة. وكان للعائلة منضدة صغيرة في المطبخ، وأخرى أكبر في غرفة الجلوس، ثم طاولة أخرى أكبر في غرفة الطعام، لكن العائلة لا تحتاج اليوم إلى أكثر من منضدة واحدة متعددة الوظائف.
* تحول الأثاث إلى كولاج
يكشف المعرض الدولي للأثاث في كولون (16 إلى 122 - 1 - 2017) عن نزوع واضح للإكثار من الديكور، سواء كان بشكل رفوف كتب، أو مناضد صغيرة أو لوحات أو تماثيل...إلخ. وواضح أن الإكثار من الديكور يعني من جديد الحاجة إلى مساحة منزل أكبر.
ولاحظ فرانك راينهارد، الباحث في شؤون الموضة، أن الديكورات وقطع الأثاث التركيبية (يمكن فصلها وإعادة تركيبها بأشكال أخرى) حوّل البيت في معرض كولون إلى «كولاج». المهم في هذه النزوع أيضًا أنه لا يقتصر على قطع أثاث تركيبية؛ لأن أجزاء قطعة الأثاث الواحدة صار من الممكن «كولاجها»، بمعنى دمجها، مع قطع أثاث أخرى.
وتتميز قطع أثاث اليوم بالقدرة على الحركة، فالرفوف العالية والمناضد والدواليب مزودة بعجلات، ولو عرفنا أن بيت المستقبل سيكون بلا جدران حقيقية في معظمه (جدران متحركة أيضًا)، لعرفنا بأن هذا يتيح تغيير دواخل وديكور البيت بشكل كامل، وحسب الرغبة.
* بيت المستقبل... كرة واحدة تنيره
ونال شرف تصميم «بيت المستقبل» هذا العام في معرض الأثاث الأميركي الشاب تود براخر. ويستطيع الزائر أن يتمتع بالتجوال في بيت مستقبلي من 200 متر صممه الأميركي في القاعة 2 ليكون «غذاء للروح» ودار استراحة «للمقاتل»، بحسب تعبيره.
وبعد البيت الصغير ذي الخمس غرف، من تصميم الصينيَين «نيري أند هو» في معرض 2015، وصوّر بيت العائلة الصينية في المستقبل، يقول براخر إنه لا يريد بيتًا أميركيًا، وإنما بيتًا يمد جسوره إلى أوروبا عبر الأطلسي. وزود الغرف بالكثير من رفوف الكتب الكبيرة الخاصة بـ«تغذية الروح»، التي تعمل جدرانا وفواصل في آن واحد.
في بيت براخر لا جدران ثابتة إلا في غرف النوم والحمام، أما بقية الجدران فشفافة أو متحركة تتيح تفصيل البيت والغرف مع نمو عدد أفراد العائلة. وبعض الجدران عبارة عن أنسجة مضببة أو شفافة؛ تعبيرًا عن انفتاح منزل المستقبل على الطبيعة. وهناك غرفتان يمكن أن تنفتح جدرانهما كي تصبحا بلكونين كبيرين.
ومنح براخر السقوف الحركة أيضاَ؛ فهي سقوف يمكن أن تنفتح على السماء (في الصيف مثلاً) أو أن تنغلق بلمسة زر في الشتاء. أما الغرف، أو «المناطق الحرة» كما يسميها المصمم، فهي في معظمها خالية من الزوايا، وعبارة عن مناطق متعددة الوظائف. ووضع المصمم الهندسي الحمام قرب باب البيت، وزوده بسقف زجاجي شفاف متحرك، كي يستطيع الإنسان عند الاستحمام الشعور بأنه أقرب ما يكون إلى الطبيعة.
ويمكن في بيت المستقبل الاعتماد على مصدر ضوء واحد، فضلاً عن المصادر الأخرى في كل غرفة، وهو عبارة عن كرة كبيرة في الوسط تشبه الشمس في النهار، أو القمر في المساء. وغني عن القول أن مصدر الضوء الكبير لا يثير قلقًا من ناحية استهلاك الطاقة؛ لأنه يعمل بالكهرباء المستمدة من الطاقة النظيفة.
* لوحة الطبخ تلاحق الطنجرة
وفي المطابخ تحولت تصاميم المطبخ كي تنسجم مع غرفة الطعام والاستقبال. ولهذا؛ فإن أغلب الأجهزة الكهربائية «مخفية»، بمعنى أنها تغوص عند اللزوم داخل دواليب المطبخ. أما المواد السائدة في صناعة المطابخ فهي الخشب والألمنيوم والمرمر (في منصات العمل).
شاهدنا في المعارض السابقة الثلاجات التي تخبر عن نقص المواد الغذائية، والثلاجات المزودة بشاشة تلفزيون، والأخرى التي تنذر بالحريق. أما مطابخ 2017، فهي «شخصية»، بحسب تعبير شتيفان كنكل من شركة «نيف» المعروفة التابعة لعملاق الصناعة الإلكترونية الألماني سيمنز. لأن مطابخ اليوم تستجيب لرغبة العائلة واحتياجاتها وطريقة طبخها. فهناك مطابخ مزودة بأجهزة شواء سريعة مصنوعة من سبائك معدنية ترتفع إلى حرارة قصوى خلال ثوان. ومطابخ مزودة بأنظمة لطبخ «الووك» الصينية، ومطابخ مزودة بفرن لطبخ الرز...إلخ
وسلسلة مطابخ ستوديولاين من سيمنز (نيف) تحتوي على درج مفرغ من الهواء، وهو درج يعمل بمثابة جهاز تفريغ من الهواء لحفظ الأغذية المطبوخة والنيئة طوال أيام، وفي درجات حرارة مرتفعة. وزودت الشركة مطابخها بأفران تعمل ببخار الماء الحار تماشيا مع رغبة الانتقال من القلي إلى السلق؛ حفاظًا على الصحة واللياقة. وكما في المعرض قبل سنتين، فإن كل أبواب أفران «نيف» تنزلق تحت الفرن ولا تنفتح إلى الخارج، وهي طريقة لوقف تعرض أيدي الطباخين للحروق. كما وفرت الشركة في الطباخ، من مساحة 80 سنتمترًا مربعًا، مكانًا لساحبة الهواء. وتعمل هذه الساحبة على شفط الأبخرة والدهون إلى الأسفل، وتعتبر بديلاً مستقبليًا لأجهزة سحب الأبخرة فوق الرأس.
وفي ألواح مادة السيران الزجاجية في الطباخات، التي تعمل بالحث الحراري، صارت هذه الألواح تتابع قاعدة الطنجرة وتستعر بالضبط تحتها، وبالدرجة الحرارية المناسبة، كلما حرك الإنسان الطنجرة من مكانها.
ورغم النزوع الظاهر إلى الحديث والمستقبلي، فهناك نزوع آخر لا يمكن نكرانه للتصاميم القديمة. وتحدث غيرالد كليمكه، من اتحاد صناع الأثاث الألمان، عن «حنين» واضح إلى تصاميم القرون الوسطى، وإلى أثاث الخمسينات والسبعينات من القرن العشرين. إلا أن هذا النزوع يشمل التصاميم والألوان والرياش والديكور، لأن قطع الأثاث هذه محملة بالحديث المتمثل بالحركة والتعدد الوظيفي التركيبية.
عموما، منح الألماني مبلغ 412 يورو لشراء الأثاث كمعدل في سنة 2016، وهذا رفع مداخيل قطاع الأثاث الألماني لأول مرة إلى 33.4 مليار يورو.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)