أيام في جيبوتي (1 - 3) : خريطة القواعد العسكرية الأجنبية في جيبوتي

أقدمها فرنسية وأكبرها أميركية وأصغرها يابانية... والصين والسعودية في الطريق

زورق أميركي وآخر فرنسي يتعاونان في تأمين الملاحة في مضيق باب المندب
زورق أميركي وآخر فرنسي يتعاونان في تأمين الملاحة في مضيق باب المندب
TT

أيام في جيبوتي (1 - 3) : خريطة القواعد العسكرية الأجنبية في جيبوتي

زورق أميركي وآخر فرنسي يتعاونان في تأمين الملاحة في مضيق باب المندب
زورق أميركي وآخر فرنسي يتعاونان في تأمين الملاحة في مضيق باب المندب

غير مسموح للجنود والضباط العاملين في القواعد العسكرية الأجنبية في جيبوتي الاختلاط بعامة الناس.
لديهم كل شيء داخل معسكراتهم وفنادقهم، مطاعم، مقاهٍ، نوادٍ وملاعب ترفيهية. لكن يمكن ارتداء ملابس مدنية والتجول في البلدة الفقيرة والهادئة، في بعض الأوقات، كما فعل المسؤول في الجيش الأميركي العقيد جون، الذي يدير فريقا متخصصا في إصلاح آليات في قواعد عسكرية تابعة لبلاده في المنطقة.
وتجولت {الشرق الأوسط} في أنحاء الدولة الأفريقية الواقعة في القرن الإفريقي.. وتساءلت عن القواعد والاستقرار والاستثمار وجاءت الإجابات في ثلاث حلقات تنشر تباعاً.
يتزايد عدد القواعد العسكرية في القرن الأفريقي بالقرب من مضيق باب المندب الذي تعبر منه سنويا نحو 12 مليون حاوية من البضائع، إضافة لناقلات النفط، ويعد أحد أهم منافذ التجارة الدولية. طلائع القادة العسكريين الذين حطوا هنا قبل 15 سنة، لم يكن اهتمامهم، في البداية، حماية التجارة، وإنما ملاحقة الإرهابيين ومراقبة بؤر التوتر في أفريقيا والشرق الأوسط. وتعد جيبوتي، متعددة العرقيات واللغات، واحدة من أكثر دول المنطقة استقرارا مقارنة بدول مجاورة مثل الصومال وجنوب السودان واليمن. وتقع ضمن القرن الأفريقي على الساحل الشرقي للقارة السمراء. وتتحكم، مع اليمن في الجهة الآسيوية المقابلة، بمضيق باب المندب. ومن هنا كانت تعبر، قبل مئات السنين، قوافل تجار جلود الحيوانات من أفريقيا إلى الصين، ومبادلتها بالأقمشة. اليوم تعود الأهمية التجارية إلى المنطقة باستثمارات تقدر بمئات المليارات من الدولارات.
يقول الرئيس الجيبوتي، إسماعيل عمر غيلة، لـ«الشرق الأوسط»: إن كل هذه الاستثمارات وحركة التجارة تحتاج إلى قوة تحميها، مشيرا إلى أن الأزمة الصومالية، والحرب في اليمن، والقرصنة البحرية، والإرهاب، والجفاف المتكرر، يعد من التحديات الرئيسية التي تعانيها هذه المنطقة الحيوية من العالم، على الصعيدين الأمني والتنموي. ويضيف الرئيس غيلة: إن بلاده تضطلع بدور طليعي في الجهود المبذولة لمواجهة هذه التحديات وتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة؛ لينعكس ذلك إيجابا على التكامل والتضامن الاقتصادي، وتعزيز فرص العيش الكريم لشعوبها.
وتوجد قاعدة عسكرية فرنسية داخل أسوار ضخمة يعود معظمها إلى حقبة الاحتلال الفرنسي لجيبوتي قبل مائة سنة. وهي أكبر مساحة، لكنها، في الوقت الرهن، أقل عتادا وجنودا مما كانت عليه في الماضي، مقارنة بالقاعدة الأميركية المعروفة باسم «لامنيار (Lemonnier)» التي تدير علاقات مع عشرات الدول في المنطقة. وتتعاون مع الفرنسيين في تسيير دوريات في البحر.
بدأ التفكير في إقامة القاعدة الأميركية، الأكبر في أفريقيا داخل جيبوتي، عقب هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 بالولايات المتحدة؛ وذلك في محاولة للحد من نشاط الجماعات المتطرفة وتقديم الخدمات الإنسانية والعمل عن قرب مع الحكومات المحلية.
وفيما بعد أدى تفاقم الفوضى على الساحل الصومالي واستهداف جماعات متشددة وقراصنة للسفن العابرة، إلى تزايد أهمية القرن الأفريقي. ثم زاد الاهتمام بالمنطقة عقب التمرد الذي قام به الانقلابيون الحوثيون في اليمن، ومحاولات إيران الداعمة للانقلابيين، التواجد في المضيق الذي تمر منه الناقلات عبر البحر الأحمر وقناة السويس إلى الدول الغربية.
وتمتد القاعدة الأميركية، ومركزها في ضاحية آمبولييه، بجوار سور مطار جيبوتي بطول نحو 4 آلاف متر. وفيها مدرج لانطلاق الطائرات من دون طيار والطائرات الحربية والمروحيات. ويبلغ عدد الجنود فيها نحو 2000 جندي وضابط، ويرتفع العدد إلى نحو 3700 بحساب العاملين المدنيين الأميركيين والمحليين. وتغص القاعدة بحظائر للطائرات وهناجر لتخزين الآليات والأسلحة. وتملأ أركانها بعدد من المطاعم والمقاهي ذات الماركات العالمية المعروفة، ومنها مطاعم البيتزا.
وتنتشر في القاعدة ملاعب كرة القدم والكرة الطائرة وصالات الاحتفالات وحمامات السباحة وصالات رفع الأثقال وغيرها. ويتردد عليها مسؤولون من جيش الولايات المتحدة بين حين وآخر، مثل العقيد جون الذي التقت به «الشرق الأوسط» أثناء رحلة بالطائرة في المنطقة. وهو مثل غالبية الأميركيين، تتملكه الغيرة كلما رأى لافتة من لافتات الشركات الصينية التي تعمل هنا.
ومن المقرر أن تبدأ الصين في إنشاء قاعدة عسكرية لها، هي الأخرى، على بعد كيلومترات عدة من القاعدة الأميركية خلال عام 2017. وبينما تسعى المملكة العربية السعودية إلى إقامة قاعدة في مكان مجاور، من المقترح أن يكون قرب العاصمة، تحاول إيران أن تجد لها موضع قدم، ليس في جيبوتي التي قطعت علاقتها مع طهران قبل أشهر عدة بسبب سياساتها المريبة، ولكن في مناطق أخرى لم تتضح بعد.
وفتحت جيبوتي التي تعد من أهم دول القرن الأفريقي، الباب لدول كبرى وصديقة لتأسيس قواعد عسكرية، لكن، كما يقول المسؤولون هنا، بشروط خاصة لا تتعارض مع الأمن القومي الجيبوتي، ولا مع توجهات الدولة. والهدف مواجهة الإرهاب وحماية التجارة الضخمة العابرة من باب المندب، إضافة إلى حماية الاستثمارات الكبيرة التي تستقطبها جيبوتي من دول العالم لخدمة باقي دول القارة الأفريقية، وبخاصة تجمع دول «الإيغاد» و«الكوميسا». وحين وافقت جيبوتي للصين على إقامة قاعدة عسكرية، سألهم الأميركيون عن أنه ربما لا ينبغي الموافقة للجيش الصيني على التواجد هنا، لكن الجيبوتيين ردوا قائلين إن الصين تريد أن تحمي معنا تجارتها، وبخاصة أن ثلث الحاويات التي تعبر من باب المندب قادمة أساسا من الصين.
في مطلع العام الماضي اعتقد الأميركيون أن القاعدة الصينية التي سيتم تأسيسها ستكون قرب مدينة «أُبخ» التاريخية والمطلة مباشرة على باب المندب، في شمال جيبوتي. وجاء هذا الظن، على ما يبدو، بسبب قيام طلائع من الجيش الصيني بالتدريب في صحراء «أُبخ» ذات الطابع الاستراتيجي. ويقول أحد المسؤولين في جيبوتي: إن كل من تقدموا بطلبات لإقامة قواعد عسكرية في «أُبخ» في السنوات الأخيرة تم رفضها لأسباب تتعلق بالأمن القومي الجيبوتي، و«لم نسمح بأي تواجد عسكري أجنبي في أُبخ». ويوضح قائلا: «إذا وافقنا على أي إقامة عسكرية دائمة في أُبخ، لأي دولة، فهذا يعني أننا ربما سنخسر، مستقبلا، مضيق باب المندب الذي يمثل حجر الزاوية في سيادة جيبوتي».
وفيما بعد اتضح أن قطعة الأرض، التي شرعت الصين في إقامة قاعدتها العسكرية عليها، تقع قرب منطقة تاجورة، جنوب مدينة جيبوتي، على مسافة تبلغ نحو 10 كيلومترات من مقر القاعدة الأميركية. أي في النطاق الصحراوي للعاصمة. وتبلغ مساحة القاعدة الصينية نحو 80 فدانا، وهي أقل من مساحة نظيرتها الأميركية بكثير.
الغيرة الأميركية، والغربية عموما، من وجود الصينيين في جيبوتي، وهو الوجود العسكري الأول لها خارج أراضيها، لا يتعلق ببناء قاعدة لها في تاجورة فقط، ولكنه يتعلق كذلك بالاستثمارات الصينية الضخمة التي بدأت تتدفق على هذا البلد باعتباره منفذا بحريا مهما لدول وسط أفريقيا. ويقول مسؤول جيبوتي: «مع ذلك ستكون القاعدة الصينية أقل حجما من قاعدة ليمونييه، لكن قيمة تأجير أرض القاعدة الصينية، أكثر من القيمة التي تسددها القاعدة الأميركية».
ووفقا لمركز مقديشو للبحوث والدراسات، تجني جيبوتي نحو ربع مليار دولار سنويا مقابل تأجير أراض لقواعد عسكرية. وبحسب مصادر أخرى، تبلغ قيمة التأجير السنوية للولايات المتحدة نحو 70 مليونا، وللصين نحو 100 مليون، ولليابان ما يقارب من 35 مليونا، ولفرنسا (القاعدة الأقدم) نحو 30 مليونا، بالإضافة إلى مبالغ أخرى من دول لها تواجد عسكري محدود مثل ألمانيا وإسبانيا. هذا إلى جانب مساعدات ومشروعات تقوم بها هذه الدول لتنمية دول القرن الأفريقي وبلدان وسط القارة انطلاقا من جيبوتي.
الصين، على سبيل المثال، تعتزم ضخ استثمارات جديدة في هذه المنطقة تبلغ أكثر من 60 مليار دولار، بينما تسعى اليابان إلى افتتاح مشروعات إضافية تصل قيمتها إلى نحو 30 مليار دولار. وفي المقابل، يبدو أن العبء الأكبر في عملية بسط الاستقرار والأمن في المنطقة عموما، حتى الآن، يقع على عاتق القاعدة الأميركية التي تشمل عملياتها، حاليا، محاولة الحد من الاضطرابات في دولة جنوب السودان ومكافحة الإرهاب في الصومال والمشاركة في التصدي لمحاولات الحوثيين، ومن يدعمهم، تهديد الملاحة في البحر الأحمر.
ويعود تاريخ الوجود العسكري الياباني في جيبوتي إلى عام 2009، وهو أول وجود عسكري لليابان خارج حدودها منذ الحرب العالمية الثانية. وحين جاءوا إلى هنا قالوا: نريد أن يكون مكاننا قرب القاعدة الأميركية. والآن استقر الأمر إلى حد كبير. وفي كثير من الأحيان يقضي الجنود السهرات الليلية في النوادي التابعة للأميركيين.
وبينما يتزايد انتشار لافتات عليها كتابة باللغة الصينية، وتحمل أسماء لشركات قادمة من بكين إلى جيبوتي لتوسيع الموانئ البحرية، ومد خطوط السكك الحديدية إلى الداخل الأفريقي، بدأت اليابان في التخطيط لتوسيع قاعدتها العسكرية بالتزامن مع محاولة لزيادة استثماراتها في أفريقيا أيضا. وبدلا من الاعتماد على منشآت عدة مستأجرة من القوات الأميركية، تسعى اليابان إلى الحصول على مزيد من الأراضي للتوسع.
وخلال السنوات الخمس الأخيرة، ارتفع عدد الجنود اليابانيين في جيبوتي، الذين يطلق عليهم اسم «قوات الدفاع المدني»، من نحو 150 عنصرا إلى 400 عنصر. ويقيمون في منشآت على مساحة تبلغ نحو 30 فدانا، ويتنقلون، عبر أربع طائرات من طراز «بي 3 سي» بين القاعدة، واثنتين على الأقل من المدمرات البحرية اليابانية التي تشارك في تأمين مئات السفن التجارية وتراقب نشاط القراصنة والعناصر المشبوهة في خليج عدن.
وتعد أقدم قاعدة عسكرية في جيبوتي هي القاعدة الفرنسية التي تحمل اسم «فورس فرانسيس جيبوتي (ffdj)». وهي محاطة بأسوار عتيقة عليها أسلاك شائكة. ويمكن رؤيتها من طريق «دودا» المتفرع من شارع المطار. والقاعدة تتكون من جزأين.. مقر الإدارة على اليمين، ومقر القوات والآليات الحربية على اليسار. ويقع بينهما ميدان صغير تعبر منه سيارات سكان المدينة. ولا يفصل القاعدة الفرنسية عن أختها الأميركية إلا قاعدة أخرى تابعة لجيبوتي. ولا توجد قواعد عسكرية ثابتة للإسبان والألمان، لكن لديهم مئات عدة من الجنود والضباط ممن يديرون سفنا حربية عدة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب. وهم يترددون على فنادق جيبوتي الكبيرة ويقيمون فيها أياما عدة في بعض الأحيان. وحين تكون لديهم حاجة إلى المساعدة من على الأرض؛ فهم يلجأون عادة لطلب العون من القاعدة الأميركية أو الفرنسية.
وخلال الشهور القليلة الماضية، بدأت مشاورات وزيارات بين القيادتين العسكريتين في كل من جيبوتي والسعودية، تمخضت عن وضع مشروع مسودة اتفاق أمني وعسكري واستراتيجي، يتضمن استضافة جيبوتي لقاعدة عسكرية سعودية. ووفقا لوزير خارجية جيبوتي، محمود علي يوسف، فقد جرى تحديد بعض المواقع على الساحل الجيبوتي لهذا الغرض. ويضيف: وافقنا، بل شجعنا أن يكون للمملكة، ولأي دولة عربية، تواجد عسكري في جيبوتي؛ نظرا لما يحدث هنا في المنطقة.
وتسعى إيران منذ سنوات عدة إلى التواجد في باب المندب من خلال دعم الحوثيين في اليمن، ومحاولة إغراء دول في القرن الأفريقي بتقديم قروض ومساعدات، إلا أن الوزير يوسف يقول إن جيبوتي، عندما شعرت بأن التعاون مع إيران «كان دائما فيه كثير من اللبس، وفيه كثير من الأمور التي ربما تدخلنا في متاهات معها، ابتعدنا عنها شيئا فشيئا، إلى أن جاء الاعتداء على اليمن، وعلى المصالح العربية، فقررت جيبوتي أن تقطع علاقاتها مع إيران».
ومن جانبه، يبدو الرئيس غيلة من الزعماء الذين يسعون بجدية إلى مسايرة تغير المفاهيم في العالم فيما يتعلق بوجود قواعد عسكرية في بلاده التي لا تتعدى مساحتها 23 ألف كيلومتر مربع. فبعد أن كانت مسألة القواعد تثير الحساسية لدى بعض الدول، يرى الرئيس أن العالم تغير ويحتاج إلى تعاون أمني شامل من أجل التنمية.
ويقول غيلة إن «العالم شهد، خلال السنوات العشر الأخيرة، أزمات معقدة أدت إلى تبلور الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية الحرجة التي تسود في الكثير من أنحاء العالم، في الظرف الراهن. وكجزء من هذه الانعكاسات الخطيرة للأوضاع الدولية، فإن الإرهاب والعنف والتطرف سجل انتشارا واسع النطاق على نحو لم يسبق له مثيل»، مشيرا إلى أن «المجتمع الدولي يبذل جهودا متواصلة لمحاربة هذه الظاهرة وتجفيف منابعها».
ويضيف أنه، في هذا السياق، من الأهمية بمكان الإشارة إلى التصدي بفاعلية للإرهاب والعنف والتطرف، وأن هذا يتطلب تعاونا دوليا وثيقا، كما يتطلب مقاربة شاملة لا تقتصر فقط على الجانب الأمني والعسكري، بل تتعامل أيضا مع الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تسمح بتنامي الإرهاب.
وفي الماضي، وبخاصة في فترتي الستينات والسبعينات، ارتبط موضوع القواعد العسكرية الأجنبية بالاستعمار والهيمنة، لكن بعض الخبراء العسكريين في الوقت الراهن يقولون إن «الذراع العسكرية أصبحت أطول. ودون الحاجة إلى قاعدة عسكرية، من الممكن أن تطلق صاروخا من دولة إلى دولة أخرى على بعد آلاف الأميال. وبالتالي؛ فإن القواعد العسكرية أصبحت ترتبط بالأمن الدولي وحماية المصالح المشتركة للدول، وليس الاحتلال».
ويقول الوزير يوسف، إنه أصبحت توجد بالفعل «عولمة للأمن»، مشيرا إلى أن خليج عدن ومضيق باب المندب «هما عنق الزجاجة بالنسبة لهذا الأمن الجماعي». و«نحن نؤمن إيمانا راسخا بأن أمن مضيق باب المندب هو لمصلحة الجميع. وإذا كانت هناك قواعد عسكرية تستضيفها جيبوتي، فهي لحماية هذا الأمن الدولي»، مشددا على أنه لا علاقة لهذه المواقع أو القواعد العسكرية بالسياسة الداخلية لجيبوتي «لا من قريب ولا من بعيد».

غدًا في الحلقة الثانية:
* فتحت الباب لدخول استثمارات بمليارات الدولارات
* جيبوتي تسعى للتحول إلى «دبي اقتصاديًا» و«شرم الشيخ» سياحيًا



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».