أيام في جيبوتي (2 - 3) : جيبوتي تسعى إلى دبي «اقتصاديًا» وشرم الشيخ «سياحيًا»

فتحت الباب لدخول استثمارات بمليارات الدولارات

ميناء جيبوتي البحري يغص بمئات الآلاف من الحاويات التي تنتظر النقل إلى وسط أفريقيا («الشرق الأوسط»)
ميناء جيبوتي البحري يغص بمئات الآلاف من الحاويات التي تنتظر النقل إلى وسط أفريقيا («الشرق الأوسط»)
TT

أيام في جيبوتي (2 - 3) : جيبوتي تسعى إلى دبي «اقتصاديًا» وشرم الشيخ «سياحيًا»

ميناء جيبوتي البحري يغص بمئات الآلاف من الحاويات التي تنتظر النقل إلى وسط أفريقيا («الشرق الأوسط»)
ميناء جيبوتي البحري يغص بمئات الآلاف من الحاويات التي تنتظر النقل إلى وسط أفريقيا («الشرق الأوسط»)

«ما نقوم به في جيبوتي، في الحقيقة، يهدف إلى تحويل بلدنا، خلال السنوات المقبلة، إلى شرم الشيخ سياحيا، ودبي اقتصاديا». هكذا يقول وزير السياحة المكلف أيضا بوزارة التجارة في جيبوتي، علي داود عبدو.
يطل مكتب عبدو على الشارع الرئيسي في قلب العاصمة، ومن هنا إلى مكتب وزير الإعلام والاتصالات، عبدي يوسف سجيه، عبر عدة شوارع، تبدو حركة السيارات والناس أكبر مما كانت عليه في الماضي؛ فقد فتحت عدة بنوك وشركات أجنبية أبوابها، ومن المتوقع أن تستقطب البلاد مزيدا من الاستثمارات. يقول الوزير سجيه، وهو يشير بيده إلى الجهة الأخرى: «سوف تبدأ شركة هندية في إقامة مركز ضخم للاتصالات والإنتاج الدرامي».
ولا يخلو بهو فندق من فنادق جيبوتي من جلسة لمجموعة من المستثمرين الطامحين سواء كانوا من أبناء جيبوتي أو من جنسيات أخرى جاءوا إلى هنا لاغتنام الفرص الجديدة.
رأسمال البلاد الكبير كما يقول المسؤولون، هو الأمن والهدوء وسط محيط تكثر فيه النزاعات. ويوضح أحمد محمد، السوداني الجنسية، الذي يدير شركة «شرق أفريقيا للمواشي والتجارة العامة»، انطلاقا من جيبوتي، أن «جيبوتي ستكون سنغافورة أفريقيا خلال المرحلة المقبلة. نعمل على هذا الأمل. والفرص كثيرة».
تنقسم جيبوتي إلى ثلاث شرائح رئيسية؛ الفقراء والطبقة الوسطى والأثرياء. وكل شريحة تضم وافدين من جنسيات مختلفة؛ من إثيوبيا، والصومال، واليمن، والسودان، وغيرها. خليط من اللغات والثقافات التي تمكنت من التعايش سويا طيلة عشرات السنين. في الأسواق الشعبية مثل سوق الدبداب، الذي يقع فيه مسجد الشيخ حمودي أقدم مساجد جيبوتي، تبث موجات الراديو الأخبار والأغاني باللغات الصومالية والعفرية والفرنسية والعربية. وكلٌ يضع مؤشر الراديو على لغته.
ووسط هذا اللغط ينادي الباعة على الملابس الجديدة القادمة من الخليج ومصر وعلى أنواع الهواتف المستوردة من الصين وعلى أجولة التوابل والقات الواردة من إثيوبيا. ومن بين هؤلاء الباعة الفقراء شبان، مثل خالد، ممن جرى تسجيل أسمائهم ضمن ألفي عامل سوف يتم ضمهم للعمل في ميناء دورالي البحري بعد الانتهاء من توسيعه. وخالد (27 عاما) تزوج مبكرا مثل غالبية الطبقة الفقيرة في جيبوتي ولديه ستة أطفال.
وفي الفنادق المتوسطة والكبيرة حيث يقيم الأجانب، تغص المقاهي والكافيتريات الملحقة بها، برجال الطبقة الوسطى من جيبوتي ومن البلاد المجاورة. هؤلاء يحاولون تطوير أعمالهم في الموانئ وفي الحظائر الجمركية لمواكبة النمو الاقتصادي، الذي وصل إلى 6 في المائة، مع العمل على فتح مسارات مع الدول الأخرى سواء في الداخل الأفريقي أو في منطقة الشرق الأوسط والخليج، مثل السوداني، مدير شركة «شرق أفريقيا للمواشي والتجارة العامة»، قائلا إنه يسعى لفتح أسواق جديدة لتصدير المواشي في المنطقة.
أما الطبقة الثرية التي تسهم بشكل كبير في ضخ العملات الأجنبية في البلاد، فتتكون من مستثمرين كبار يعكفون على بناء مراكز تجارية وترفيهية مجمعة، ويطمحون في اقتناص فرص جديدة في الموانئ التي يجري بناؤها على سواحل جيبوتي وفي اثنين من المطارات الدولية الجاري تأسيسها. من بين هؤلاء صينيون وهنود وأوروبيون.
ويقيم معظمهم في فنادق الخمس نجوم باهظة التكلفة مقارنة بنظيراتها في دول أخرى؛ إذ يبلغ سعر الغرفة في مثل هذه الفنادق نحو 220 دولارا لليلة. ويقول علي أحمد تبيع، مدير ورئيس شركة «لافياثان»، ومقرها المنطقة الحرة: «نعمل على تقديم الخدمات للشركات الأخرى التي تسعى لفتح مشروعات في إثيوبيا ودول قريبة انطلاقا من جيبوتي».
لك الخيار في شرب فنجان قهوة في المقاهي التي يديرها وافدون سنغاليون وإثيوبيون ويمنيون، والمبنية بالبوص والقماش على الشاطئ بسعر لا يزيد على خمسين فرنكا، أي نحو ربع دولار، أو الانتقال إلى الشارع الآخر، مثل شارع بلاتوه دي سربون، حيث يبلغ سعر فنجان القهوة خمسة آلاف فرنك. ويؤدي هذا الشارع إلى منطقة السفارات الغربية ومقار المنظمات الدولية والفنادق الفخمة المطلة على الضفة المقابلة من البحر، التي يقيم فيها رجال الأعمال الكبار.
ويقول الوزير علي داود عبدو: «توجد مشروعات كثيرة تريد الدولة أن تستثمر فيها ضمن رؤية جيبوتي لعام 2035، ومنها ما يرتكز على قطاع السياحة بشكل أساسي، وبخاصة أن السياحة شهدت نموا متزايدا بداية من عام 2000؛ حيث بلغ عدد السياح 72385 سائحا في السنة، مشيرا إلى أن هناك مشروعات سياحية كثيرة في الطريق، في منطقة بحيرة لاك عسل، وقابة بيه، وفوريدي بيه، وغيرها من المناطق الواعدة».
ويضيف قائلا: «كما تعرفون جيبوتي تقع في منطقة استراتيجية... ومقارنة ببعض دول الإقليم المضطربة فإن رأسمال جيبوتي هو الأمن والاستقرار، والحكومة لديها مشروع لاستثمار هذا الأمن لجذب الاستثمارات سواء كانت غربية أو خليجية أو من أي دولة عربية أخرى».
وينتظر أن تشهد محافظة «أُبخ» مشروعات ضخمة، وبخاصة في مجال السياحة وإصلاح السفن، مع إقامة مطار لنقل السياح ورجال الأعمال مباشرة إلى المحافظة دون الحاجة للمرور بالعاصمة. وتقع «أبخ» على البحر في مواجهة باب المندب، وتوجد بالقرب منها سبع جزر تصلح للغوص.
ويؤكد الوزير أن رؤية بلاده أن تتحول إلى «دبي صغيرة في مجال الاستثمارات» و«شرم الشيخ أو إندونيسيا في مجال السياحة»، مشيرا إلى أن جيبوتي تقع على ثاني أهم طرق التجارة العالمية، والحكومة أدركت هذه النقطة، ولهذا سوف تفتتح قريبا كثيرا من الموانئ البحرية مثل ميناء تاجورة وميناء عسل. و«هناك أكثر من سبعة موانئ بالإضافة إلى ميناء جيبوتي، وكل هذه الموانئ سوف تخدم مجموعة دول الإيغاد والكوميسا، إضافة إلى التجارة الدولية».
ولم يعد المطار الحالي قادرا على استيعاب التطورات الاقتصادية والتنموية في البلاد. وسيؤدي افتتاح مطارين جديدين إلى نقلة مختلفة في مسار التطور في جيبوتي، كما يؤكد المسؤولون هنا.
وتقوم بتشييد المطارين شركة صينية. ويقع المطار الأول، واسمه مطار «حسن غوليد»، وهو اسم أول رئيس لجيبوتي، على بعد نحو 25 كيلومترا جنوب غربي العاصمة، وسيتم افتتاحه خلال عام 2018 وتبلغ مساحته نحو 50 كيلومترا مربعا، وسيكون في إمكانه استيعاب نحو 1.5 مليون مسافر سنويا، وسيستقبل الطائرات الكبيرة من نوع إيه 380.
بينما يجري بناء المطار الثاني في محافظة «أُبخ» (شمال العاصمة بنحو 300 كيلومتر)، تحت اسم مطار «أحمد ديني أحمد»، وهو رئيس سابق لكل من الجمعية الوطنية (البرلمان) ومجلس الوزراء، بطاقة استيعابية لنحو 350 ألف مسافر سنويا، على أن يتضاعف العدد بحلول عام 2021 إلى أكثر من 700 ألف مسافر.
قبل نحو سبع سنوات كان يوجد في جيبوتي بنكان فقط، أما اليوم فأصبح فيها ما لا يقل عن 12 بنكا ما بين محلي وأفريقي ودولي، من بينها بنوك صينية وماليزية ويمنية. ويوضح الوزير، علي داود عبدو، أن «العملة الجيبوتية (الفرنك) مستقرة أمام الدولار ولم تتغير قيمتها منذ عام 1977؛ ولهذا يوجد جذب للاستثمارات الأجنبية والعربية، واستقرار العملة المحلية يشجع المستثمر ويعطيه أمل، بينما تعويم العملة يمكن أن يخيف المستثمر أو يجعله مترددا».
ويقول الوزير: «بشكل عام يعد مناخ الاستثمار في جيبوتي جيدا، وقوانين الاستثمار مشجعة وهناك إعفاءات ضريبية تعطى للمستثمر العربي دون غيره؛ ولهذا نريد أن نجذب المستثمرين العرب الذين يريدون الاستثمار في بلد عربي وبخاصة من الخليج».
ومن بين المشروعات التي يجري العمل عليها في الوقت الراهن، قطاع السكك الحديدية والاتصالات والنقل الجوي؛ حيث تعتزم البلاد بناء مطار دولي جديد بسعة أكبر من المطار الحالي، وكذلك إقامة مطار دولي آخر في محافظة أبخ شمالا.
من جانبه، يقول وزير الإعلام والاتصالات إن بلاده تسعى منذ عدة سنوات لجعل الإعلام والاتصالات تواكب التطور الجاري في جيبوتي، مشيرا إلى وجود مساع من أجل فتح المجال لتأسيس صحف محلية، خصوصا بالأقاليم، مع تطوير الإعلام المرئي والمسموع أيضا.
ويكشف الوزير النقاب عن أنه جرى مؤخرا فتح المجال لعدة شركات محلية ودولية لهذا الغرض. ويقول: «ستقوم شركة هندية بإقامة مركز عبارة عن (مبنى ذكي كبير) لإنتاج الأفلام والأعمال الدرامية إضافة لخدمات الاتصالات المتطورة».
وأصبحت تمر من جيبوتي ثمانية كوابل بحرية عالمية، وتتجه إلى العمق الأفريقي ثم إلى أوروبا عبر مصر والأردن والشرق الأوسط والمحيط الهندي وصولا إلى آسيا أيضا. ويضيف الوزير عبدي يوسف سجيه: «آخر كابل ألياف ضوئية حديث سيمر من جيبوتي وتم إطلاقه مؤخرا ويصل إلى كينيا وتنزانيا والصومال وغيرها في أفريقيا وهذا يخدم الاتصالات والإنترنت... نحن بمثابة الحلقة لأفريقيا والمنطقة».
وتحاول الدولة أن تزيد من مساحة اللغة العربية في وسائل الإعلام، ويتحدث جانب كبير من الطبقة العليا في البلاد بالفرنسية لأسباب تتعلق بالتعليم في حقبة الاحتلال الفرنسي للبلاد، بينما تنتشر على المستوى الشعبي وعلى نطاق واسع اللغات المحلية، الصومالية والعفرية، إلى جانب اللغة العربية التي يتحدث بها أكثر من 30 في المائة من عدد السكان، الذي يقل قليلا عن مليون نسمة.
وتعود أصول الوزير الجيبوتي، سجيه، إلى القبيلة الصومالية، وكان جده شاعرا مشهورا في جيبوتي. وبالإضافة إلى اللغة الصومالية، يتحدث الوزير الفرنسية والإنجليزية، وتعلم اللغة العربية على فترات قصيرة، ويضيف قائلا إن «كل الناس في جيبوتي يفهمون اللغة العربية، لكنهم نادرا ما يتكلمون بها».
وتمتلك جيبوتي حدودا قارية وبحرية، وتبلغ حدودها الشمالية مع إريتريا نحو 520 كيلومترا، وتحدها من الغرب والجنوب إثيوبيا، ومن الجنوب أيضا الصومال، وتمتد شواطئها إلى نحو 370 كيلومترا، من رأس دويرة شمالا، إلى قرية لوعدا جنوبا، وتقدر مساحتها بـ23 ألف كيلومتر مربع، وفي الجنوب الشرقي تقع محافظة «علي - صبيح»، وفي الوسط محافظة «عرتا»، وفي الجنوب الغربي محافظتا «دخل» و«تاجورة»، بينما تقع محافظة أبخ في الشمال الغربي؛ وكل محافظة يقطنها من 30 ألفا إلى 40 ألف نسمة، أما باقي السكان فهم من البدو الرحل الذين يسكنون البوادي، ويرتكز باقي السكان، أي نحو 400 ألف نسمة، في العاصمة.
وبالتزامن مع برامج للرعاية الاجتماعية موجهة إلى الطبقات الدنيا أطلقتها الحكومة تحت رعاية رئيس الدولة إسماعيل عمر غيلة، يولي الرئيس غيلة أيضا اهتماما ملحوظا بالفاعلين في القطاع الخاص الجيبوتي، سواء كانوا من القطاع المحلي أو الأجنبي، بهدف الاستفادة من التعاون بين الجانبين في تطوير مجال التجارة والمشروعات الصغيرة والمتوسطة والحرف اليدوية والسياحة، بما يعود بالنفع على القطاع المحلي الجيبوتي.
وفي هذا الصدد، جرى كذلك إطلاق آلية مؤسسية مختصة بالتشاور بين القطاع العام والخاص، وتحظى باهتمام أعضاء من الحكومة والبرلمان وممثلين من المنظمات الدولية والبعثات الدبلوماسية، وذلك من أجل البحث عن حلول للعقبات التي تعرقل النمو في البلاد، والعمل على تسهيل تنفيذ المقترحات المبتكرة لصالح الشركات المحلية. وفي المقهى الملحق بفندق مينليك، وهو اسم يعود لملك أفريقي قوي من الزمن الماضي، بدأ عدد من رجال الأعمال المحليين والأجانب يتوافد لشرب قهوة الصباح وبحث المشروعات الجديدة. ويقول عيسى موسى وهو رجل أعمال جيبوتي، استحوذ على جانب من المشروعات الجديدة لتطوير المساكن الشعبية في العاصمة، وفقا للخطة التي وضعها رئيس الدولة، إن الاستثمار في بناء المساكن وتطوير البنية التحتية أصبح مثيرا لشهية كثير من المستثمرين العرب. ومن جانبه يضيف تبيع، مدير ورئيس شركة لافياثان، مستبشرا: «حصلنا مؤخرا على عقود بتسلم مئات الحاويات في الميناء لنقلها إلى إثيوبيا».
ويشترك مع مدير شركة «شرق أفريقيا للمواشي والتجارة العامة»، السوداني الجنسية، رجال أعمال مصريون ويمنيون وسودانيون. وتبدو الحركة الدائبة في جيبوتي أكبر من إمكانات الموانئ البحرية والمطارات؛ ولهذا ترحب الدولة ورجال الأعمال بكل من يأتي للعمل هنا، ومن أبرز هؤلاء الصينيون الذين يقومون بتوسيع عدد من الموانئ وشق الطرق وخطوط السكك الحديدية.
وارتفعت كمية الواردات التي تصل إلى ميناء جيبوتي بنسبة تصل إلى 300 في المائة خلال السنوات العشر الأخيرة. ويصل إلى جيبوتي سنويا نحو 3 ملايين حاوية، معظمها خاص بدول تقع في وسط أفريقيا.
ويقول أحد رجال الأعمال: «أحيانا تنتظر السفينة لمدة عشرين يوما من أجل دخول الميناء لتفريغ شحنتها... ولهذا دخل الصينيون لبناء موانئ جديدة لاستيعاب احتياجات 300 مليون نسمة في المنطقة».



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.