ماي ترسم خطة خروج بريطاني «سلس» من «الأوروبي»

ترحيب مبدئي من سياسيي الاتحاد وانتقادات من معارضة الداخل

رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي
رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي
TT

ماي ترسم خطة خروج بريطاني «سلس» من «الأوروبي»

رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي
رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي

رسمت رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي أمس ملامح خطة خروج بلادها من الاتحاد الأوروبي في 12 نقطة مفصلة. وأكدت ماي في الكلمة التي ألقتها من قصر «لانكستر هاوس» بالعاصمة لندن أن البرلمان البريطاني سيتمكن من التصويت على أي اتفاق نهائي بشأن خروج البلاد من الاتحاد، في أعقاب ضغط من البرلمان ليكون له كلمة أكبر في عملية الخروج. وقالت: «أستطيع أن أؤكد اليوم أن الحكومة ستطرح الاتفاق النهائي للتصويت عليه في البرلمان بمجلسيه قبل أن يتم العمل به». وأضافت، «إننا نغادر الاتحاد الأوروبي، ولكننا لا نغادر أوروبا». مؤكدة على أن الاستفتاء الذي أجري العام الماضي حول الخروج من الاتحاد الأوروبي، كان «تصويتا لاستعادة... ديمقراطيتنا البرلمانية»، ولكي نكون «أكثر ميلا للتوجه الدولي».
وعند عرضها نقاط الخطة الـ12 أكدت على أنهم وضعوا «لتحقيق هدف واحد كبير: شراكة جديدة وإيجابية وبناءة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي». وفصّلت ماي أهم الخطوط العريضة لخططها بشأن كيفية التفاوض للخروج من الاتحاد، وأهمها إنهاء الشكوك والضبابية فيما يتعلق بعملية الخروج من الاتحاد الأوروبي، والسيطرة على القوانين الخاصة ببريطانيا، وإنهاء أي تدخل لمحكمة العدل الأوروبية في الأراضي البريطانية.
كما أكدت ماي أن الخطة ستطالب بالخروج من عضوية السوق الأوروبية الموحدة وإنشاء تجارة مع الأسواق الأوروبية من خلال إبرام اتفاقية التجارة الحرة. ودعت إلى إبرام اتفاقيات تجارية جديدة مع الدول الأخرى والخروج الكامل من «الاتحاد الجمركي الأوروبي» في مساع لتوسيع التعاون الاقتصادي مع دول خارج «الأوروبي».
أما في مجال مكافحة الجريمة والإرهاب، أكدت ماي أن بريطانيا ستحافظ على علاقتها مع لتشمل اتفاقات عملية في قضايا فرض القانون وتبادل المعلومات والاستخبارات. وكشفت أن بريطانيا ستحد من أعداد الهجرة ضمن خطها إذ تعتزم ضبط عدد الوافدين إلى البلاد من أوروبا مع منح الأولوية «للأفضل والأذكى»، ما قد يعني وجود نظام تأشيرات جديدة خاصة للعمالة الماهرة. ولكنها أكدت على أهمية احترام حقوق مواطني الاتحاد الأوروبي في بريطانيا الذين يبلغون اعتبارا من اللحظة الراهنة أكثر من مليوني نسمة والرعايا البريطانيين في دول الاتحاد البالغ عددهم نحو مليون نسمة، حيث ليست هناك ضمانات راهنة بإمكانية الاحتفاظ بإقاماتهم الحالية.
وتضمنت الخطة قرارا لحماية حقوق العمال من خلال البناء على أسس قوانين العمل الأوروبية لضمان مواكبتها للأحداث، مع التعبير عن أصوات العمال في مجالس إدارات الشركات.
وفي سياق خطابها، أكدت ماي على أهمية تعزيز الأواصر بين الدول الأربع المكونة للمملكة المتحدة والمحافظة على «منطقة التنقل» المشتركة مع آيرلندا، ما يعني ضمنيا عدم وجود حدود ثابتة مع آيرلندا الشمالية.
وأكدت ماي بتفاؤل أن خطة الخروج ترمي إلى جعل بريطانيا أفضل مكان للعلوم والابتكارات والترحيب لمواصلة التعاون مع الشركاء الأوروبيين بشأن المبادرات العلمية، والبحثية، والتقنية. ووعدت بـ«بريكست» سلس ومنظم يتحقق تدريجيا لما بعد مارس (آذار) من عام 2019.
وأمام بريطانيا مهلة عامين من التفاوض على اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي فور تفعيل ماي المادة 50 من معاهدة لشبونة التي تعد إعلانا رسميا بنية بريطانيا للخروج من الاتحاد، وإلا فإنها تخاطر بالخروج من الاتحاد دون التوصل إلى اتفاق. ووعدت ماي بتفعيل المادة 50 بنهاية مارس (آذار)، وقالت إنها تعتقد أنه يمكن التفاوض على تسوية نهائية واتفاق تجارة بشكل متزامن في إطار عامين. ويشكك البعض في هذا الإطار الزمني، حيث قال وزير خارجية النمسا هانز يورغ شلنغ إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيستغرق خمس سنوات. وأضاف: «من غير الواضح ما إذا كان من الممكن التفاوض على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وشروط التعاون المستقبلي في نفس الوقت».
وفي مسعى لتهدئة المخاوف من حدوث صدمة في الاقتصاد في حال الخروج المفاجئ من الاتحاد الأوروبي، قالت ماي إنها ستسعى إلى «عملية تنفيذ تدريجية» للخروج. وسيلقى توجهها ترحيبا من الراغبين في الخروج من الاتحاد الأوروبي، إلا أنه سيثير مخاوف من تأثيره على الاقتصاد البريطاني.
فمن جانبه قال ديفيد ديفيز الوزير البريطاني المسؤول عن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في كلمة أمام البرلمان أمس إن نهج بريطانيا للانسحاب من الاتحاد ليس انتقاء العناصر الأفضل لها، وذلك بعد أن حددت رئيسة الوزراء تيريزا ماي أولوياتها للمفاوضات المقبلة.
وقالت ماي إن بريطانيا ستسعى إلى شراكة متكافئة مع الاتحاد الأوروبي لكنها لن تتبنى نماذج استخدمتها بالفعل دول أخرى لديها اتفاقيات للتجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي. وأضاف قائلا: «منهجنا لا يتعلق بعملية انتقاء بل التوصل لاتفاق يناسب أهداف الجانبين كليهما».
كما نقلت عنه وكالة رويترز للأنباء قوله، «ندرك أن الاتحاد الأوروبي يريد الحفاظ على حرياته الأربع وأن يرسم مساره الخاص. هذا ليس مشروعا ستكون الآن المملكة المتحدة جزءا منه ولذلك نحن سنغادر السوق الموحدة ومؤسسات الاتحاد الأوروبي».
وأثنى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فاعتبر في مقابلات صحافية الأحد أن بريكست هو «أمر عظيم»، معلنا عزمه إبرام اتفاق تجاري مع بريطانيا «سريعا».
ولكن اتفاقا كهذا يصعب تحقيقه سريعا على أرض الواقع إذ لا يسمح لبريطانيا بتوقيع اتفاقات تجارية مع طرف دولي ثالث قبل أن تخرج رسميا من الاتحاد الأوروبي. وبموجب قانون الاتحاد الأوروبي فإن فترة تفاوض أي دولة للخروج تمتد على عامين.
ولكن حتى لو حصلت خطة ماي على تأييد واسع، إلا أن الطعون القانونية يمكن أن تعرقل تنفيذها في إطار الموعد الزمني المحدد.
قال رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي دونالد تاسك إن خطاب رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي بشأن الانسحاب من الاتحاد «أكثر واقعية على أقل تقدير»، مضيفا أن الدول الأعضاء السبع والعشرين الأخرى لا تزال متحدة ومستعدة للتفاوض.
وأضاف تاسك، الذي سيشرف على المفاوضات نيابة عن الدول الأخرى الأعضاء على «تويتر» بعدما حددت ماي أولوياتها بشأن مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي، «عملية حزينة... لكنه إعلان أكثر واقعية على أقل تقدير بشأن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي».
وتابع: «(الدول الأعضاء) السبع والعشرون بالاتحاد الأوروبي متحدون ومستعدون للتفاوض بعد المادة 50»، في إشارة إلى المفاوضات المقرر أن تبدأ عندما تعلن ماي رسميا انسحاب بريطانيا بموجب المادة 50 من معاهدة الاتحاد الأوروبي.
وهو ما أكده مفاوض المفوضية الأوروبية الفرنسي ميشال بارنييه على «تويتر» قائلا إن «خروجا منظما (لبريطانيا) شرط مسبق أساسي» للعلاقة المقبلة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، حسب ما نقلت وكالة الصحافة الفرنسية.
وأضاف بارنييه «إن اتفاقا منظما حول خروج بريطانيا شرط مسبق أساسي للشراكة المقبلة. أولويتي هي التوصل إلى اتفاق جيد للدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي».
وكانت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي أعلنت في خطاب قبل ساعات أن بلادها «ستخرج من السوق الأوروبية الموحدة».
وقالت إنه لا يمكن لبلادها البقاء في السوق الأوروبية الموحدة، ودعت إلى «شراكة جديدة منصفة» لن تترجم بوضع الدولة العضو الجزئي أو الشريك للاتحاد.
ودعت أيضا إلى «تطبيق ذلك على مراحل» تفاديا «لتغيير جذري» بعد إنهاء مفاوضات بريكست.
وهذه المفاوضات التي ستستمر عامين ستبدأ مع تفعيل المادة 50 في معاهدة لشبونة، ووعدت ماي بأنها ستطلق في نهاية مارس (آذار).
وكتب بارنييه في تغريدة ثانية «إننا مستعدون عندما تكون بريطانيا مستعدة. وحده تفعيل (المادة 50) قادر على إطلاق مفاوضات» بريكست.
وعلق جي فيرهوفشتات مفاوض البرلمان الأوروبي لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بأن الاعتقاد بأن بريطانيا يمكن أن تحظى بمزايا السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي دون قبول الالتزامات التي تستتبع ذلك «وهم».
وقال فيرهوفشتات أيضا إن الاتحاد الأوروبي لن يقبل اتفاقا بشأن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يجعل بريطانيا في وضع أفضل من عضويتها بشكل كامل في الاتحاد.
أما الموقف الألماني فعبر عنه وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير مرحبا «بالوضوح الأكبر نوعا ما» الذي قدمته رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي بشأن الشكل الذي تريده لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قائلا إن من الجيد أن توضح أنها تريد العمل بشكل بناء مع الاتحاد الأوروبي.
وأضاف في بيان بعد كلمة ألقتها ماي حددت فيها أولوياتها فيما يتعلق بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي: «أكدت أن بريطانيا العظمى تسعى إلى شراكة إيجابية وبناءة وصداقة مع اتحاد أوروبي قوي.. هذا شيء جيد».
وقال شتاينماير إن ألمانيا تريد أيضا أن تكون هناك علاقات أوثق وأكثر ثقة مع بريطانيا، لكنه كرر أن المفاوضات لا يمكن أن تبدأ إلا عندما تفًعل الحكومة البريطانية المادة 50 لبدء محادثات الخروج من الاتحاد.
في تعليقها على خطاب تيريزا ماي رئيسة الوزراء البريطانية بشأن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي قالت نيكولا ستيرجن رئيسة وزراء اسكوتلندا إن اسكوتلندا يجب أن يكون لها حق اختيار الاستقلال عن بريطانيا إذا رفضت مطالبها بشأن خطة تجارة جديدة لبريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.
وبحسب تقرير لـ«رويترز» فقد قالت ستيرجن إن خطة الخروج من الاتحاد الأوروبي التي عرضتها رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي في وقت سابق أمس تمثل «كارثة اقتصادية» لبريطانيا وإن اسكوتلندا لم تصوت لصالحها.
وصوت الاسكوتلنديون لصالح البقاء داخل الاتحاد الأوروبي في يونيو (حزيران) على خلاف تصويت بريطانيا ككل للانسحاب من الاتحاد الأوروبي. وقدمت ستيرجن عدة احتجاجات بشأن موقف اسكوتلندا للحكومة.
وقالت: «مع استمرار مناقشة هذه المقترحات ومع تأكيد رئيسة الوزراء اليوم مجددا تعهدها بأن تولي اهتماما بخطتنا فإننا لم نر بعد أي دلائل على أن صوت اسكوتلندا يسمع أو أن مصالحنا تؤخذ في الاعتبار».
وأضافت: «لا يمكن السماح للحكومة البريطانية بإخراجنا من الاتحاد الأوروبي ومن السوق الموحدة بصرف النظر عن آثار ذلك على اقتصادنا وفرص العمل ومستويات المعيشة وعلى سمعتنا كدولة منفتحة متسامحة دون أن يكون لدى اسكوتلندا القدرة على الاختيار بين ذلك وبين مستقبل مختلف».
وتابعت: «رئيسة الوزراء لم تنجح بتصريحاتها اليوم سوى في زيادة فرص مثل هذا الاختيار».
وحسب ما نقلت وكالة الأنباء الألمانية فقد وصف السياسيون المعارضون لرئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي والمؤيدون للبقاء داخل الاتحاد الأوروبي، خطتها للانسحاب من السوق الموحدة التابعة للاتحاد الأوروبي بأنها «متهورة» و«مدمرة»، وبأنها عبارة عن «فوضى تامة».
وتساءل ديفيد لامي وهو عضو بمجلس النواب عن حزب العمال أكبر أحزاب المعارضة البريطانية على حسابه بـ«تويتر» قائلا: «هل انتظرنا شهورا من أجل ذلك؟. من أجل ماذا انتظرنا بالضبط؟».
وقال لامي إن التصريحات المسبقة لماي بدت «من دون معنى على الإطلاق، و«خالية من أي مضمون»، وأضاف: «يا لها من فوضى تامة».
بينما قال تيم فارون زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي: «يمكنك أن تطلق على هذه الخطة للخروج من الاتحاد الأوروبي أنها نظيفة أو حمراء أو بيضاء أو زرقاء أو أي وصف تريده».
وأضاف فارون: «غير أن مثل هذه الأوصاف لا يمكن أن تخفي حقيقة أنها ستكون خطة مدمرة وصعبة، وسيشعر بنتائجها الملايين من المواطنين من خلال ارتفاع الأسعار وتزايد عدم الاستقرار وارتفاع تكلفة الوقود».
من جانبها، اتهمت كارولين لوكاس الرئيسة المشاركة لحزب الخضر البريطاني ماي بأنها «تخاطر بدخول مقامرة رعناء».
وقالت لوكاس إنه يبدو أن ماي «ترغب في التضحية باقتصادنا على مذبح إنهاء حرية التنقل، بدلا من كفالة اقتسام الفوائد بصورة أكثر عدالة». وأضافت: «إننا نعتقد أن هذه الخطة خاطئة تماما».
وواصل جوناثان إدواردز المتحدث باسم الحزب القومي لويلز «بليد سيمرو» لشؤون الخروج من الاتحاد الأوروبي الانتقادات بقوله إن «ماي لديها التفويض لمغادرة الاتحاد الأوروبي، ولكن ليس لديها تفويض بتمزيق الروابط الاقتصادية للبلاد مع القارة الأوروبية».
وأضاف إدواردز أن «الخروج الصعب سيمهد الطريق أمام ظهور أكثر الحكومات اليمينية تشددا في تاريخ المملكة المتحدة منذ عقود»، وحذر من أنه يخشى من أن تستطيع ماي «تحويل الدولة البريطانية إلى ملاذ ضريبي على حساب المواطنين العاديين».
وأيد لامي تصويتا برلمانيا حول ما إذا كان يجب على بريطانيا المضي قدما في عملية الخروج أو التراجع عنها، مشيرا إلى أن الاستفتاء له طابع استشاري فقط.
وقال لامي: «دعونا لا ندمر اقتصادنا على أسس من الأكاذيب وعجرفة وزير الخارجية بوريس جونسون».
وكان جونسون قد شارك في قيادة حملة التصويت بالخروج من الاتحاد الأوروبي قبل الاستفتاء. ينما قال إيد ميليباند زعيم حزب العمال السابق إنه «كان متأكدا تماما من أن حملة التصويت على مغادرة الاتحاد الأوروبي لم تكن تتضمن بند (دعونا نقدم مزيدا من المليارات للشركات الكبرى على هيئة تخفيضات ضريبية)».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟