من حلب إلى برلين... الإرهاب يوحد العالم الذي لا يتحد

رسالته واحدة دائمة في الأعياد الغربية

عناصر من فرق الانقاذ عقب هجوم حادث الدهس في العاصمة برلين الذي راح  ضحيته 12 قتيلا وعشرات الجرحى قبل أيام من أفول العام الماضي («الشرق الأوسط»)
عناصر من فرق الانقاذ عقب هجوم حادث الدهس في العاصمة برلين الذي راح ضحيته 12 قتيلا وعشرات الجرحى قبل أيام من أفول العام الماضي («الشرق الأوسط»)
TT

من حلب إلى برلين... الإرهاب يوحد العالم الذي لا يتحد

عناصر من فرق الانقاذ عقب هجوم حادث الدهس في العاصمة برلين الذي راح  ضحيته 12 قتيلا وعشرات الجرحى قبل أيام من أفول العام الماضي («الشرق الأوسط»)
عناصر من فرق الانقاذ عقب هجوم حادث الدهس في العاصمة برلين الذي راح ضحيته 12 قتيلا وعشرات الجرحى قبل أيام من أفول العام الماضي («الشرق الأوسط»)

رغم أن الإرهاب يوحد العالم لكنه لا يتحد، أو على الأقل كما ينبغي أن يتحد. العالم هنا عالم من له الغلبة والقوة والتأثير، فظاهرة الإرهاب والتطرف العنيف أشبه بعنكبوت ينسج خيوطه على خارطة الأزمات والمآسي، ويبرر ببقائها آيديولوجيته، وما إن يتراجع في مكان أو يخفف وطأته في مكان، حتى يعود في مكان آخر، مصرًا على الحضور والاستنزاف والإنهاك انطلاقًا من بؤر تمكينه المستمرة وسط هذه الأزمات، وفي منطقة الشرق الأوسط، تحديدها وفوضاها، وتنازعها طائفيًا بين راديكالية سنية تمثلها «جماعات» و«إمارات» وراديكالية الولي الفقيه التي يمثلها نظام ودولة يبايعها ويتحرك بأوامرها آلاف المقاتلين في كل مكان كذلك.
هي رسالة واحدة يرسلها الإرهاب مع احتفالات الميلاد (الكريسماس) ورأس السنة، إلى العالم أجمع، من ألمانيا إلى تركيا وفرنسا مرورًا بجنوب شرقي آسيا والولايات المتحدة الأميركية...
إذ يهدد تنظيم داعش الإرهابي المتطرف كل القارات، وهو رغم ورطته في العراق وسوريا يريد توصيل رسالة للعالم تختصر بكلمات «لا شيء يمكن أن يقتلعنا»، وذلك عبر توجيه ضربات في كل مكان. وحقًا، منذ توالي هزائم التنظيم وانتشار الهجمات الإرهابية في كل اتجاه، نجد نفس الرسالة تتكرر كل عام، من تفجيرات باريس نهاية العام الماضي التي خلفت 130 قتيلاً، وعمليتين في لبنان أسفرتا عن 43 قتيلاً في تفجير مزدوج ببيروت، ومسافة أسبوعين هي ما تفصل بين هذا وذاك لتتحطم الطائرة الروسية في سيناء ويقتل فيها 224 شخصًا.
إثارة الكريسماس ورأس السنة الميلادية وقربها، التي تستنفر مختلف الأجهزة الأمنية في الغرب والشرق كله الآن، تظل رغم ضخامتها عمليات استنزافية تستهدف توصيل الرسالة، ولكن تظل المعارك الحقيقية للإرهاب في بؤر الأزمات وضد دول المنطقة - باستثناء إيران. وحتى عمليات الإرهاب عبر «الذئاب المنفردة» والخلايا الفردية تهدف إلى تخفيف الضغط وتأكيد الحضور على مواطن التركيز الرئيسية في المنطقة.
وشهد العالم العربي - خلال العقد الأخير فقط - ما لا يقل عن 78 في المائة من عمليات الإرهاب حول العالم، وخصوصًا تلك الكبرى التي يزيد عدد ضحاياها على 500 قتيل، لكونه يمثل فضاء للتمكين في التصور الإرهابي. وفي المقابل، لم تشهد الدول الغربية وغيرها أكثر من 21 في المائة من مجموع هذه العمليات منذ عامي 2000 و2003، لكون الغرب فضاءً للاستنزاف والإنهاك والحضور الإعلامي بشكل رئيسي، وليس هدفًا للتمكين في الأصل. إنه العدو البعيد للإرهاب بينما تظل الأنظمة الوطنية العربية هي العدو القريب والهدف الأقرب.
مثل هذا التحديد، في فهم أهداف وغايات الإرهاب، وكذلك تمثلاته وتنوعها، قد يساعد في صياغة عالمية واضحة وحاسمة في التعاطي مع معضلة الإرهاب وظاهرته العنكبوتية، بعيدًا عن محاولة دؤوبة من مصادر وأطراف للأزمة - شأن نظامي إيران وسوريا - توظيفه دائمًا في التبرير لإرهاب مضاد له.
بعض أصوات الخطاب «القومي» العربي كانت من أكثر الأصوات تبشيرًا بما يسمى «الربيع العربي» وثوراته عام 2011، إلا أنها رغم شجبها وإدانتها لجرائم نظام بشار الأسد، ووصف نظامه بـ«جمهورية الصمت والخوف» قبل اندلاع الثورات، فإنها استثنت الشعب السوري من حقه دون سواه في التغيير والإصلاح، بل ومنحت الأسد حصانة شعار «المقاومة» ومارست دعاية انغلاقية اختزلت سوريا - الشعب والنظام والدولة - في شخص حاكمها.
لم ينتبه بعض هؤلاء للخطاب ولا الأداء الذي عضّد من استمراره وبقائه، وخصوصًا تأجيج المشاعر الطائفية والاستعانة بميليشيات طائفية موالية له والدعم الإيراني التوسعي في سوريا، والراديكالية المتعصبة الزاعقة التي يفاخر بها قادة وعناصر الحرس الثوري الإيراني في كل لحظة، وعقب كل معركة. وأخطر من كل ذلك التشتيت الذي يمارسه خطابها، في اتهام الولايات المتحدة تارة، واتهام العالم العربي والخليج وتركيا تارة أخرى في المؤامرة على نظام الأسد، وغير ذلك من أدوات تشتيت وتضبيب، لا تتجاهل فقط الحل السياسي وممكناته ومرجعياته، بل تتجاهل أيضًا، وبشكل واضح مآسي سوريا ومآلاتها مع الأسد طيلة السنوات الخمس الماضية.
عقب إسقاط مدينة حلب، جاءت تصريحات الحرس الثوري الإيراني معبرة عن فكرتي «التوسع والتدخل الإيراني» ولمزيد من الأزمات للمنطقة، وعن النزعة الميليشياوية الرسمية لهذا النظام. إذ ذكر العميد مسعود جزائري، مساعد رئيس هيئة أركان القوات المسلحة في تصريح لوكالة «تسنيم» - التابعة لجهاز استخبارات الحرس الثوري - يوم الأحد 18 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أن تجربة الحرب والتدخل في سوريا «لن تقف عند حلب، بل ستتوسع في بؤر أخرى»، وأنها «دفاع مقدس عن إيران»!
وكرّر الجنرال حسين سلامي، نائب القائد العام للحرس الثوري، اتهامات «معتادة» للولايات المتحدة بتنفيذ «خطة تقسيم سوريا وإسقاط النظام فيها، انطلاقًا من أحلام الشرق الأوسط الكبير الأميركي، لكنها واجهت الفشل عبر انتصارنا والجيش السوري»، حسب زعمه.
وأيضًا، صرح العميد سعيد قاآني، نائب قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري، بأنه «سيتم تحديد مصير الحرب السورية خلال العام الحالي، وأن هذه الحرب مستمرة لأنها حرب تتعلق بالمصير والوجود»، كما أن «عمليات الحرس الثوري مستمرة هناك ولن تتوقف الحرب ضد الجماعات الإرهابية». وأردف أن لدى إيران ضباطًا وشبابًا في سوريا «خاضوا الحرب لأول مرة في حياتهم بها، لكنهم أصبحوا اليوم مثل قادة الحرب الإيرانية - العراقية قادرين على إدارة عدة عمليات عسكرية».
أما مستشار المرشد الأعلى للشؤون الدولية، الدكتور علي أكبر ولايتي، فقال وفق وكالة «مهر» الإيرانية الرسمية للأنباء: «انتصارنا في حلب هو بداية لسلسلة انتصاراتنا المقبلة في المنطقة، ونحن نجحنا على مدار 5 سنوات من حربنا في سوريا في إثبات هويتنا وتحقيق أهدافنا. كما أن انتصارنا هذا يأتي ضمن كثير من الانتصارات التي حققناها في الفترة الماضية، من بينها انتصارنا في الموصل». وجدد مستشار قائد الثورة الإسلامية للشؤون الدولية انتقاده واتهامه للولايات المتحدة بتواطئها وتهريب الإرهابيين - حسب زعمه بعد هزيمتهم في حلب!
ومن ناحية أخرى، صرح علاء الدين بروجردي، رئيس لجنة السياسة الخارجية والأمن القومي في البرلمان الإيراني، متباهيًا: «إننا نحتفل الآن بانتصارنا الكبير في حلب الذي كان نتيجة لانتصاراتنا في العراق واليمن ولبنان، كما نهنئ أنفسنا بهذا الانتصار الكبير».
هذا المنطق الإيراني التأزيمي والفوضوي والميليشياوي التوسعي يمثل الوجه الآخر لثنائية الإرهاب الطائفي، ولكن يبدو أن العالم لا ينتبه للوجهين معًا.
إن الإرهاب الذي استعاد تدمر في نفس يوم تنفيذه جريمة الكنيسة البطرسية في القاهرة وتتمدد عملياته التفجيرية والتقتيلية لقلب أوروبا ومدنها وساحاتها، كما شاهدنا في برلين وبروكسل وباريس ونيس، تلتمس مكافحته والقضاء عليه حلاً ماسًا وضروريًا تقضي على بؤر تمكينه ومبرراته، كما يحتاج المساواة بين كل أطرافه ومجرميه الذي يقتلون باسم الخليفة أو المرشد ووقف سيل التدخلات المتحيزة لطرف على طرف التي تزيد الفوضى وتستجلب نصرات مضادة، ولا يكفي تألمنا من نتائجه واستعادته الحياة بين يوم وآخر.
وفي حين يستهدف الإرهاب في المنطقة العربية - الأكثر معاناة من ويلاته وعملياته التمكين وإقامة «ولايته» كما فعل في الرقة سابقًا أو الموصل، تظل باقي عملياته في سائر العالم استنزافًا وإنهاكًا وحضورًا يثبط عزائم العالم عن التدخل أو التشويش أو الحسم في مناطقه أهداف تمكينه الرئيسة.
لقد صعدت مخايل نصر الأسد وحلفائه في حلب، التي أعلنت في الأسبوع الأول من ديسمبر الماضي، وراجت معه دعايات أن «الاستقرار ودحر الإرهاب مشروط ببقائه». وهذا رغم مآسيه التي أدانتها المنظمات الدولية والإنسانية في العالم أجمع، وكان آخرها إدانة منظمة المؤتمر الإسلامي و53 دولة إسلامية له الخميس 22 ديسمبر.
هذا النظام وداعموه لم ينتصروا على «داعش» الذي استعاد مدينة تدمر الأثرية بعد ساعات من تسليمه حلب! بل إن ما حدث هو تمكينه من الاستفراد بالفصائل المعتدلة التي رفضت التوحّد مع «جبهة فتح الشام» (جبهة النصرة سابقًا) رغم ضغوط قوى خارجية عليها، وكان إعلانه بعد دقائق من إجلاء عشرات آلاف من المدنيين منها والمعارضة المعتدلة من آخر جيب فيها.
نعم. لم تتحقق أي من مخايل هذا النصر الكبير لنظام دمشق، الذي حاول ترويجها إقليميًا وعالميًا، إذ ما إن بدأ الأسبوع الثاني من شهر ديسمبر حتى أعلن «داعش» استعادته السيطرة على مدينة تدمر في 11 ديسمبر، وفي اليوم نفسه كان تفجير الكنيسة البطرسية المصرية استهدافًا ومحاولة لضرب الوحدة الوطنية المصرية، التي زادت صلابة. وامتدت عملياته من مصر والصومال، وفي 20 ديسمبر كانت تفجيرات برلين، ولا يزال يصعد في كل مكان مخلفًا وراءه ضحاياه وقتلاه وآلامه.
في هذا المشهد الديسمبري العنيف الذي يستعيد فيه الإرهاب حيويته وخطورته ويسمع العالم صوته، هاجس قلق يخترق احتفالات الكريسماس، طُرحت أسئلة جديدة بعضها يخص سلاحه الجديد في استخدام الشاحنات، الذي سبق أن استخدمه في نيس في فرنسا هذا العام أيضًا، إلى مراجعة السياسات الألمانية والأوروبية عمومًا تجاه المهاجرين وازدياد الغضب ضدهم. وهذا فضلاً عن تبريراته وشرعنته للأصوات اليمينية المتطرفة التي توظف الخوف منه لترويج شعاراتها، ويبدو حضورها صاعدًا من نجاح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى صعود مارين لوبان وعودة النازية الجديدة في ألمانيا وصعودها من جديد.
رغم كل هذه التداعيات والنتائج فإن مراجعة التصورات الدولية للإرهاب، وإدراك تنوعاته وروافده وتبريراته وخطابه عن قرب دون تيه وتفسيرات لا علاقة لها بخطابه، كاتهام التراث تارة أو اتهام المؤسسة الدينية أو اتهام بعض دعاة وأدعياء التجديد الديني نفسه، تظل أمورًا مهمة في سبيل مكافحة وأد يموت بعدها أو يحتضر على الأقل.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.