مصرف لبنان يكرم «الجامعة الأميركية»

في الذكرى الـ150 لتأسيسها

قطعة نقدية ثلاثية الأبعاد تمثّل «الملعب الأخضر» في الجامعة الأميركية
قطعة نقدية ثلاثية الأبعاد تمثّل «الملعب الأخضر» في الجامعة الأميركية
TT

مصرف لبنان يكرم «الجامعة الأميركية»

قطعة نقدية ثلاثية الأبعاد تمثّل «الملعب الأخضر» في الجامعة الأميركية
قطعة نقدية ثلاثية الأبعاد تمثّل «الملعب الأخضر» في الجامعة الأميركية

مدخل الجامعة الأميركية الرئيسي، ومبنى «كولدج هول»، والملعب الأخضر، وغيرها من رموز «الجامعة الأميركية» في لبنان، حملها إصدار خاص للقطع النقدية من «مصرف لبنان». هذه المبادرة التي جاءت تحية تكريمية قدّمها «مصرف لبنان» لـ«الجامعة الأميركية» بمناسبة الذكرى الـ150 لتأسيسها، وصفها رئيس الجامعة الدكتور فضلو خوري بأنها دلالة أكيدة على مدى تميّز هذه الجامعة العريقة التي تلعب دورا رياديا في مجال التعليم العالي.
وتتضمن هذه المجموعة التي وضعت في حيز التداول بكميات محدودة (ألف قطعة)، ضمن إصدار خاص لـ«مصرف لبنان» أعلن عنه في بيان صدر عن رئيسه رياض سلامة، خمسة أشكال لقطع نقدية فضّية تتميّز بالتقنية ثلاثية الأبعاد، وحملت رسومات ونقوشات ترتبط ارتباطا مباشرا برموز معروفة في الجامعة الأميركية، كمبنى «مرصد لي»، وقاعة «الاسمبلي هول»، والمدخل الرئيسي للجامعة، ومبنى «كولدج هول»، إضافة إلى الملعب الأخضر.
وتسلّم رئيس الجامعة الدكتور فضلو خوري هذه المجموعة من حاكم «مصرف لبنان» رياض سلامة، بحضور نائب الرئيس لشؤون التطوير الدكتور عماد بعلبكي، ومستشار الرئيس الخاص لشؤون البروتوكول والعلاقات الخارجية إبراهيم خوري، وذلك في مكتب الحاكم في المصرف المركزي.
وأعرب الحاكم رياض سلامة عن ثقته بأن الجامعة الأميركية ستشهد تطورات متزايدة بما يخدم الأجيال المقبلة، فتجذب الطلاب الأجانب وتعزّز دور لبنان التعليمي والتربوي في المنطقة. وأشار إلى أنها لعبت دورا رئيسيا منذ تأسيسها في عام 1866 حتى اليوم، فنشرت المعرفة، كما ساهمت في تطوير لبنان ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المجالين الثقافي والاقتصادي».
وكان قد تمّ طبع صورة المدخل الرئيسي للجامعة المظلل بشجر النخيل على قطعة نقدية من فئة «ألف ليرة»، فيما طبعت صورة «كولدج هول» على فئة «عشرة آلاف ليرة». أما الصور الثلاث الباقية («الاسمبلي هول»، و«الملعب الأخضر»، ومبنى «مرصد لي»)، فقد تم توزيعها على قطع نقدية من فئتي «خمسة» و«عشرة» آلاف ليرة.
وأشار الدكتور عماد بعلبكي في حديث لـ«الشرق الأوسط» إلى أن هذه القطع متوفّرة فقط في «مكتب التقدّم» في الجامعة الأميركية، وذلك مقابل مبلغ مليون ليرة للقطعة التي تحمل صورة «كولدج هول»، و250 ألف ليرة لقطعة «المدخل الرئيسي»، على أن يبلغ سعر المجموعة بكاملها 3.25000 مليون ليرة. وأضاف: «هذه العائدات ستموّل صندوق الجامعة الأميركية للمنح الدراسية الخاصة والمقدمة للطلاب في مناسبة ذكرى تأسيسها الـ150».
وكانت وزارة الاتصالات اللبنانية، بالتعاون مع شركة «ليبان بوست»، قد أصدرت أيضا في مناسبة الذكرى الـ150 لتأسيس الجامعة الأميركية طابعا تذكاريا. ويعدّ هذا الطابع الثاني من نوعه الذي يصدر عن وزارة الاتصالات تكريما للجامعة الأميركية بعد ذلك الذي صدر عام 1966 في الذكرى المئوية الأولى لتأسيسها وحمل صورة مؤسسها دانييل بلس. وحمل الطابع الجديد رسما لمبنى الجامعة، يظهر فيه «مبنى الساعة» المعروف فيها، وقد كتب عليه: «إننا نصنع التاريخ». وقد تم تحضير 2750 مغلّفا مرقما من اليوم الأول للإصدار، وبلغت كمية صادراته 30 ألف طابع تذكاري بريدي، سعر الواحد منها ألفا ليرة لبنانية.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)