في آخر عرض أزياء تشهده أجندة الموضة العالمية هذا العام، قدمت دار «شانيل» عرضا مثيرا يوم الثلاثاء الماضي من خطها السنوي «ميتييه داغ» Metiers D’Art. لم تكتف بعرض واحد بل قدمت ثلاثة عروض حضرها كارل لاغرفيلد كلها، رغم مظاهر الوهن التي كانت بادية على مشيته.
السبب أن المكان، وهو فندق الريتز الذي خضع لعملية ترميم وتجميل استغرقت عامين تقريبا، وافتتح أبوابه منذ بضعة أشهر فقط، لم يكن يتسع لضيوف «شانيل» وبالتالي كان لا بد من فكرة مبتكرة تُرضي الكل. العرض الأول كان ظهرا وكان عبارة عن غذاء حميم، الثاني كان وقت الظهيرة قُدم فيه شاي الظهيرة على طريقة «الريتز» الباريسي، أي لم تكن هناك ساندويتشات سلمون أو شرائح خيار مع الزبدة، بل فقط حلويات شهية بكل النكهات التي تخطر على البال، لكن ترفع من نسبة السكر في الدم بمجرد النظر إليها. أما العرض الأخير والذي جرى مساء فكان عبارة عن حفل عشاء حضره المقربون من المصمم وكبار الشخصيات.
بيد أن فخامة المكان التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالآنسة غابرييل شانيل، التي عاشت فيه قرابة 37 عاما، فضلا عن الأزياء والإكسسوارات التي اقترحها المخضرم لاغرفيلد، عوضت عن ضيق المساحة. فقد تخايلت العارضات، أو بالأحرى راوغن طريقهن بين الطاولات بخطوات راقصة في صورة تستحضر حقبة العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، وما كان يُعرف «بكافيه سوساييتي». حين كانت كوكو شانيل تلتقي فنانين من أمثال جون كوكتو وسالفادور دالي يتبادلون الأفكار، وحين كانت المرأة مستعدة أن تنتظر أشهرا للحصول على قطعة تروق لها وتعرف أنها فريدة من نوعها، وهو ما أصبح من مخلفات الماضي، في عصر أصبحت فيه المرأة تريد ما تراه الآن وليس غدا. وبما أن كارل لاغرفيلد مستمع جيد لنبض الشارع ومتابع ذكي لتغيرات الأسواق، فإنه ينجح دائما في إشباع رغبات زبوناته بطريقته الخاصة. بمعنى أنه يُبقي على الرغبة مشتعلة من دون أن يخضع لإملاءات السوق وما تتطلبه من موضة سريعة. مهمته كواحد من الجيل الماضي أن يلعب دور الساحر الذي يُمسك العصا من النصف، بحيث يحترم ولاء الزبونات القديمات، وفي الوقت ذاته يداعب بناتهن وحفيداتهن من الجيل الجديد من خلال «الإنستغرام» ووسائل التواصل الاجتماعي، دائما بخطوات موزونة لا تتسرع الإنتاج.
بالنظر إلى عرضه يوم الثلاثاء الماضي، فإن نسبة عالية من العارضات ينتمين إلى هذا الجيل، ومن أصدقاء الدار بغض النظر عن المقاييس والمقاسات. فقد خفف المصمم من صرامتها بشكل واضح حتى يفتح لهم أبواب «شانيل» على مصراعيها، من ويلو سميث ابنة النجم ويل سميث، ليفي ديلان، حفيد المغني بوب ديلان، صوفيا ريتشي، حفيدة المغني ليونيل ريتشي، لوتي موس، أخت كايت موس إلى جيورجيا ماي جاغر، وروز ديب، ابنة جوني ديب وفانيسا بارادي. هذه الأخيرة مثلا ناعمة ولا تتمتع بطول عارضة محترفة كما نعرفها ومع ذلك بدت رائعة في كل قطعة ظهرت بها وهو ما يُثلج صدر أي فتاة عادية. برونو بافلوفسكي، رئيس قسم الموضة فسر هذه النقطة قائلا بأن كارل لاغرفيلد يحب العمل مع الأجيال الشابة مضيفا: «لكننا لا نذهب إليهم ونطلب منهم المشاركة، بقدر ما يكون الترحيب تلقائيا من قبلهن»، وهو ما لا نستغربه على الإطلاق بالنظر إلى عشقهن لكل ما يحمل توقيعه واسم «شانيل».
ويعتبر هذا العرض الأخير في أجندة عام 2016 للموضة، فهو ينتمي إلى خط «ميتييه داغ» الذي تتفرد فيه الدار، وأصبح تقليدا سنويا ابتدعته في عام 2003. اعترافا منها بأهمية الورشات الحرفية التي كانت آيلة للانقراض في فترة من الفترات قبل أن تنقذها بضمها إليها. من هذه الورشات نذكر «لوساج» للتطريز: «ماسارو» للأحذية: «لوماري» المتخصصة في تصميم الزهور والريش: «ميشيل» للقبعات: «ديسرو» لصناعة الأزرار المبتكرة و«غوسن» لصناعة قطع الذهب والفضة: «باري» الاسكوتلندية المتخصصة في الكشمير.
والجميل في كل عروض «ذي ميتييه داغ» الحرص الواضح والمدروس أن تكون مختلفة تماما عما يتم تقديمه في باقي خطوط الدار. فهي، مثلا، أكثر فخامة من خط الأزياء الجاهزة، وأقل سعرا من الـ«هوت كوتير» وإن كانت تحاكي هذه الأخيرة حرفة وصنعة وزخرفة فضلا عن تفردها. فكما يدل اسمها «ذي ميتييه داغ» ومعناها «الحرف الفنية» فإن مهمتها هي تسليط الضوء على مهارات هذه الورشات وتخصصاتها. وجرت العادة منذ نحو 13 سنة، وهو تاريخ إنشائها أن تحمل اسم عاصمة عالمية تزورها الدار لتتقرب من زبوناتها فيها، مثل باريس إدنبرة، باريس لندن، باريس موسكو، باريس مومباي وغيرها. هذه المرة اختار لاغرفيلد أن يبقى في باريس، مُطلقا على التشكيلة عنوان «باريس كوسموبوليت» لتكون عالمية تخاطب كل الأسواق والأذواق. ثم إن عاصمة النور أولى بجهوده وإبداعاته في الوقت الحالي، نظرا لما تعاني منه من أزمة اقتصادية حادة. ما زاد الأمر سوءا، الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها إضافة إلى عملية السرقة التي كانت كيم كارداشيان ضحيتها، مما أدى إلى انخفاض عدد السياح إليها. من هذا المنطلق يمكن اعتبار العرض محاولة لخلق ديناميكية تعيد لعاصمة الأناقة بريقها كمركز للموضة العالمية، وهو ما نجحت فيه الدار بتسليطها الضوء ليس على باريس والأناقة فحسب، بل أيضا على تاريخ فندق «الريتز» الغني بالأحداث والفخامة.
بالنسبة للأزياء، افتتحت العرض كارا ديليفين، التي غابت عن منصات العرض لفترة مركزة على السينما، بتايور بلون الكريم مكون من جاكيت وتنورة مستقيمة تغطي الركبة، في إشارة قوية إلى أن هذه التشكيلة ستكون تحية للآنسة غابرييل شانيل. فالمصممة كانت تعارض إظهار الركبتين على أساس أن مظهرهما مناف للجمال والأناقة. كانت هناك الكثير من القطع المصنوعة من التويد، الكثير منها بأكتاف عريضة تستحضر حقبة الثمانينات من القرن الماضي، لكن التطريزات التي نفذتها أنامل ناعمة من دار «لوساج» خففت من صرامتها وأضفت عليها ديناميكية شابة.
تخللت القماش أيضا خيوط ذهبية، مثل جاكيت طويل على شكل معطف ظهر به المغني ويليام فارل. كان الأبيض ومشتقاته والأسود من الألوان الغالبة إلى جانب قليل من الأحمر والذهبي، فيما لونت الورود والتطريزات فساتين السهرة والمساء والإكسسوارات، الأمر الذي أضفى عليها جرعات قوية من الحيوية. لكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن الإكسسوارات تكون الأقوى في هذه العروض السنوية، سواء حقائب اليد أو العقود والسلاسل المتراصة أو الأحذية العالية الساق.
محطات في حياة كوكو شانيل
> كوكو شانيل هو اسم الشهرة الذي أطلقه عليها الجمهور عندما كانت مغنية، بينما اسمها الحقيقي هو غابرييل شانيل.
- تنحدر من أسرة جد متواضعة، حيث كان والدها بائعا متجولا، وبعد وفاة والدتها، تنصل والدها من مسؤولياته الأسرية فأدخلت إلى ميتم، وهناك تعلمت الحياكة والتطريز.
- بدأت مشوارها في عالم الموضة بتصميم قبعات الرأس، وبتمويل من أحد أصدقائها افتتحت أول محل لها في باريس. نجاحها شجعها على التوسع إلى تصميم الأزياء
- في العشرينات ابتكرت ما أصبح يُعرف بالفستان الأسود الناعم، الذي كان ثورة بكل المقاييس في تلك الحقبة. كانت تريده مريحا وعمليا يحرر المرأة من قيود الكورسيهات وما شابهها، ولم تكن تتوقع نجاحه الذي اجتاح عالم الموضة وأصبح من الكلاسيكيات
- في عام 1921 حالفها الحظ مرة أخرى عندما طرحت أول عطر باسمها. الجديد فيها أنه تضمن لأول مرة مواد اصطناعية تضمن عدم تلفه بسرعة. غني عن القول بأنه حقق نجاحا منقطع النظير بدليل أنه لا يزال من أنجح العطور لحد اليوم. فأرقام المبيعات تشير إلى أن قارورة منه تباع كل 30 ثانية على المستوى العالمي. طبعا هذا العطر هو «شانيل نمبر 5»، الذي كان أيضا أول عطر يحمل اسم مصممه.
- مثل كثير من المصممين كانت كوكو تؤمن بالحظ وتلجأ إلى التعويذات وغيرها، من الأشياء التي كانت تتفاءل بها إلى جانب زهرة الكاميليا، رقم 5 لأن عرافة أخبرتها بأنه رقم الحظ بالنسبة لها. ونجاح العطر رسخ اعتقادها هذا.
- في عام 1954 افتتحت دارها للمرة الثانية في باريس بعد أن أغلقتها لمدة 15 عاما خلال الحرب والسنوات التي تلتها بسبب إشاعات عن ارتباطها بجنرالات ألمانيين.
- في عام 1971 وبعد نزهة في شوارع باريس عادت إلى فندق الريتز لتموت في فراشها.
غابرييل شانيل وفندق الريتز.. علاقة حياة وموت
> كثير من جوانب حياة غابرييل شانيل في باريس ترتبط بفندق الريتز الواقع بـ«بلاس فاندوم». فقد كانت تسكن في جناح أصبح يحمل اسمها ويعتبر محجا لعشاق الموضة من كل أنحاء العالم. ففي عام 1910 عندما افتتحت أول محل للقبعات في شارع غامبون، كان قصر الريتز الذي افتتح في عام 1889 عنوان الفخامة، من معماره إلى خدماته، الأمر الذي جعله وجهة النخبة والطبقات الأرستقراطية كذلك أشهر الفنانين. بعبارة أخرى كان بمثابة مقهى اجتماعي «كافيه سوساييتي» يلتقي فيه هؤلاء لتبادل الأفكار وربط علاقات عمل أو فقط علاقات اجتماعية. كان موقعه على بُعد دقائق من شارع غامبون مثاليا بالنسبة لغابرييل شانيل، وبالتالي كانت تلجأ له لأيام أو أسابيع إما لشحذ أفكارها وطاقتها أو بحثا عن الراحة. فقد كانت تقضي نهارها في محلها بشارع غامبون وليلها في الريتز، حيث كانت تستقبل أصدقاءها من أمثال جون كوكتو وسالفادور دالي وإرنست هيمنغواي وسكوت فيزتجرالد وزوجته، وغيرهم من الأثرياء الذين كانوا يقطنون فيه عندما يأتون إلى باريس للتسوق.
في الثلاثينات تحول إلى مسكنها، وكان ذلك تحديدا في 12 يوليو (تموز) 1935، حيث ضمت ثلاث غرف واقعة في الطابق الثالث وتطل على ساحة «فاندوم» مع بعض، وغيرت كل ديكوراتها حتى تشعر وكأنها في بيتها. وكانت النتيجة في غاية الأناقة والفخامة إلى حد أن هذا الجزء من الفندق لا يزال يثير كثيرا من اهتمام وسائل الإعلام والسياح على حد سواء، لا تكتمل زيارة باريس من دون زيارته بالنسبة لعشاق الموضة.
عندما اندلعت الحرب في عام 1939 احتل النازيون الريتز وجعلوه مقرهم الرئيسي في باريس. اضطرت كوكو شانيل أن تنتقل إلى غرفة مطلة على شارع غامبون لم يرغب فيها الجنرالات الألمان. في هذه الفترة أغلقت أيضا دارها، لأنها لم تر الوقت مناسبا لتصميم فساتين في وقت يعاني منه العالم ويلات الحرب.
في عام 1954 عندما افتتحت دارها مرة ثانية، اختارت غرفتين في الجهة المقابلة لشارع غامبون حتى تكون قريبة من مكان عملها أكثر في 10 من شهر يناير (كانون الثاني) 1971 توفيت في واحدة من الغرف لكن قصتها مع الريتز لم تمت، بفضل كارل لاغرفيلد الذي ينسج من كل خيط تلتقطه عيناه في شقتها أو أي كتاب يقرأه عن حياتها قصصا مثيرة في تشكيلات لا تقل إثارة تقام أحيانا في قاعة من قاعات الفندق الفسيحة. فقد قدم تشكيلة الهوت كوتير لربيع وصيف 1996 ثم خريف وشتاء 1997 ثم ربيع وصيف العام نفسه في الطابق الأول من الفندق. وحتى عندما جعلت الدار من «لوغران باليه» مقرا لها، لم ينس أن يُبقي على هذه الخيوط متواصلة مع الماضي الجميل. في تشكيلة أطلق عليها «لي زالير دو شانيل» وكانت لخريف 2011 وشتاء 2012 حول ديكورات القاعة الفسيحة إلى ساحة «فاندوم» في إشارة إلى علاقتها بالمؤسسة.