رداءة الطقس في موسكو لا توقف سحر الجليد السيبيري

روسيا تسجل أدنى درجات حرارة منذ 120 عامًا

مسابقة «جليد سيبيريا السحري» تتنافس فيها فرق من مختلف المدن الروسية مع مشاركة لفرق من دول أخرى
مسابقة «جليد سيبيريا السحري» تتنافس فيها فرق من مختلف المدن الروسية مع مشاركة لفرق من دول أخرى
TT

رداءة الطقس في موسكو لا توقف سحر الجليد السيبيري

مسابقة «جليد سيبيريا السحري» تتنافس فيها فرق من مختلف المدن الروسية مع مشاركة لفرق من دول أخرى
مسابقة «جليد سيبيريا السحري» تتنافس فيها فرق من مختلف المدن الروسية مع مشاركة لفرق من دول أخرى

في ظاهرة جوية لم تعتدها حتى روسيا بلد الثلوج، انخفضت درجات الحرارة في موسكو وعموم مناطق وسط روسيا إلى ما دون 30 درجة مئوية تحت الصفر. وصباح أمس انخفضت درجة الحرارة في بعض مناطق محافظة موسكو إلى ما دون 32 درجة مئوية تحت الصفر، وتحديدًا في منطقة كلين حيث بلغت الحرارة صباحا 32.7 درجة مئوية تحت الصفر.
وفي ليلة الثامن من يناير (كانون الثاني) سُجلت في منطقة شمال غربي موسكو درجة حرارة 36 درجة مئوية تحت الصفر، ولم تسجل في موسكو درجات حرارة متدنية إلى هذا المستوى إلا منذ 120 عامًا، حينها بلغت درجات الحرارة 34 درجة مئوية تحت الصفر. وفي ساعات النهار يوم أمس تراوحت الحرارة بين 24 وحتى 29 درجة مئوية تحت الصفر. وكانت الشوارع شبه خالية من المارة، حتى في مركز موسكو، حيث تستمر فعاليات احتفالية رأس السنة، لم يكن هناك سوى مئات من الزوار، بينما كانت أعدادهم بالآلاف في الأيام الأولى من العام الجديد، قبل تقدم موجة البرد الحالية.
ومع أن البرد الذي يسيطر على روسيا هذه الأيام غير طبيعي حتى بالنسبة للروس، أبناء بلاد الثلج، فإن انخفاض درجات الحرارة لا يعني توقف الحياة. وهناك مقولة يكررها الروس دوما: «لا طقس رديء في الطبيعة»، ويبدو أن كثيرين ينطلقون في نشاطهم من تلك المقولة. ورغم موجة البرد القارس فقد خرج أكثر من 500 شخص، من الشباب والشابات وحتى السيدات والأطفال، وبعضهم برفقة الصديق الوفي «الكلب المنزلي»، خرجوا نهار أمس ليشاركوا في أول مسيرة دراجات تُنظم في موسكو في العام الجديد، وذلك في إطار برنامج تطوير ثقافة استخدام الدراجات كوسيلة نقل، الذي يُجرى برعاية مديرية النقل العام والبنى التحتية للمواصلات في محافظة موسكو. وقد استعد المشاركون للظرف الطارئ، فاختار كثيرون منهم أزياء تنكرية يمكن معها ارتداء ملابس دافئة، ودراجات هوائية بعجلات خاصة للسير على الطرقات التي تكسوها طبقة رقيقة من الجليد. وخلال ساعة واحدة تمكن المشاركون من اجتياز مسافة المسيرة التي تبلغ 14 كيلومترا، امتدت عبر الشوارع الرئيسية في محيط مركز موسكو التاريخي.
وقد اتخذت محافظة موسكو سلسلة تدابير تشجيعا لمسيرة الدراجات، فأعلنت عن إعفاء الركاب من دفع أجرة نقل الدراجات الهوائية على متن وسائل النقل العام، لا سيما القطارات التي تقل الركاب من الريف إلى المدينة. وفي مناطق التجمع للانطلاق كما في نقطة النهاية وعلى طول طريق المسيرة، أقيمت مطابخ «ميدانية» يمكن لأي شخص أن يحصل منها على حساء ساخن يستعيد به بعض الدفء، أو كأس من الشاي الساخن أيضًا. وكانت بعض تلك المطابخ «الميدانية» عبارة عن «سماور» روسي تقليدي لتسخين الماء وإعداد الشاي، يلتف المشاركون حوله لأخذ قسط من الدفء قبل وأثناء مشاركتهم في مسيرة الدراجات.
وفي مدينة كراسنويارسك، في شرق سيبيريا، على بعد نحو 4 آلاف كيلومتر عن موسكو، لم تكن درجات الحرارة أفضل حالا من مناطق وسط روسيا، إلا أن سكان تلك المنطقة معتادون على البرد السيبيري القارس. وقد سجلت أدنى درجة حرارة هناك عام 1931، حين انخفضت حتى 52 درجة مئوية تحت الصفر. وفي هذه الأيام تصل درجة الحرارة هناك ليلاً حتى 30 درجة مئوية تحت الصفر، وتبتعد عن هذا المؤشر مرتفعة حتى 25 درجة مئوية تحت الصفر في ساعات النهار. ضمن هذه الظروف المناخية القاسية في فصل الشتاء يجد المواطنون هناك تجسيدًا عمليًا للمقولة الروسية ذاتها «لا طقس رديء في الطبيعة»، حيث جرت العادة أن تنظم محافظة المدينة كل عام مسابقة النحت على الجليد والثلج، والتي تحمل اسم مسابقة «جليد سيبيريا السحري»، تتنافس فيه فرق من مختلف المدن الروسية، مع مشاركة لفرق من دول أخرى، لا سيما من الجمهوريات السوفياتية سابقًا.
وتجري فعاليات المسابقة في واحدة من الساحات الكبرى في المدينة، حيث يعكف الفنانون على نحت لوحاتهم الجميلة بأحجام كبيرة، ويواصلون العمل عدة أيام، يستخدمون خلالها مختلف المعدات في تكوين وصقل وتحديد الملامح الدقيقة للوحة الفنية الثلجية أو الجليدية. وهذا العام تنافست 20 فرقة، نصفهم تنافس في نحت مجسمات من الجليد، والنصف الآخر قام بنحت مجسمات من الثلج. أما الدول المشاركة هذا العام في المسابقة إلى جانب روسيا، فهي كندا وبولندا وكازاخستان وبيلاروس والهند. ولا يسعى المشاركون إلى تحقيق ألقاب فنية معينة أو الحصول على جوائز كبرى، ذلك أن جائزة الفائز الأول لا تزيد عما يقارب 1500 دولار أميركي، وهذا مبلغ بالكاد يغطي نفقات السفر إلى كراسنويارسك. لذلك فإن المشاركة تكون دوما بهدف الحصول على متعة العمل مع مادة غير تقليدية في عالم النحت مثل الجليد أو الثلج، ولعرض المهارات الفنية في هذا المجال. ومع أن لجنة تحكيم خاصة من الخبراء في النحت الفني تقوم بتحديد العمل الأفضل الجدير بالجائزة الأولى، فإن الزائر لذلك المعرض في الهواء الطلق «المجمد»، يقف مطولاً أمام كل عمل فني، وتراه مستعدًا لمنح كل تلك الأعمال الجائزة الأولى؛ لأن كل عمل منها يشكل بحد ذاته لوحة فنية رائعة الجمال متقنة الصنع.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)