تواقيع الكتب... ارتقاء بالعلاقة بين الكاتب والقارئ أم ترويج للرداءة؟

صارت جزءًا من المشهد الثقافي في كثير من المدن العربية المهمة

تواقيع الكتب... ارتقاء بالعلاقة بين الكاتب والقارئ أم ترويج للرداءة؟
TT

تواقيع الكتب... ارتقاء بالعلاقة بين الكاتب والقارئ أم ترويج للرداءة؟

تواقيع الكتب... ارتقاء بالعلاقة بين الكاتب والقارئ أم ترويج للرداءة؟

لم تكتفِ الكتب المطبوعة بوعودها الساحرة لنا بالسفر في عالم الأفكار، بل اقتحمت نقطة التلاقي بين المادة والزمن، فأصبحت النسخ الموقعة من مؤلفيها بمثابة سحر فوق السحر، وقيمة فوق القيمة.
ولا شك أن فضاءاتنا أيضًا قد أصيبت بهذه الحمى الجميلة، فلا يكاد يمضي أسبوع في أي عاصمة عربيّة دون حفل توقيع هنا أو هناك.
هذه الحمى العجائبية بهوس الكتب الموقعة شكلت ظاهرة في المشهد الثقافي الغربي حتى أصبحت المزادات العلنية التي تبيع هذه الكتب تغطى وتتصدر عناوين كثير من الصحف الغربية.
وقد أثار أخيرًا مزاد علني ضخم أجري بالعاصمة الآيرلنديّة دبلن اهتمام قطاعات واسعة من المنتجين والمستهلكين للكتب المطبوعة في العالم، إذ بيعت فيه نسخ طبعات أولى وصلت أكثر من 500 كتاب جميعها موقعة بحبر مؤلفيها. المجموعة كلها كانت من مقتنيات هاو واحد، قالت الصحف إنه اتبع أسلوبًا خاصًا للحصول على توقيعات المؤلفين الذين غدا بعضهم مشهورًا، كغابرييل غارسيا ماركيز وكورماك ماكارثي وغيرهم؛ كان الرجل يرسل رسائل في غاية اللياقة طالبًا من المؤلف توقيع نسخة من كتابه، ثم يرسل إليه النسخة بالبريد مرفقة بمغلف معنون مدفوع القيمة مسبقًا لإعادتها بعد توقيعها دون أن يتحمل الكاتب أية مصاريف. ويبدو أن هذا الأسلوب الشديد اللطف كان مقنعًا لكثير من الكتاب لأن يضعوا تواقيعهم على تلك النسخ التي تحولت بفعل مرور الزمن إلى ثروة ماديّة مجزية لمقتني المجموعة، بل فتحت أحيانا بوابة صداقات دائمة مع بعض هؤلاء المؤلفين.
كان الفنانون حتمًا قد سبقوا الكتاب إلى توقيع أعمالهم، والاعتداد بها، وما لبثت الكتب المخطوطة أن أصبحت بدورها موضوعًا للإهداء والتفاخر، لكن لا يعرف بالتحديد متى ابتدع البشر فكرة إقامة حفلات الطقس الاجتماعي لحفل توقيع الكتب لأول مرّة. المؤكد أن إهداء نسخ الكتب الموقعة حدث حتمًا بعد اختراع الطباعة في ألمانيا نحو عام 1440، لا سيما أن الكتب في بداياتها تلك كانت شيئًا ثمينًا نادرًا يحتفى به.
وتسجل المراجع التاريخيّة أنه في بداية القرن السابع عشر، قام الشاعر الإنجليزي بين جونسون بجمع قصائده في كتاب سماه «أعمالي» (تحديًا للمناخ المعادي للشعر في حينه الذي كان يعتبره ترفًا لا داعي له)، ووقع منه عدة نسخ منحت كإهداءات، وصلنا بعضها اليوم كإشارة أكيدة على وجود تلك الظاهرة أقله منذ 400 عام تقريبًا.
لا شك أن العلاقة بين الكاتب والقارئ تأخذ شكلها الأكثر اكتمالاً من خلال عمليّة القراءة ذاتها دون توقع وجود علاقة شخصيّة بينهما، بل إن بعض مدارس الفلسفة الحديثة تحدثت عن موت المؤلف؛ بمعنى انتفاء مطلق الحاجة إلى الكاتب كشخص، واقتصار العلاقة مع القارئ على النص ذاته الذي يكتسب حياة خاصة به بعد أن يكتب، يمتلكه القارئ ويفسره بحسب قدرته المعرفيّة وخبرته الثقافيّة. لكن أجيالاً من القراء الأوفياء وجدت عبر الأيام أن تجربة امتلاك نسخة شخصيّة موقعة من المؤلف تعطي شعورًا سايكولوجيّا خاصًا، كنوع من تحدي سلطة الزمن من خلال تخليد لحظة كرّسها صاحب النص من عمره الفاني المحدود لوضع توقيعه (وربما مع إهداء شخصي منه) على نسخة خاصة. هذا الشعور لم يكن يومًا حكرًا على صاحب النسخة وحده، إذ إن مرور الأيام كان كفيلاً بإعطاء قيمة ماديّة ومعنويّة متزايدة لتلك النسخ، وأصبح بعضها مصدر ثراء مادي تتداوله بيوت المزادات العالميّة وكأنه عمل فني ثمين.
بعض الكتاب وجدوا في موضوع التوقيع هذا تسخيفًا لنصوصهم، وطقسًا اجتماعيًا مبتذلاً، فلم يعثر على أي نسخة موقعة من أعمال الروائية الإنجليزيّة المعروفة جين أوستن، وحتى النسخة الفخمة المهداة إلى القصر الملكي (لا تزال في مكتبة قصر وندسور) لإحدى روايتها لم تكن موقعة، وأرسلت أصلاً من الناشر، لا المؤلفة. على أن أغلب الكتاب اندمجوا في اللعبة حتى أن النسخ التي وصلتنا من الطبعة الأولى لرواية تشارلز ديكنز الثانية (نيكولاس نيكيلبي) التي صدرت عام ١٨٣٩، حملت على الغلاف رسمًا للمؤلف الفخور وتحته توقيعه. هناك في التداول اليوم بين أوساط جامعي الكتب العتيقة نسخ كثيرة موقعة من ديكنز الذي كثيرًا ما كتب إهداءات بأسماء الأشخاص مع توقيعه.
في بريطانيا بداية القرن العشرين، تحولت مسألة توقيع الكتب، وإهداء النسخ الموقعة إلى الأحبة والأصدقاء، إلى معلم أساسي من معالم الحياة الثقافيّة المزدهرة خلال فترة حكم الملك إدوارد التي استمرت من ١٩٠١ حتى ١٩١٠، حيث منحت التحولات في المناخ السياسي المستجدة - بعد انتهاء المرحلة الفيكتورية المتزمتة - مساحة واسعة للكتاب والأدباء المثقفين، فلمعت كثير من الشخصيات الأدبية: تشيسترتون وجوزيف كونراد وكينيث غراهام وروديارد كبلنغ وجورج بيرنارد شو، وغيرهم ممن تحولوا إلى نجوم مجتمع، وكانوا في أدوارهم الاجتماعية هذه يضطرون إلى توقيع نسخ كثيرة من كتبهم كمجاملات للأصدقاء، لكن كثيرًا من القراء خارج دائرة المعارف الشخصيين للكاتب كانوا يرغبون بشدة في الحصول على نسخ موقعة من مؤلفيها، فكانت تلك فرصة لبعض الكتاب النابهين لجمع بعض الأموال الإضافية من خلال فكرة المحاضرات العامة المدفوعة التي كانت تتبعها توقيعات كتب غير منظمة تحت طلب جمهور الحاضرين. لكن فكرة جلوس الكاتب إلى طاولة في مكتبة وأمامه نسخ من كتابه لتوقيعها مسألة حديثة لا ترد في أية مراجع ذات قيمة قبل الحرب العالميّة الثانية، بينما اختلف الحال تمامًا في الخمسيناتـ وتسابقت حتى المحلات التجاريّة الكبرى، مثل سيلفرجيز وهارودز في لندن، على استضافه حفلات التوقيع.
وقد التقط الناشرون - بحسهم التجاري المحض - الفرصة الكامنة في النسخ الموقعة بحبر مؤلفيها، بوصفها وسيلة تسويقيّة تكاد لا تقاوم من قبل القراء، فمن ذا الذي لا يرغب في أن تكون نسخته من «مائة عام من العزلة» موقعة بقلم ماركيز شخصيًا؟ أو أن تكون نسخته من «عالم جديد شجاع» موقعة بقلم ألدوس هكسلي نفسه؟
وهكذا، تحولت المسألة من مجرد تجمع مجموعة غير قليلة لنساء المجتمع المخملي الطاعنات في السن اللواتي يتحلقن حول كاتب حريص على بناء مكانته الاجتماعية، إلى مناسبات تسويقيّة منظمة وطبعات خاصة ورحلات للمؤلفين إلى دور الكتب عبر القارات، بل يقوم ناشر هاري بوتر أيضًا بإضافة ملصق خاص على النسخ الموقعة من روايات الكاتبة النجمة جيه كيه رولينغ لمواجهة التزوير الذي انتشر على نطاق واسع في بداية مرحلة اشتهار الأجزاء الأولى من سلسلة الكتب الأكثر مبيعًا في التاريخ. كما أصبحت معارض الكتب السنويّة التي تقام في مختلف العواصم أشبه ما تكون بموسم توقيعات مكثف، يمكنك فيه فعليًّا أن تشتري عشرات النسخ من الكتب الممهورة بتوقيع مؤلفيها.
وبعد وصول فكرة الكتاب المطبوع من الغرب إلينا، كان لا بد لعدوى انتشار توقيع الكتب أيضًا أن تستفحل حتى صارت جزءًا لا يتجزأ من المشهد الثقافي في كثير من العواصم العربيّة المهمة، لا سيما على هامش معارض الكتب.
الاحتفاء بالكتب والكتاب - في عمومه - ظاهرة حضاريّة بالطبع، ولا شك أن فكرة مقابلة روائي معروف أو مفكر أو شاعر مشهور في أجواء اجتماعية بهيجة، والحصول منه على نسخة موقعة بحروفه، تبدو دائمًا كنقيض شديد الإيجابيّة لرتابة العيش (أو قتامته في أجزاء كثيرة من العالم العربي)، إلا أن المعنى الأساسي السامي وراء فكرة حفل توقيع الكتب اختطف من قبل بعض التجار - الناشرين، فحولوه إلى فخ اجتماعي يتم من خلاله إطلاق الرداءة وانعدام المعايير الإبداعية في فضاء الثقافة العربيّة، يخصبه غياب شبه تام للنقد الأدبي عن الساحة. فتلك حسناء - لا تحسن إلا الشكل الحسن - تطلق ديوانها (الشعري) مكتسبة شرعيّة مزيفة كشاعرة مجلّية، بينما نصوصها أقرب إلى ضجيج الأسواق، وذلك روائي - لم يقرأ ديستوفسكي ولم يسمع ببلزاك دع عنك الأدب الحديث - يوقع جذلاً لرفاقه ثرثرة أشبه بحديث عابر يسميها رواية مطالبًا بإدراج اسمه على لوائح المرشحين لجوائز الروايات العربية اعتبارًا من هذا الموسم، وكل ذلك في أجواء من الشللية و«التضامن السياسي» أو الطائفي أحيانًا، وغير ذلك كثير من الظواهر السلبيّة التي بدأت تدفع الجمهور لإعادة النظر في كل موضوع القراءة برمته!



كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
TT

كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته

الروائي والمُنَظِّر الما بعد كولونيالي، الكيني نغوغي واثيونغو، (يتوسط الصورة). يقف مائلاً بجذعه إلى الأمام، ميلاً يكاد لا يُدرك، باسطاً كفيه على كتفي ابنته وانجيكو وا نغوغي (يمين الصورة)، وابنه موكوما وا نغوغي (يسار الصورة)، كأنما ليحتضنهما أو ليتأكد من وجودهما وبقائهما أمامه، أو يتوكأ عليهما بدلاً من التوكؤ على العصا التي ربما أسندها إلى الجدار خلفه، أو في أي بقعة من المكان.

الصورة لقطة لاجتماع عائلي صغير، اجتماع ربما لا يتكرر كثيراً ودائماً ولوقت طويل بين أب يعيش وحيداً إلّا من رفقة كلبه في مدينة «إرفاين» في كاليفورنيا، وابن يقيم في مدينة «إثاكا»، حيث يعمل أستاذاً للأدب في جامعة كورنيل، وابنة استقر بها المقام في مدينة أتلانتا، حيث تعمل أستاذاً للكتابة الإبداعية في كلية الفنون الجميلة في ولاية جورجيا. شتات أسري صغير، نموذج من الشتات الأفريقي (الما بعد كولونيالي) الكبير، تتخلله لحظات مثل لحظة التقائهم في الصورة لحدث يظهر خلاله الشبه بينهم، الشبه العصي على الشتات تبديده ومحوه.

الحدث فعالية توقيع موكوما لروايته الرابعة «انبشوا موتانا بالغناء»، شخصياً أفضل «انبشوا قبور موتانا بالغناء»، وتوقيع وانجيكو لروايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر» أو «فصول في بلاد فرس النهر». لا يحتاج إلى تأكيد أن عنواني الروايتين قابلان لأكثر من ترجمة. وبقدر ما تبرز الصورة، أو الحدث في الصورة، من تشابه بين الثلاثة، تقوم بوظيفة المعادل الموضوعي البصري لهذه المقالة التي تجمعهم.

النضال باللغة الأم

لكن هنالك ما لا تظهره الصورة، ولا توحي به. أقصد المفارقة التي يشكلها حضور نغوغي واثيونغو حفل توقيع روايتين مكتوبتين باللغة الإنجليزية لاثنين من أبنائه، اللغة التي توقف عن الكتابة الإبداعية بها في أواخر سبعينات القرن الماضي؛ وكان مثابراً في الدعوة إلى التوقف عن الكتابة بها.

كان قرار نغوغي التوقف عن الكتابة بالإنجليزية والتحول إلى الكتابة بلغته الأم سبباً مباشراً من أسباب اعتقاله والزج به في سجن الحراسة المشددة، عشية السنة الجديدة في عام 1977. كان ابنه موكوما في السابعة من عمره عندما ألقت السلطات الكينية القبض عليه بعد ستة أسابيع من النجاح الشعبي المدوي الذي حققه عرض مسرحيته المكتوبة بلغة «جيكويو»: «سأتزوج عندما أريد»، مسرحية أدّاها ممثلون غير محترفين من الفلاحين، واستهدفت بالانتقاد النخبة الحاكمة الكينية، مما دفع الحكومة إلى اعتقاله تحت ذريعة تشكيله خطراً على البلاد.

في زنزانته التي تحَوَّل فيها إلى مجرد رقم (K677)، وكفعل تحدٍ للسلطة أولاً، وكأداة للمقاومة والنضال من أجل تحرير العقل من الاستعمار ثانياً، بدأ نغوغي، وعلى ورق التواليت، في كتابة روايته الأولى بلغته الأم «شيطان على الصليب». يروي أن ورق التواليت كان مكدساً رصاتٍ تصل سقف الزنزانة، ورق قاس وخشن كأنما أُرِيد أن يكون استخدامه عقاباً للسجناء.

إن توقف نغوغي عن الكتابة بالإنجليزية بعد مرور ما يزيد على عشر سنوات من انعقاد «مؤتمر ماكيريري للكُتّاب الأفارقة الذين يكتبون باللغة الإنجليزية»، وضعه على مفترق طرق في علاقته مع «الماكيريريين»، الذين آمنوا بحتمية وأهمية الكتابة باللغة الإنجليزية، وفي مقدمتهم صديقه الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي. ورغم تعكر صفو العلاقة بينهما ظل نغوغي يكنّ الاحترام لأتشيبي ومعترفاً بفضله عليه. فأتشيبي أول شخص قرأ روايته الأولى «لا تبكِ أيها الطفل» حتى قبل أن يكمل كتابتها، عندما حملها مخطوطة مطبوعة إلى مؤتمر ماكيريري أثناء انعقاده في جامعة ماكيريري في العاصمة الأوغندية كامبالا، في يونيو (حزيران) 1962. وكان له الفضل في نشرها ضمن سلسلة هاينمان للكُتّاب الأفارقة.

يقول نغوغي واثيونغو لمواطنه الكاتب كيري بركه في حوار نشر في صحيفة «ذا غارديان» (2023-6-13): «قال أتشيبي إن اللغة الإنجليزية كانت هدية. لم أوافق... لكنني لم أهاجمه بطريقة شخصية، لأنني كنت معجباً به كشخص وككاتب». أتوقع لو أن أتشيبي على قيد الحياة الآن، لعاد للعلاقة بين عملاقي الرواية في أفريقيا بعض صفائها، أو كله. فموقف نغوغي الرافض للاستمرار بالكتابة بلغة المستعمر، فَقَدَ (أو) أفقدته الأيام بعض صلابته، ويبدو متفهماً، أو مقتنعاً، وإن على مضض، بأسباب ومبررات الكتابة الإبداعية بالإنجليزية. فجلاء الاستعمار من أفريقيا، لم يضع - كما كان مأمولاً ومتوقعاً - نهاية للغات المستعمر، كأدوات هيمنة وإخضاع وسيطرة، فاستمرت لغاتٍ للنخب الحاكمة، وفي التعليم.

قرار نغوغي واثيونغو الكتابة باللغة التي تقرأها وتفهمها أمة «وانجيكو» قسم حياته إلى قسمين، ما قبل وما بعد. قِسْمٌ شهد كتاباته باللغة الإنجليزية الممهورة باسم «جيمس نغوغي»، وكتاباته بلغة «جيكويو» باسم نغوغي واثيونغو، تماماً كما قسّم مؤتمر ماكيريري تاريخ الأدب الأفريقي والرواية الأفريقية إلى ما قبل وما بعد - الموضوع الرئيس في كتاب ابنه موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية».

في نهضة الراوية الأفريقية

من البداية إلى النهاية، يرافق «مؤتمر ماكيريري» قارئَ كتاب موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية... طرائق اللغة والهوية والنفوذ» (الصادر في مارس (آذار) 2024) ضمن سلسلة «عالم المعرفة» للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت). وترجمه إلى العربية الأكاديمي والناقد والمترجم البروفسور صديق محمد جوهر. لم يكن كتاب نغوغي الابن الباعث على كتابة المقالة فحسب، وإنما المحفز أيضاً، حتى قبل البدء في قراءته، على قراءة رواية شقيقته وانجيكو وا نغوغي «مواسم في بلاد أفراس النهر»، وكانت ترقد على الرفّ لبعض الوقت في انتظار قراءة تهرب إلى الأمام باستمرار. فكان أن قرأت الكتابين في الوقت نفسه، منتقلاً من أحدهما إلى الآخر، بينما صورة نغوغي الأب، أو طيفه يحوم في أفق القراءة، ما جعلني أُسَلِّمُ بأن لا مفرَّ من جمع الثلاثة في مقالة واحدة، وقد وهبتِ الصورة نفسَها معادلاً موضوعياً بصرياً لها.

مؤتمر ماكيريري بآثاره وانعكاساته على الأدب الأفريقي هو الموضوع الرئيس في «نهضة الرواية الأفريقية». كانت المهمة الأولى على أجندة المجتمعين في كمبالا، الذين استثنوا من الحضور كل الذين يكتبون بغير الإنجليزية، تطويق الأدب الأفريقي بحدود التعريف. ولأنه لا توجد حدود دون نشوء لثنائية الداخل - الخارج، فإنهم لم يقصوا الآداب الأفريقية بلغات المستعمر الأخرى فحسب، بل أبقوا خارج الحدود كل الأعمال الأدبية المنشورة باللغات المحلية التي نشرت قبل 1962. على اعتبار أن كل ما سبق ماكيريرى من ثمانينات القرن التاسع عشر كان خطابة.

ينتقد موكوما أدباء ماكيريري على تعريفهم الضيق والإقصائي للأدب الأفريقي، ويدعو إلى أدب أفريقي بلا حدود، يشمل الكتابات المبكرة، وآداب الشتات الأفريقي، والقص الشعبي «popular fiction»، وإلى تقويض التسلسل الهرمي الذي فرضته «الإمبراطورية الميتافيزيقية الإنجليزية»، التي امتد تأثيرها إلى ما بعدَ جلاء الاستعمار، ولم يسلم موكوما نفسه ومجايلوه من ذلك التأثير، فقد نشأ في بيئة معادية للغات الأفريقية. من الأسئلة التي قد تبزغ في ذهن القارئ: ألم يمارس موكوما الإقصاء أيضاً؟ فقد انتقد «أصحاب ماكيريري»، ولم ينتبه إلى أن كتابه «نهضة الرواية الأفريقية» لم يتسع للرواية الأفريقية باللغة العربية وبلغات الاستعمار الغربي الأخرى في أفريقيا.

الأشياء لم تتغير في «فيكتوريانا»

بإزميل حاد نحتت وانجيكو وا نغوغي عالم القصة في روايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر»، فجاءت لغتها سهلة وسلسلة، توهم بأن القارئ لن يواجه أي صعوبة في قراءتها. في هذا العالم تتمدد دولة «فيكتوريانا» على مساحة مناطقها الثلاث: ويستفيل ولندنشاير وهيبولاند، ويتربع فيها على عرشه «إمبراطور مدى الحياة». تقدم الرواية «فيكتوريانا» كصورة للدول الأفريقية، التي شهدت فساد وإخفاقات النخب الحاكمة وإحباط آمال الجماهير بعد الاستقلال.

الحكاية في «مواسم في بلاد أفراس النهر»، ترويها بضمير المتكلم الشخصية الرئيسة (مومبي). تبدأ السرد من سن الثالثة عشرة، من حدث له تأثير كبير في حياتها. فبعد افتضاح تدخينها السجائر مع زميلاتها في المدرسة قبل نهاية العام الدراسي بأيام، يعاقبها والداها بإرسالها برفقة شقيقها من «ويستفيل» إلى «هيبولاند» حيث تعيش عمتها سارة.

العمة سارة حكواتية انخرطت في شبابها في حركة النضال ضد المستعمرين، وبعد الاستقلال، وظفت قصصها لبث الأمل والشجاعة وتحريك الجماهير ضد الإمبراطور. الحكاية التي ترويها مومبي هي قصة نموها وتطورها إلى «حكواتية» ترث عن سارة رواية القصص، والتدخل في شؤون الإمبراطورية، لينتهي بها المطاف في زنزانة في سجن الحراسة المشددة. هنا تتسلل خيوط من سيرة نغوغي واثيونغو إلى نسيج الخطاب السردي. إن السرد كقوة وعامل تأثير وتحريض على التمرد والتغيير هو الثيمة الرئيسة في الرواية. ولدرء خطره على عرشه، يحاول الإمبراطور قمع كل أنواعه وأشكاله.

* ناقد وكاتب سعودي