فيلم «وغد أول»... غصن يخرج من شجرة «ستار وورز» السينمائية

الأحداث في الكواكب البعيدة والاستعارات أرضية

أشرار السلسلة المشهورة - «ستار وورز» نسخة 1977
أشرار السلسلة المشهورة - «ستار وورز» نسخة 1977
TT

فيلم «وغد أول»... غصن يخرج من شجرة «ستار وورز» السينمائية

أشرار السلسلة المشهورة - «ستار وورز» نسخة 1977
أشرار السلسلة المشهورة - «ستار وورز» نسخة 1977

«أنقذوا الحلم» (Save the Dream) ينادي الممثل فورست ويتيكر على الثوار في وقت عصيب واجهتهم فيه القوى المنظّمة بأعتى السلاح والقدرات.‬
لا. إنه لا ينادي من ميدان معركة حقيقية، بل من قلب استوديوهات باينوود في لندن، موجهًا حديثه إلى المقاتلين الذين عليهم صد هجمة الإمبراطورية الشرسة عليهم. لكن مع تحوير قليل، قد تخاله يطلق هذا الكلام على أحد تلك الحروب المستعرة، خصوصًا وأنه يصف الإمبراطورية بالقوّة الديكتاتورية الباطشة وفي العالم الواقعي هناك عدد منها.
«وغد أول: قصة حرب نجوم» (Rogue One‪:‬ A Star Wars Story)، الذي بدأ عرضه في معظم دول العالم يوم أول من أمس (الجمعة) بعد أن اختتم دورة مهرجان دبي السينمائي يوم الأربعاء الماضي، هو أول غصن يخرج من شجرة «ستار وورز» الكبيرة: ثمانية أجزاء رسمية وعدد غير معروف من الاقتباسات والتفرّعات الصغيرة التي شملت إنتاجات من كل لون وهدف، لكن هذا الفيلم هو الأول والأكبر الذي تم إنشاؤه بهدف التوازي مع السلسلة الأساسية. بذلك سيكون لدى الثنائي الممول والموزع وولت ديزني وجورج لوكاس (في الخلفية) سلسلتان يعملان عليها كل بضع سنين تدر أكثر ما في كل تلك السلسلة من نجوم.
الفيلم الجديد ينتظر له أن يجني 145 مليون دولار في أميركا وحدها بحلول يوم غد الاثنين، ومع نهاية الأسبوع سيزحف الرقم ليتجاوز 200 مليون دولار في شتّى أسواق العالم. وسيبرهن على أن إنتاج هذا الثنائي الذي تكلف نحو 200 مليون دولار لم يكن مغامرة فقط، بل هو فوز تجاري آخر من وجهة نظر أهل الصناعة والسينما.

* الاختيار
غارث إدواردز، الذي قدّم أحد أفضل أفلام «غودزيللا» قبل نحو عامين، هو الذي اختير لقيادة هذه السفينة الجديدة. ليس أن «غودزيللا» كان عملاً بالغ الإجادة، لكنه كان أفضل من أفلام أخرى عن ذلك الوحش الأسطوري. أفضل من نسخة رولاند إيميريش المتوعكة التي سبقتها (1998) وأفضل من نصف الأفلام اليابانية ذاتها التي ابتدعت تلك الشخصية.
النقطة العليا التي احتسبت لإدواردز في «غودزيللا» (الذي أنتجته وورنر) هي أنه أعاد صياغة الحكاية لجيل جديد من المشاهدين من دون أن يستبعد الجيل السابق. أبطاله ليسوا مراهقين يريدون إثبات أنفسهم، بل شخصيات راشدة تتعامل مع عواطف إنسانية ومشكلات دخيلة. أمر حاول كولين تريفيروف إنجازه في «عالم جيروسيك» (2015) لكنه فشل في الغاية واكتفى بشخصيات كاريكاتيرية لا تثير الاهتمام.

* ألعاب فضاء
في «وغد أول…» نلاحظ أن صياغة المخرج إدواردز تختلف عن صياغة جورج لوكاس، في الأجزاء التي اختار إخراجها وعن صياغة ج ج أبرامز في «القوّة تستيقظ» (2015). الأول بقي في نطاق الالتزام بتقديم «حروب نجوم» ينتشي بها المراهقون، والثاني قصد الجمهور نفسه لكنه افتقد إلى تلك الأبعاد الفلسفية التي كثيرًا ما لاحت في حكايات الأجزاء السابقة سواء تلك التي أخرجها لوكاس أو سواه.
الشيء الأوثق الذي يربط الفيلم الجديد بفيلم «القوة تستيقظ» أن البطولة نسائية (تقوم بها فيليسيتي جونز) كما كان الحال في الفيلم السابق، محاطة بالرجال الأخيار ضد الرجال الأشرار. لكن الحكاية مختلفة لأن الشخصيات التي يؤازرها الفيلم تنطلق من وضع اقتصادي مدقع في عالم طبقي مؤلف من كوكب يملك ويسيطر، وكوكب يعيش في الفقر المدقع.
هذا يقرّب الفيلم الجديد إلى سلسلة «ألعاب الجوع» حيث البطولة الأولى هي أيضًا لفتاة وحيث الصراع بين من يملك وبين من لا يملك، والثورة التي تنطلق من الفريق الأول يواجهها الفريق الثاني بقدرته على الإبادة لولا أن إرادة الحياة لدى الثوار أقوى من أن تهزم.
يبدأ كل شيء بتعريفنا بالعالم غالين (ماس ميكلسن) وقد وجد نفسه متهمًا بالخيانة. كان أشرار الإمبراطورية خطفوه فظن الأخيار أنه انضم بمحض إرادته. قبل وفاته طوّر أسلحة تؤمن النصر لمن يمتلكها. وتكتشف ابنته، ذلك المصنع وتضع نفسها، وفريقًا من المتطوّعين، في فوهة المدفع عندما تقرر وراثة المشروع.
قبل أن تمضي نصف ساعة من الأحداث يدرك المشاهد أن الكثير من المضامين مبنية على وضع العالم اليوم. هناك مشاهد (تم تصويرها في الأردن) تستعير من بيئة شرق المتوسط، كما أن الفيلم يذكر شيئًا عن أن تحقيق السلام لا بد أن يمر من خلال الحرب. مفهوم يتداوله الطرفان المتحاربان في سوريا أكثر من أي وقت مضى.
يساعد على هذا الاعتبار أن أحد الكاتبين (توني غيلروي) لديه نزعة سياسية برهنت عنها أعماله التي كان من بينها «مايكل كلايتون» (2007) و«إرث بورن» (2012) و«نايت كرولر» (2014) وكلها لمست قصدًا مناطق حسّاسة من النسيج الاجتماعي الأميركي. لكن هذا لا يعني أن الفيلم مُقاس على حجم الواقع تمامًا. فما أن ندخل الفصل الأخير من الأحداث حتى يرتفع الإيقاع أكثر مما كان مرتفعًا من قبل وتسخن جبهات القتال لتتحوّل الشاشة إلى مسرح عمليات لا يمكن إتقانها لا في الحياة الخاصة ولا في أي سينما غير هوليوودية.

* الساموراي الجدد
في جنوحه بعيدًا، قدر الإمكان، عن سلسلة «ستار وورز»، يأتي «وغد أول…» حاملاً خطًا منفصلاً من الشخصيات عن تلك التي سادت من قبل. إنه ما زال يدور في رحى تلك الكواكب البعيدة وما زال العدو الشرس واحدًا كما ألفناه، لكن الفيلم الجديد يدور حول القيادة والجماعة وكيف يصر عدد من المحاربين الشجعان على عدم الانطواء والتقهقر أمام شرور الإمبراطورية بل وخوض الحرب بأعدادهم البسيطة. إنه مثل فيلم «الساموراي السبعة» ولكن في الفضاء، وهو أيضًا خيال علمي. كل هذا يخلق ترفيها مؤكدًا، خصوصًا وأن إدواردز يعرف تفاصيل العمل التقني لكل ما هو خدع وبدع بصرية وديجيتالية.
إذا ما كان الفيلم بعيدًا عن سلسلة «ستار وورز» الأولى فهذا طبيعي لأنه يريد شق طريقه الخاص. لكن لا ننسى أن شخصيات ومضامين وأساليب عمل الأجزاء الثمانية من قبل كانت متفاوتة من فيلم لآخر حتى تحت المظلة الجامعة وحدها.
انطلق كل شيء سنة 1977. جورج لوكاس، الذي أخرج من الأفلام القصيرة من سنة 1965 حتى عام 1971 أكثر مما أخرج الأفلام الطويلة، أنجز الجزء الأول من «ستار وورز» سنة 1977 بعد فيلمين روائيين باركهما النقاد: THX 1138 سنة 1971 و«أميركان غرافيتي» (1973).
ذلك الفيلم قدّم الهيكل بكامله: الكوكب (ديث ستار) وليّا (كاري فيشر) ابنة الإمبراطور فادر من دون أن تعلم. وهان صولو (هاريسون فورد) المحارب لمن يدفع ثم المحارب الملتزم لوك (مارك هاميل) الذي هو أيضًا ابن فادر من دون أن يدري كما لا يدري أن ليّا شقيقته. الثلاثة يوحدون هدفهم للقضاء على فادر الأقوى من أن يقهر.
نهاية ذلك الفيلم صوّرت انتصارًا للمتمردين يصلح لأن يختم الفيلم إذا لم يحقق نجاحًا، ولأن يكون بداية لجزء جديد. نجاحه آنذاك دفع لإنجاز جزء ثانٍ سنة 1980 يحمل في عنوانه مضمونه، إذ إن العنوان هو «الإمبراطورية ترد الضربة» مما يعني أن الهزيمة التي تم تصويرها كنهاية، ليست النهاية والإمبراطورية من القوّة بحيث تعيد الوقوف على قدميها.
المخرج اختلف، إذ قام إرفن كيرشنر بتحقيق الفيلم تحت إشراف جورج لوكاس منتجًا، ثم اختلف في الجزء الثالث إذ تسلم المهام البريطاني رتشارد ماركاند الذي توفي بعد أربع سنوات من إطلاق هذا الفيلم.
بقي محور الأحداث القائم على الصراع على السلطة الكوكبية بين الأخيار (الأبطال الثلاثة والجيداي) والأشرار (الإمبراطور ومقاتليه الأشداء) قائمًا كما هو عندما تم في عام 1999 إطلاق ثلاثية جديدة (كلها من إخراج لوكاس) كان المختلف فيها أن أحداثها انتقلت إلى ما قبل أحداث الثلاثية الأولى. تم التركيب القصصي لكن البصري كان إشكاليًا: التقدم التقني الكبير ما بين 1977 و1999 أتاح للثلاثية الثانية التي تدور أحداثها قبل الثلاثية الأولى أن تتمتع بما لم تتمتع به الثلاثية الأولى. هذا ما أسعف الأفلام الثلاثة الأولى (1977 إلى 1983) أن تحتفظ بتميّزها علاوة عن تلك اللاحقة (1999 إلى 2005) التي بدت أكثر وأكثر من ألعاب مصوّرة وميكانيكية تلتهم كل شيء بلا تفرقة.
الفيلم الأخير (السابع) «القوة تستيقظ» انتمى إلى مزيد من الميكانيكية وألعاب اللهو مما يمنح الفيلم المنتمي - المنفصل «وغد أول…» الحظ في أن يعيد بناء عالم ينتمي إلى لوكاس أكثر مما ينتمي إلى سواه رغم أن لوكاس لم يعد أكثر من واجهة دعائية لكسب الجمهور الذي وثق به.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)