«فتات»... معرض غاضب ضد الاحتلال الأميركي للعراق

مخلفات الأسلحة الحربية ومنحوتات تستصرخ الإنسانية للفنان محمود عبيدي

بقايا طائرة أميركية وقد حمّل على حطامها تمثال أثري - تمثال الحرية الضخم المعلق في القاعة يتوازى متدلياً مع منحوتة أخرى هي مئذنة مسجد سامراء التي تتأرجح مقلوبة - المعرض في «غاليري كتارا» يحمل رسالة إدانة صارخة لما ارتكبه الأميركيون في العراق
بقايا طائرة أميركية وقد حمّل على حطامها تمثال أثري - تمثال الحرية الضخم المعلق في القاعة يتوازى متدلياً مع منحوتة أخرى هي مئذنة مسجد سامراء التي تتأرجح مقلوبة - المعرض في «غاليري كتارا» يحمل رسالة إدانة صارخة لما ارتكبه الأميركيون في العراق
TT

«فتات»... معرض غاضب ضد الاحتلال الأميركي للعراق

بقايا طائرة أميركية وقد حمّل على حطامها تمثال أثري - تمثال الحرية الضخم المعلق في القاعة يتوازى متدلياً مع منحوتة أخرى هي مئذنة مسجد سامراء التي تتأرجح مقلوبة - المعرض في «غاليري كتارا» يحمل رسالة إدانة صارخة لما ارتكبه الأميركيون في العراق
بقايا طائرة أميركية وقد حمّل على حطامها تمثال أثري - تمثال الحرية الضخم المعلق في القاعة يتوازى متدلياً مع منحوتة أخرى هي مئذنة مسجد سامراء التي تتأرجح مقلوبة - المعرض في «غاليري كتارا» يحمل رسالة إدانة صارخة لما ارتكبه الأميركيون في العراق

تحت عنوان «فتات»، يستمر معرض الفنان العراقي محمود عبيدي الاحتجاجي الغاضب في «غاليري كتارا» في الدوحة حتى نهاية هذا الشهر. معرض صغير لكنه مثير ويستحق المشاهدة والتأمل والتوقف عنده.
ثمة أعمال تبدو فجّة حدّ إثارة التساؤل حول مغزاها الفني، كتلك التي وضعت في غرفة خاصة، وكلها مستلهمة من قصة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش مع الصحافي العراقي منتصر الزيدي حين قرر هذا الأخير، أن يرشقه بفردة حذائه، احتجاجًا على اجتياح بلاده.
محمود عبيدي استخدم أحذية نسائية ورجالية، ووجد أنها تصلح جميعها لعمل تشكيلات تحيط بصور للرئيس جورج أو تمثال نصفي له. تراكيب مختلفة لإيصال فكرة محددة، موضوعة في ركن واحد، تبدو وكأنها تعبيرات ثأرية من الرجل الذي قرر احتلال العراق، أكثر مما هي معروضات فنية تتوخى الجمال والابتكار.
ليست كل الأعمال على هذا النحو المتعجّل. فالزائر يلفته حتمًا نصب جميل ومؤثر للغاية يقف وسط إحدى القاعات. هي منحوتة لأم وأب وولديهما تحمل عنوان «عائلة عملية حرية العراق». أم مقطوعة الذراع اليمنى تجر عربة وليدها النائم الذي تبدو عليه علامات البؤس باليد الأخرى المتبقية لها، يقف إلى جانبها زوج فقد ذراعه هو الآخر ومعهما طفل ثان عاري الجذع يمسك بأبيه كأنه يتوسله.
هي تماثيل سكبت ونحتت من مخلفات أسلحة وسيارات أميركية، ذوبت وأضيف إليها البرونز. ملامح تنضح حزنًا لوجوه متألمة، يقول الفنان إنها نتاج اجتياح بلاده متذرعا بالحرية للعراقيين، لكنه بدل ذلك، «خلّف وراءه 4.5 مليون معوق و3 ملايين يتيم، هذا غير المواليد المشوهين والقتلى»، بحسب قوله. ويعتبر عبيدي أن إنجازه هذا العمل من المواد التي تركها الأميركيون هي ليقول لهم: «هذا ما فعلتموه بنا، وهذه هي العائلة العراقية الجديدة التي حدثتمونا عنها ووعدتمونا بها».
الاحتلال الأميركي، إذن، هو العنوان العريض التي يدور حوله المعرض بأكمله. بمجرد دخولك يستقبلك ما لا يمكن أن تخطئه عين. إنه تمثال صدام حسن الذي رأيناه جميعًا يتهاوى عن قاعدته عام 2003، وتناقلت مشهد سقوطه الفضائيات التلفزيونية حول العالم، مما شكل، حينها نهاية رمزية لمعركة بغداد. مشهد أعيد بثه تكرارًا، وشغل المعلقين والمحللين.
التمثال تراه في المعرض مصنوعًا بيدي محمود عبيدي ومربوطًا بحبل طويل يمتد في المعرض ليلتف على باقي المعروضات الموجودة في صالة مجاورة، وكلها من الحجم الكبير. إنها منحوتات شكلت من بقايا الأسلحة الأميركية التي تركت في العراق، أو عبارة عن إعادة صياغة لمعدات أميركية كاملة، مثل سيارة الفورد التي أصبحت رمزًا للاجتياح تحمل آثارًا عراقية، بينها رأس الثور المجنح الشهير الذي صمد آلاف السنين على أبواب مدينة نينوى، وكان يعتقد حينها أنه يحميها من الغزو فإذا به يتحول حطامًا.
في ركن آخر، بقايا طائرة أميركية، مربوطة إلى الحبل ذاته، وقد حمّل على حطامها تمثال أثري، وتناثرت قطع أثاث وأدوات منزلية، وأشياء أخرى، كناية عن التشظي الذي تسببت به العدة الحربية للاحتلال. يكمل الحبل الآتي من تمثال صدام رحلته ليشنق رقبة تمثال الحرية الضخم المعلق في القاعة وهو يحمل الشعلة بيد والدستور الأميركي بيد أخرى. هذا التمثال يتوازى متدليًا مع منحوتة أخرى هي مئذنة مسجد سامراء التي تتأرجح مقلوبة، رأسًا على عقب. وفي بحث قام به العبيدي اكتشف أن تمثال الحرية الذي تحول إلى رمز للديمقراطية الأميركية كما مئذنة سامراء التاريخية التي بنيت في القرن التاسع لهما نفس الطول، أي 52 مترًا، فربط بينهما، وعلقهما متوازيين متأرجحين أحدهما رأسه إلى أعلى والثاني إلى أسفل.
لن تخرج بالطبع قبل أن ترى تمثال الحرية نفسه يستخدم لمرة ثانية، إنما شفاف هذه المرة، حتى تظنه من زجاج، وضع في براد كالذي يخصص لجثث الموتى بانتظار دفنهم، وقد ركن في حجرة صغيرة مظلمة في آخر المعرض أغلق بابها بستارة سوداء.
المعرض كله إدانة صارخة، لما ارتكبه الأميركيون في العراق، فيه الكثير من الغضب الذي يبلغ حد المباشرة أحيانًا. محمود عبيدي مقيم في كندا، وعاش فيها لفترة طويلة لكن همومه عراقية، وفي معرضه لفتة إلى الآثار المنهوبة والحرية السليبة، والفقر المستشري، كما تحية إكبار إلى المشوهين والمعوقين الذين إصابتهم الحرب في أجسادهم وأرواحهم أيضًا.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».