الكون بلا إنسان

يرى بعض المفكرين أنه سيكون أجمل وأنظف

من أعمال وليم تيرنر
من أعمال وليم تيرنر
TT

الكون بلا إنسان

من أعمال وليم تيرنر
من أعمال وليم تيرنر

في مجلد ضخم، يطرح مؤرخ الفن توماس شيلسير (Thomas schlsser) مصطلح «الكون بلا إنسان». هذا المصطلح الذي تجسد فنيًا في أعمال كثير من الفنانين الأوروبيين الذين حاولوا تخطي مرحلة أن يكون الإنسان مركز كل شيء، كما كانت تراه الكنيسة في مفاهيم دينية ترتكز على أن الإنسان هو مخلوق الله وخليفته على الأرض، وكما نرى في كل الأعمال الفنية في عصر النهضة من ليونارد دافنشي، ومايكل أنجيلو، حيث الإنسان هو مصدر الإلهام ومركز الاهتمام. لكن هذه النظرة ستشهد تغيرًا ملحوظًا وغير مسبوق في عالم الفن فقط، من رسم، وحفر، ونحت، مع بدايات النصف الثاني من القرن الثامن عشر. الأعمال بدأت تؤرخ لأحداث كبرى (هزات أرضية، تسونامي، فيضانات، قنابل نووية...) أعمال تخلو من الإنسان، لكن يمكن أن نتصور ظله، كما في لوحة الصحراء لغوستاف غيوميه الذي نرى فيها عظام جمل مات من العطش في محيط صحراوي، أو شلالات نياغارا لفريدريك ادوين شيرش، أو مغيب شمس على طرف بحيرة لجوزيف ميلار ويليام تورنر، الذي جعل من اللوحة تراجيديا لونية. في هذه الأعمال الفنية نرى انعكاسًا مباشرًا لمفهوم لا نهائية الزمان والمكان بمعزل عن وجود الإنسان، مناظر عذراء لصخور، لصحراء، لمساحات مائية، لنباتات، وحيوانات لا نرى من خلالها أثرًا للبشر. كأنها تريد أن تقول إن الكون ربما أجمل وأنظف من دون الإنسان، البعض فسرها بنظرة ما قبل القيامة، أو ربما ما بعدها.
هذا المصطلح «الكون بلا إنسان» جاء على لسان الشاعر الفرنسي الكبير صاحب ديوان «أزهار الشر»، شارل بودلير، ووجد فيه المؤلف أفضل عنوان لكتابه الذي يعكس الفكرة ذاتها لدى فناني القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وحتى العشرين.
المؤلف يعتبر أن الهزة الأرضية التي دمرت لشبونة العاصمة البرتغالية في منتصف القرن الثامن عشر كانت نقطة الانطلاق في تغيير علاقة الإنسان بمحيطه، كون الإنسان أيضًا عاجزًا عن درء نوائب الطبيعة التي يمكن أن تقضي عليه يومًا، ولم تعد فكرة أن تلك الكوارث جاءت بسبب عقاب سماوي لبني الإنسان لفواحش ارتكبها، بل إنها نتيجة عوامل طبيعية خارجة عن إرادته، وبذلك تكون لدى الفنانين فكرة الكون والإنسان والعلاقة بينهما، الأمر الذي لم ينتبه إليه الفلاسفة إلا متأخرًا جدًا.
القرن التاسع عشر تابع خلاله الفنانون هذه الفكرة، فمدرسة باربيزون (هي حركة في الفن نشأت في عام 1830، تدعو إلى اللجوء للطبيعة، إلى الغابات والحقول واستلهام الوحي منها، فنانو هذه المدرسة كانوا يقومون بإنجاز أعمالهم الفنية في غابة فونين بلو القريبة من باريس، وجاء اسم هذه المدرسة من اسم لقرية على طرف الغابة وتدعى باربيزون، ومن أهم فنانيها تيودور روسو، الذي اشتهر بلوحات الطبيعة وغروب وشروق الشمس في مساحات طبيعية شاسعة، وكورو الذي كان أفضل من عبر عن الطبيعة في لوحاته التي تعكس مشاعر حساسة وأسلوبًا رومانسيًا)، وكذلك بالنسبة لروزا بونور، والواقعي غوستاف كوربيه. في القرن العشرين، قرن التقنين، والحروب المدمرة، والمجازر المروعة، والآيديولوجيات، يتلاشى الإنسان أكثر في أعمال الفنانين، وخصوصًا في المدرسة التكعيبية من سيزان إلى بيكاسو إلى براك، ثم المدرسة التجريدية التي انتشرت في أميركا مع بدايات الخمسينات من القرن الماضي من بولوك، وهوفمان، وكاندينسكي وكيلي. ما لفيتش، كلان، وستايل، حيث اضمحل الإنسان نهائيًا فيها، أو أنه تحول إلى شكل بخطوط خارجية، أو مجرد ملامح إنسان. فالإنسان مات وشبع موتًا، كما يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو.
ينتقل المؤلف ليعالج أهم مظاهر عالمنا اليوم (الكوارث البيئية، الروبوتية، الانفجار الاتصالي، ...)، بالنسبة إليه المستقبل لا يبشر بالخير، رغم التفاؤل، ونظرة الفن إلى هذه الحقبة التي تبعث على القلق، من كوارث تكنولوجية، والخراب العام، وأسلحة الدمار الشامل ... إلخ.
ويتساءل شيلسير: كيف يمكننا أن نفسر غياب الفلاسفة عن هذه الظاهرة، ولم تعالج فلسفيًا إلى الآن بالشكل المطلوب، لإعطائها البعد الفلسفي والدخول بشكل أعمق في ظاهرة غياب الإنسان جسدًا وفعلاً عن الأعمال الفنية، وربما اختفاؤه كليًا من الكون، ليصبح الكون بلا إنسان، بعد أن كان يجسد مركزه؟



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.