في مجلد ضخم، يطرح مؤرخ الفن توماس شيلسير (Thomas schlsser) مصطلح «الكون بلا إنسان». هذا المصطلح الذي تجسد فنيًا في أعمال كثير من الفنانين الأوروبيين الذين حاولوا تخطي مرحلة أن يكون الإنسان مركز كل شيء، كما كانت تراه الكنيسة في مفاهيم دينية ترتكز على أن الإنسان هو مخلوق الله وخليفته على الأرض، وكما نرى في كل الأعمال الفنية في عصر النهضة من ليونارد دافنشي، ومايكل أنجيلو، حيث الإنسان هو مصدر الإلهام ومركز الاهتمام. لكن هذه النظرة ستشهد تغيرًا ملحوظًا وغير مسبوق في عالم الفن فقط، من رسم، وحفر، ونحت، مع بدايات النصف الثاني من القرن الثامن عشر. الأعمال بدأت تؤرخ لأحداث كبرى (هزات أرضية، تسونامي، فيضانات، قنابل نووية...) أعمال تخلو من الإنسان، لكن يمكن أن نتصور ظله، كما في لوحة الصحراء لغوستاف غيوميه الذي نرى فيها عظام جمل مات من العطش في محيط صحراوي، أو شلالات نياغارا لفريدريك ادوين شيرش، أو مغيب شمس على طرف بحيرة لجوزيف ميلار ويليام تورنر، الذي جعل من اللوحة تراجيديا لونية. في هذه الأعمال الفنية نرى انعكاسًا مباشرًا لمفهوم لا نهائية الزمان والمكان بمعزل عن وجود الإنسان، مناظر عذراء لصخور، لصحراء، لمساحات مائية، لنباتات، وحيوانات لا نرى من خلالها أثرًا للبشر. كأنها تريد أن تقول إن الكون ربما أجمل وأنظف من دون الإنسان، البعض فسرها بنظرة ما قبل القيامة، أو ربما ما بعدها.
هذا المصطلح «الكون بلا إنسان» جاء على لسان الشاعر الفرنسي الكبير صاحب ديوان «أزهار الشر»، شارل بودلير، ووجد فيه المؤلف أفضل عنوان لكتابه الذي يعكس الفكرة ذاتها لدى فناني القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وحتى العشرين.
المؤلف يعتبر أن الهزة الأرضية التي دمرت لشبونة العاصمة البرتغالية في منتصف القرن الثامن عشر كانت نقطة الانطلاق في تغيير علاقة الإنسان بمحيطه، كون الإنسان أيضًا عاجزًا عن درء نوائب الطبيعة التي يمكن أن تقضي عليه يومًا، ولم تعد فكرة أن تلك الكوارث جاءت بسبب عقاب سماوي لبني الإنسان لفواحش ارتكبها، بل إنها نتيجة عوامل طبيعية خارجة عن إرادته، وبذلك تكون لدى الفنانين فكرة الكون والإنسان والعلاقة بينهما، الأمر الذي لم ينتبه إليه الفلاسفة إلا متأخرًا جدًا.
القرن التاسع عشر تابع خلاله الفنانون هذه الفكرة، فمدرسة باربيزون (هي حركة في الفن نشأت في عام 1830، تدعو إلى اللجوء للطبيعة، إلى الغابات والحقول واستلهام الوحي منها، فنانو هذه المدرسة كانوا يقومون بإنجاز أعمالهم الفنية في غابة فونين بلو القريبة من باريس، وجاء اسم هذه المدرسة من اسم لقرية على طرف الغابة وتدعى باربيزون، ومن أهم فنانيها تيودور روسو، الذي اشتهر بلوحات الطبيعة وغروب وشروق الشمس في مساحات طبيعية شاسعة، وكورو الذي كان أفضل من عبر عن الطبيعة في لوحاته التي تعكس مشاعر حساسة وأسلوبًا رومانسيًا)، وكذلك بالنسبة لروزا بونور، والواقعي غوستاف كوربيه. في القرن العشرين، قرن التقنين، والحروب المدمرة، والمجازر المروعة، والآيديولوجيات، يتلاشى الإنسان أكثر في أعمال الفنانين، وخصوصًا في المدرسة التكعيبية من سيزان إلى بيكاسو إلى براك، ثم المدرسة التجريدية التي انتشرت في أميركا مع بدايات الخمسينات من القرن الماضي من بولوك، وهوفمان، وكاندينسكي وكيلي. ما لفيتش، كلان، وستايل، حيث اضمحل الإنسان نهائيًا فيها، أو أنه تحول إلى شكل بخطوط خارجية، أو مجرد ملامح إنسان. فالإنسان مات وشبع موتًا، كما يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو.
ينتقل المؤلف ليعالج أهم مظاهر عالمنا اليوم (الكوارث البيئية، الروبوتية، الانفجار الاتصالي، ...)، بالنسبة إليه المستقبل لا يبشر بالخير، رغم التفاؤل، ونظرة الفن إلى هذه الحقبة التي تبعث على القلق، من كوارث تكنولوجية، والخراب العام، وأسلحة الدمار الشامل ... إلخ.
ويتساءل شيلسير: كيف يمكننا أن نفسر غياب الفلاسفة عن هذه الظاهرة، ولم تعالج فلسفيًا إلى الآن بالشكل المطلوب، لإعطائها البعد الفلسفي والدخول بشكل أعمق في ظاهرة غياب الإنسان جسدًا وفعلاً عن الأعمال الفنية، وربما اختفاؤه كليًا من الكون، ليصبح الكون بلا إنسان، بعد أن كان يجسد مركزه؟
الكون بلا إنسان
يرى بعض المفكرين أنه سيكون أجمل وأنظف
الكون بلا إنسان
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة