ملكة بريطانيا الراحلة، إليزابيث الثانية، كانت تتجنبه. السبب حسبما صرحت به في إحدى المرات: «لأنه سيجعلني أضيع في الزحام ليصعب تمييزي من بين الآخرين».
دوقة ساسيكس، ميغان ماركل أيضاً أكدت أنها حتى لا تثير الأنظار خلال الفترة التي قضتها ضمن المؤسسة البريطانية كانت تختاره على مضض من بين بقية الألوان حتى تُرضي البلاط البريطاني، ولا تسرق الأضواء من بقية أفراد العائلة.
الأيام أكدت عدم صحة رأيها، كما أكدت مدى الظلم الذي أُلحق باللون البيج على مدى سنوات. فلا هو لون بارد وممل، ولا هو لون من لا تُحب أن تثير الأنظار. ملكة الأردن، رانيا العبد الله أكدت هذا الأمر باختيارها فستاناً بهذا اللون من دار «ديور» حضرت به حفل زفاف ابنتها إيمان. كل ما فيه كان راقياً. حتى هدوؤه كان يصرخ بالذوق الرفيع.
عرض إيلي صعب من خط الـ«هوت كوتور» أيضاً فنّد كل التهم التي ألحقت به. قدَّم عرضاً دسماً تتراقص فيه ألوان تفتح الشهية بتطريزاتها وبريقها، إلا أن فستاناً يصطبغ باللون البيج كان أكثر ما أثار الإعجاب وجرى تداوله على صفحات المجلات وشبكات التواصل. وكأن هذا لا يكفي قدم للرجل مجموعة من القطع المسائية تتدرج من البيج الكريمي إلى البيج المائل للبني.
صحيح أن السنوات الأخيرة شهدت اكتساح ألوان قوس قزح لعالم الموضة. كلما كانت صارخة كان هذا هو غاية المنى؛ لأن الـ«إنستغرام» يتطلب ذلك لكي تبرز الصورة أحسن، وهو أمر عرفه حتى إيفان سان لوران وكريستيان ديور في أوج نجاحهما.
لو عدنا بأنظارنا إلى الوراء قليلاً لوجدنا أن ظاهرة المزج بين الألوان الصارخة والنقشات المتضاربة كانت ثورة في السبعينات، لكنها على الأقل كانت فنية.
ومع ظهور «ستريت ستايل» اكتسبت المزيد من القوة؛ فهذه الموجة التي بدأتها مجموعة من فتيات المجتمع وعاشقات الموضة أردن تحدي المتعارف عليه وإملاءات الموضة بخلق أسلوب يُعبر عنهن، لقيت صدى في الشارع.
كانت الظاهرة بمثابة نسمة صيف حرَّكت المياه الراكدة خارج قاعات عروض الأزياء لتدخلها من أوسع الأبواب، كما أنها ألهمت المصممين، وخلقت مصدر دخل جديداً للمصورين الذين أصبح همهم الأول أن يتمركزوا خارج قاعات العرض انتظاراً لوصول هذه الشريحة من عاشقات الموضة.
كل هذا أثر على اللون البيج، وجعله يتوارى في الألفية؛ حتى إن جيورجيو أرماني الذي احتضنه في السبعينات والثمانينات وجعله ماركة مسجلة ترتبط بأسلوبه، ابتعد عنه لفترة.
لكن ساحة الموضة تعرف تغيرات جديدة هذه الأيام. وكما خف وهج كل ما هو غريب ومُبهرج، خف تأثير بعض الإنفلونسرز.
في خضم هذه التحركات والتغيرات، انتعش ما أصبح يعرف بالموضة الراقية بهدوء، وبدأت الألوان الترابية وعلى رأسها البيج أو الجملي تستعيد اعتبارها.
بيوت أزياء كثيرة تبنت درجاته بحماس لهذا الصيف. ربما تكون «بيربري» و«ماكس مارا» أكثر من ترتبط هذه الدرجات بهم إلى حد قول إنه بإمكانهما تقديم دروس عن جمالياته، إلى جانب «دي رو» و«سان لوران» و«برونيللي كوتشينيللي».
الجميل فيها أن درجاته الترابية لم تعد تقتصر على فساتين السهرة أو النهار فحسب، بل دخلت أيضاً ملابس الشارع من خلال «تي - شيرتات» تقدر أسعارها بأكثر من 500 دولار أميركي وجاكيتات «سبور» وبنطلونات واسعة للجنسين وبدلات رسمية أيضاً.
كونها بأسعار عالية وتحمل توقيعات عالمية مثل «جاكوموس» و«برونيللي كوتشينيلي» أسهم في تسويقها لشريحة من الزبائن، تريد أزياءً راقية لكن غير صارخة باللوغوهات أو الألوان؛ فالتوجه الذي يميل إليه الغالبية هذا العام هو الأناقة الهادئة، أناقة يبدو فيها صاحبها كما لو أنه لم يُعر انتباهاً لأناقته أو يبذل جهداً.
حسبما قال أوليفر دانيفولك، مؤسس العلامة السويدية «روباتو»: «إنها طريقة جديدة للأناقة من دون أي مبالغات أو جهد».
ما أجمع عليه الكثير من المصممين هو أن لون البيج استثمار بعيد المدى؛ لهذا تسابقوا على طرحه بخامات مترفة حتى يكون عموداً فقرياً في خزانة أي رجل أو امرأة.
من جيورجيو أرماني و«زينيا» إلى «بيربري» و«ماكس مارا»... وهلم جراً من الأسماء التي نفضت عنه غبار الزمن، عاد واثقاً تتخلله نغمات حنين إلى الماضي، وهي نغمة تكررت في الكثير من العروض وبأشكال مختلفة.
المصمم الأميركي تود سنايدر، علَق على هذا اللون قائلاً: «الناس ملّت من الأزياء المريحة للغاية، وتريد أن تتبنى أسلوباً أكثر أناقة واهتماماً بالمظهر. بعضها يلتفت إلى حقبة الثمانينات، وبالنسبة للرجل يتطلع إلى صورة ريتشارد غير في فيلم «أميركان جيغولو».
صورة ريتشارد غير كما رسمها المصمم جيورجيو أرماني في الفيلم أثارت خيال الكثير من المصممين لموسم الصيف المقبل؛ فقد ظهرت خطوطها في تشكيلة «هيرميس» كما في تشكيلة «زينيا» و«ذي رو». المصمم تود سنايدر الذي غلبت على تشكيلته ألوان ترابية وحيادية، أكد أنه استلهمها من قطعة سجاد مغربي قديمة «تميزت بخيوط تمازجت فيها ألوان التراب بشكل رائع حملتني إلى مدينة طنجة في الخمسينات من القرن الماضي. كلما تأملتها، طاردتني صورة رجل أميركي في الخارج يتبنَى أسلوباً كلاسيكياً ممزوجاً بأسلوب بوهيمي منطلق».
الطريف أن تخاطُر الأفكار الذي كان بين المصممين لم يكن عادياً أو مُتوقعاً؛ إذ إنه لم يقتصر على الأزياء الرجالي فحسب، بل امتد إلى الأزياء النسائية أيضاً، إلى حد أن المصممين أنفسهم تفاجأوا حسب قول سنايدر: «كان من المتوقع أن يكون هذا التوجه خجولاً، لكنه فاجأ الجميع بانتشاره السريع».
وهذا يعني أن اللون البيج يعيش حياة ثانية علينا الاستفادة منها بالاستمتاع بها حسب تعليقه؛ فهو مناسب لزمن ينادي فيه الجميع بالاستدامة بمفهومها الواسع وأيضاً بمفهومها المطالب باستعمال القطعة عدة مرات.
اللون البيج بدرجاته المتنوعة أكد أنه أساس مهم لأي خزانة مستدامة؛ فهو كلاسيكي من جهة ومحايد من جهة ثانية، وهذا يعني أنه من السهل تنسيقه مع عدة ألوان أخرى أو اللعب على نفس درجاته في إطلالة واحدة من الرأس إلى أخمص القدمين.
ومن جهته أكد المصمم جاكوميس أن «اللعب بالألوان الترابية أسهل بكثير من اللعب بالألوان الصارخة. كما أنها تُشكل عملية بسيطة لبناء خزانة متكاملة على المدى البعيد».
من هذا المنظور تبنّى المصمم في تشكيلته لهذا الصيف ألوان البيج، وغيّر من الدرجات الحيادية أسوة بـ«زينيا» و«سان لوران» و«لورو بيانا» و«جيفنشي».
المصممة إلسا سكاباريللي قالت في أحد تصريحاتها إن «الموضة في أوقات الأزمات تزيد من جرعة الغرابة». لكن ما نراه الآن هو العكس؛ فهناك ترويض لهذه الغرابة، ورغبة في الهدوء حتى تمر العاصفة بسلام، سواء تعلق الأمر بالقصات أو الألوان، ثم إن الواضح أن كلاً من الرجل والمرأة شبعا من موضة فرضتها وسائل التواصل الاجتماعي، وباتا يحنان إلى كل ما هو راقٍ في المقابل. ألوان مثل الأبيض والبيج جاءت بمثابة مضاد لموجة الألوان الصارخة.