الإرهاب واستهداف المناسبات الدينية

ظاهرة خطرة تتعمد إثارة ردة فعل مضادة

رجال البحث الجنائي وضباط شرطة في موقع حادث الدهس في العاصمة برلين الذي أوقع 12 قتيلا وعشرات الجرحى (أ.ف.ب)
رجال البحث الجنائي وضباط شرطة في موقع حادث الدهس في العاصمة برلين الذي أوقع 12 قتيلا وعشرات الجرحى (أ.ف.ب)
TT

الإرهاب واستهداف المناسبات الدينية

رجال البحث الجنائي وضباط شرطة في موقع حادث الدهس في العاصمة برلين الذي أوقع 12 قتيلا وعشرات الجرحى (أ.ف.ب)
رجال البحث الجنائي وضباط شرطة في موقع حادث الدهس في العاصمة برلين الذي أوقع 12 قتيلا وعشرات الجرحى (أ.ف.ب)

تنامي خطاب الكراهية وتجريم الآخر دفع المتطرفين لإلغاء إنسانيتهم واستهداف الأبرياء في مناسباتهم الدينية بعيدًا عن الشعور بأي ذنب. فهؤلاء - بنظر المتطرفين - يستحقون الموت، لكونهم لا يتبعون النهج الصحيح الذي ينتهجونه هم. ولقد تنامت في الآونة الأخيرة العمليات الانتحارية التي تركز على أماكن العبادة كالمساجد والكنائس من جهة، واختيار مناسبات دينية يسهل فيها استهداف تجمّعات كبيرة من جهة أخرى. وتتفاوت العمليات الإرهابية حسب الإمكانيات لدى التنظيم المتطرف ومدى قدرته على شنها، بين عمليات قد تقتل العشرات وهم يمارسون طقوسهم الدينية، وأخرى تصل إلى إبادة جماعية وسعي إلى «التطهير المذهبي» بشكل وحشي بالأخص في العراق وسوريا.
العمليات الإرهابية التي تكثفت في الآونة الأخيرة، بالأخص في عام 2015، تعبّر في ظاهرها عن تحقير للأقليات الدينية والمذهبية في الشرق الأوسط وحقد عليها، على اعتبار أن أبناءها «كفار» لا تصب نياتهم وأفعالهم في مصلحة المسلمين «الحقيقيين»، إلا أنها تحمل في باطنها تعمّد التسبب باحتقان شعبي وإثارة الغضب والطائفية وتأليب الأقليات، ومن ثم استغلال التوتر لغايات سياسية.
في الفترة الأخيرة استهدفت العمليات الإرهابية مناسبات دينية كعاشوراء وصلاة الجمعة وعيد الميلاد (لدى المسيحيين). وغالبيتها تعمدت استهداف أماكن عبادة كالمساجد والكنائس، وهي أماكن يفترض أن تكون آمنة، الواضح هنا رغبة الجناة في إثارة الذعر بجانب قتل أو إيذاء أكبر عدد ممكن من الضحايا. وما حدث في القاهرة أخيرًا في الهجوم الانتحاري الذي استهدف الكنيسة البطرسية في 12 ديسمبر (كانون الأول) الحالي يعد أبرز مثال للسعي المتعمد لاستفزاز الأقليات وترويعها وإثارة غضبها، وكما هو معروف، نجم عن هذه العملية - الجريمة مقتل 25 شخصًا. وبعدها أصدر تنظيم داعش الإرهابي المتطرف بيانًا استفزازيًا عبر «وسائل إعلامه» جاء فيه: «وليعلم كل كافر ومرتد في مصر وفي كل مكان أن حربنا على الشرك مستمرة، وأن دولة الخلافة ماضية بإذن الله تعالى، في إراقة دمائهم وشوي أبدانهم».
وبطبيعة الحال، تسارعت ردود الفعل وتصريحات المسؤولين ورجال الدين في مصر لمحاولة تهدئة الوضع والتعقيب على الحادثة، ومنها تصريح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي: «إن هذا الإرهاب الغادر إنما يستهدف الوطن بأقباطه ومسلميه، وإن مصر لن تزداد كعادتها إلا قوة وتماسكًا أمام هذه الظروف». ويذكر أنه سبق لتنظيم داعش أن أقدم من قبل على استهداف المسيحيين في كثير من المناسبات، من أبرزها تفجير كنيسة في ريف محافظة الحسكة الغربي بسوريا التي يعود تاريخ بنائها إلى ثلاثينات القرن الماضي، وذلك في 5 أبريل (نيسان) 2015م، وتزامنت الحادثة مع عيد الفصح.
ولم تقتصر العمليات الإرهابية على المسيحيين، بل استهدفت الشيعة في مناسبات دينية مختلفة، بدءًا بصلاة الجمعة وانتهاء بعاشوراء في المملكة العربية السعودية، كان أبرزها تفجير مسجد القديح في محافظة القطيف بتاريخ مايو (أيار) 2015م أثناء صلاة الجمعة، الذي استخدم فيه انتحاري حزامًا ناسفًا تسبب بمقتل 19 شخصًا. وكذلك تفجير الدالوة في محافظة الأحساء الذي استهدف حسينية في عاشوراء عام 2014م، وشهد مقتل 8 أشخاص، وبرر «داعش» - الذي تبنى الجريمتين - فعلتيه باعتباره المصلين في المسجد من «الرافضة» الذين يرميهم التنظيم بـ«الردّة». وفي الكويت، مع أن حادثة تفجير مسجد الإمام الصادق في الكويت - خلال يونيو (حزيران) 2015م إبان صلاة الجمعة - وصفت في حينها كحالة فردية، فلقد وصفها رئيس الوزراء الكويتي الشيخ جابر المبارك بـ«هجوم يستهدف الوحدة الوطنية» للبلاد.
وحقًا، امتد استهداف الأقليات الدينية ليصل إلى دول كثيرة أخرى خارج العالم العربي، أبرزها بنغلاديش وباكستان وأفغانستان، على أيدي تنظيمات متطرفة تشكل فروعًا لتنظيم داعش، أو تنظيمات أعلنت ولاءها وانتماءها له، كجماعة «بوكو حرام» التي عززت استهدافها للمسيحيين والشيعة من خلال عمليات إرهابية، أبرزها هجوم استهدف موكبًا شيعيًا في ولاية كانو بشمال نيجيريا تسبب بمقتل 22 شخصًا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015م.
في حين يشكل فيه طموح التنظيمات الإرهابية التي ترتكب جرائمها باسم الدين الحنيف - وهو منها براء - في المجتمعات المستقرة قتل العشرات من الأشخاص في مناسبات دينية، تفاقم الأمر في البلدان الأقل أمنًا، كالعراق وسوريا، ليتجاوز مناسبات معينة واصلاً إلى حد الإبادة.
هذه التنظيمات الإرهابية - بشقيها السني والشيعي - لعبت دورًا محوريًا في الترهيب وإثارة الفتن بين الطوائف الدينية المختلفة، الأمر الذي حدا إلى تنامي ظواهر متوحشة غير إنسانية. وكان مسلسل استهداف مرافق ومساجد عائدة للشيعة في العراق، قد بدأ بتعرض سامراء عام 2006م لتفجيرات استهدفت مراقد، وتفاقم الوضع بعد ذلك وازداد شراسة، في الاتجاهين. وفي تصريح لوزير الخارجية الأميركي جون كيري في 17 مارس (آذار) 2016م، قال كيري إن «(داعش) يرتكب إبادة بحق المسيحيين والإيزيديين والشيعة في المناطق التي يسيطر عليها في سوريا والعراق». وفي تصريحه تصنيف لما يقترفه تنظيم داعش على اعتبار أنه في خانة الإبادة. وتابع الوزير الأميركي: «الحقيقة هي أن (داعش) يقتل المسيحيين لأنهم مسيحيون، والإيزيديين لأنهم إيزيديون، والشيعة لأنهم شيعة». وحقًا، ليس من الصعب رؤية تنظيم داعش وتعمده محاربة الديانات والمذاهب الأخرى مما يصب في تأجيج الطائفية. ويبرز هذا التوجه عبر التسجيلات الصوتية والتصاريح التي تنشرها الجهات الإعلامية للتنظيم المتطرف. كدعوة زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي أتباعه إلى قتال الشيعة، وإعرابه عن ثقته في تسجيلات كثيرة أخرى بانتصار أتباعه على الشيعة و«الصليبيين الغربيين» وحتى الدول السنّية التي يصفها بـ«المرتدة».
ويقابل توحش «داعش»، في الجهة المقابلة توحش الميليشيات الشيعية التابعة لإيران والمنضوية تحت لواء «الحشد الشعبي»، وارتكابها مجازر طائفية وهدم مساجد ومرافق تعود لأهل السنّة. وكانت هذه الميليشيات قد كثفت من عملياتها الطائفية العدوانية في محافظة ديالى بالعراق. الأمر الذي أوجد مؤشرات لعمليات تغيير ديموغرافية - بل قل «تطهيرًا مذهبيًا» - في ديالى التي يشكل السنة 60 في المائة من سكانها عبر إبادة وحشية مرعبة.
على صعيد آخر، ظهر جليًا خلال السنوات الماضية وجود خلاف حول مهاجمة الشيعة وتجريمهم بدءًا من عام 2004م، وذلك حين طرح أبو مصعب الزرقاوي، أحد قياديي «القاعدة» الأكثر حدة في عدائه للشيعة، استراتيجيات حملت استهدافًا واضحًا للشيعة. وعبر عن بعض طروحاته في هذا الشأن برسالة بعثها لقيادة «القاعدة» في أفغانستان شدد فيها على أهمية ضرب الشيعة «مرارًا وتكرارًا وبشكل عشوائي، وذلك لإثارة الفتنة الطائفية الأهلية التي من شأنها أن توحّد أهل السنة في العراق وفي أماكن أخرى». الأمر الذي خالفه فيه قيادي بارز آخر هو أبو محمد المقدسي، الذي اعتبر أن العمليات الانتحارية المكثفة ضد الشيعة ستؤدي لقتل مسلمين مدنيين. كذلك حض نائب زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري على عدم قتل الشيعة وتجريمهم.
وفي رسالة نشرت عام 2013م، أورد الظواهري توجيهات لـ«المجاهدين» ركز فيها على أهمية «جلب المصالح ودرء المفاسد في هذه المرحلة»، وشدد على أهمية عدم مقاتلة الفرق التي أسماها بـ«المنحرفة»، ويشمل ذلك ما وصفهم بـ«الروافض والإسماعيلية والقاديانية والصوفية المنحرفة»، وذلك «ما لم تقاتل أهل السنة». وتابع الظواهري أن الرد يجب أن يقتصر على الجهات المقاتلة منها «مع بيان أننا ندافع عن أنفسنا، وتجنب ضرب غير مقاتليهم وأهاليهم في مساكنهم، وأماكن عباداتهم ومواسمهم وتجمعاتهم الدينية، مع الاستمرار في كشف باطلهم وانحرافهم العقائدي والسلوكي».
ومن جهة أخرى، دعا الظواهري إلى عدم التعرض للمسيحيين في البلاد الإسلامية، كما أمر تابعيه بالامتناع عن قتل الأهالي غير المحاربين، حتى لو كانوا أهالي من يقاتل «القاعدة»، والامتناع عن إيذاء المسلمين بتفجير أو خطف أو إتلاف مال أو ممتلكات. بالإضافة إلى الامتناع عن استهداف «الأعداء» في المساجد والأسواق والتجمعات التي يختلطون فيها بالمسلمين.
هذه التوجيهات تنم بوضوح - إلى حد ما - عن استخدام «القاعدة» نهجًا أكثر ليونة في الآونة الأخيرة. ويأتي في هذا السياق ربما نفي فرع التنظيم في اليمن ضلوعًا في تفجير 20 مارس 2015م الذي استهدف مسجدين للحوثيين في العاصمة صنعاء، مما تسبب في مقتل 140 شخصًا. فيومذاك قال في بيان: «ننفي علاقتنا بالتفجيرات التي استهدفت مساجد الحوثيين، ونؤكد التزامنا بتوجيهات الدكتور أيمن الظواهري بعد التفجير داخل المساجد والأسواق والأماكن المختلطة حفاظًا على دماء الأبرياء وتغليبًا للمصلحة العامة». وفي المقابل، نسب تنظيم داعش الحدث لنفسه، مما يؤكد النهج شديد التطرف للتنظيمات الأخيرة وقلة اكتراثها بأرواح الأبرياء في أماكن العبادة.
وحاليًا، في أوروبا وغيرها، يستمر تهديد التنظيمات الإرهابية للمناسبات الدينية، الذي استهدف خلال السنوات الثلاث الأخيرة احتفالات المسيحيين بالميلاد (الكريسماس) ورأس السنة، ويسعى قادة التنظيمات المتطرفة إلى تحريض شبان مسلمين مضللين ومغرر بهم على العنف.
وفي مايو 2015م، دعا أبو بكر البغدادي، فعلاً، المسلمين القاطنين في بلدان «غير إسلامية» إلى «حمل السلاح حيث يوجدون، أو الهجرة إلى مناطق نفوذ التنظيم في سوريا والعراق». وقال زعيم «داعش» في كلمة صوتية: «إن من ظن منكم أن بمقدوره أن يسالم اليهود والنصارى والكفار ويسالمونه فيتعايش معهم ويتعايشوا معه وهو على دينه وتوحيده فقد كذب قول ربه»، واستشهد بالآية القرآنية: «ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم».
كذلك أصدر «داعش» «تعليمات» جديدة لمقاتليه في أوروبا باستهداف غير المسلمين في الاحتفالات الدينية، والتشجيع على ارتكاب هجمات فردية بما هو أشبه بعمليات إجرامية لا إرهابية، وانتهاء بتهديدات كبيرة. ومن ثم بادرت الجهات الأمنية والرسمية في الولايات المتحدة ودول أوروبا وغيرها إلى التحذير من احتمال حدوث هجمات إرهابية، كان أبرزها تحذير وزارة الخارجية الأميركية رعاياها من هجمات إرهابية تشن في مختلف أنحاء أوروبا قبيل فترة رأس السنة الميلادية، وأن عليهم توخي الحذر في احتفالات الأعياد والمناسبات الأخرى وأماكن الاحتشاد كالأسواق. وأيضًا تحذير مكتب الشرطة الأوروبية (يوروبول) من أن التنظيمات الإرهابية، كتنظيم داعش، قد تلجأ إلى تقنيات تم استخدامها في سوريا والعراق ولم تطبقها في السابق في أوروبا كتفخيخ سيارات بالمتفجرات.
هذا يعني أن الإرهاب المقترف باسم الدين سيتخذ منحى جديدًا في السعي نحو إثارة الرعب وزعزعة الأمن بأسلوب المفاجأة، سواء كان ذلك عبر طعن فردي مباغت أو إطلاق نار أو تلغيم سيارات أو اجتياح الناس بشاحنات - كما حدث في نيس (فرنسا) وبرلين (ألمانيا) ويتفاوت استهداف الأشخاص بين أفراد وجماعات.
وسيصبح اقتراب الأعياد والاحتفالات الدينية بمثابة فرصة لإلحاق الأذى بكثير من الأبرياء الذين قرر قادة التطرّف تكفيرهم وشيطنتهم، وتولت الأدوات التي تنفذ العمليات الإرهابية تصفيتهم والتخلص منهم.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.