«إعلان أبوظبي» يدعو لإنشاء صندوق دولي لحماية التراث الثقافي المعرض للخطر

اختتام أعمال المؤتمر الدولي للحفاظ على التراث المهدد أمس

المأذنة الملوية في سامراء
المأذنة الملوية في سامراء
TT

«إعلان أبوظبي» يدعو لإنشاء صندوق دولي لحماية التراث الثقافي المعرض للخطر

المأذنة الملوية في سامراء
المأذنة الملوية في سامراء

دعا «إعلان أبوظبي» في ختام أعمال مؤتمر الحفاظ على التراث الثقافي المهدد بالخطر أمس في أبوظبي إلى إنشاء صندوق دولي لحماية التراث الثقافي المعرض للخطر في أوقات النزاع المسلح يساعد في تمويل العمليات الوقائية والطارئة ومكافحة الاتجار غير المشروع في القطع الأثرية الثقافية والمساهمة في ترميم الممتلكات الثقافية التي لحقت بها الأضرار.
وأكد إعلان أبوظبي الالتزام بإنشاء شبكة دولية من الملاذات الآمنة لحماية الممتلكات الثقافية المعرّضة لخطر النزاع المسلح أو الإرهاب على أراضيها، أو في بلد مجاور إذا كان تأمينها على المستوى الوطني غير ممكن، أو في بلد آخر كملاذ أخير، وذلك وفقًا للقانون الدولي وبناءً على طلب من الحكومات المعنية، مع الأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات والسياقات الوطنية والإقليمية للممتلكات الثقافية المطلوب حمايتها.
وشهد المؤتمر الذي عقد في إطار مبادرة شراكة دولية عدد من قادة الدول وكبار المسؤولين الحكوميين وخبراء مختصين ونشطاء المجتمع المدني المدافعين عن قضايا حماية التراث الثقافي والإنساني، وممثلي أكثر من 40 دولة تشمل جهات حكومية وخاصة تمثل الدول التي تعرضت كنوزها التراثية للتلف أو الفقدان جراء النزاع المسلح والجهات المهتمة بقضايا حماية التراث الثقافي.
وقال إعلان «أبوظبي» إن التراث الثقافي العالمي يعد الركيزة الأساسية لبناء المستقبل المشترك، كونه المرآة التي تعكس مراحل تطور التاريخ الإنساني، والحارس الأمين للذاكرة الجماعية، والشاهد الصادق على المسيرة الإبداعية للحضارات البشرية.
وشدد الإعلان على أن النزاعات المسلحة والإرهاب في جميع قارات العالم تؤثر على ملايين الرجال والنساء دون أن يسلم منها تراثهم الذي يمتد لعدة قرون، ويهاجم المتطرفون، عمدًا في معظم الأحيان، ثقافات الدول والشعوب، ويسعون إلى تخريب وتدمير التراث الذي يخصّ الجميع.
ولفت إلى أن تهديد التراث ومهاجمته وتدميره ونهبه تشكل استراتيجية تهدف إلى إضعاف الأسس المتينة التي تحافظ على هوية الشعوب وتاريخها والبيئة التي يعيشون فيها، ومن دون هذا التراث ستُمحى ذاكرة شعوب الأرض ويتعرض مستقبلهم للخطر.
وأكد على أن التراث بكل ما يتميز به من تنوّع يمثل مصدرًا للثروة الجماعية التي تشجع على الحوار، فهو وسيلة لمد جسور التواصل بين الحضارات، وتعزيز روح التسامح والاحترام بين شعوبها، ويشكل تدميره تهديدًا للسلام، من خلال عمليات الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية التي تبرز في كثير من الأحيان في أوقات الأزمات.
وأكد المجتمعون والذي يتكونون من رؤساء دول ورؤساء حكومات وممثليهم ومنظمات دولية ومؤسسات خاصة للتأكيد على عزمهم المشترك لحماية التراث الثقافي المهدّد بالخطر لجميع الشعوب من خلال تدميره والاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية، ولذلك قرّر توحيد القوات والجهود والتحرّك بشكل جماعي.
ودعا الإعلان إلى الحاجة لكفالة وضمان احترام القيم العالمية بما يتماشى مع اتفاقيات لاهاي الدولية في أعوام 1899 و1907 و1954 وبروتوكولي لاهاي الأخيرين في عامي 1954 و1999. الأمر الذي يستلزم حماية الحياة البشرية والممتلكات الثقافية في أوقات النزاعات المسلّحة.
إضافة إلى وجوب تنفيذ تلك العملية بالتعاون الوثيق مع منظمة اليونيسكو، التي تسعى منذ عام 1954 سعيًا دؤوبًا لحماية التراث ومكافحة الاتجار غير المشروع وتعزيز الثقافة باعتبارها أداة للتقّريب بين الشعوب وتعزيز الحوار.
والتزم بتوحيد الجهود من أجل التراث بما يدعم الجهود الدولية لحماية التراث الثقافي المعرض لخطر النزاع المسلح والإرهاب، على أن يتم عقد مؤتمر للمتابعة في 2017 لتقييم مدى التقدم المحرز في تنفيذ المبادرات المنطلقة في أبوظبي والمشروعات الأولى التي يتم تمويلها من قبل الصندوق الدولي.
واختتم الإعلان بالإشارة إلى الإدراك بالدور البارز الذي تقوم به الأمم المتحدة ومؤسساتها ولا سيما منظمة اليونيسكو باعتبارها المنظمة الوحيدة التابعة للأمم المتحدة المكلفة بحماية الثقافة، ودعا مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في دعم تحقيق تلك الأهداف وفقًا لميثاق الأمم المتحدة.
من جهته وجه الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة نداء للتعاون والتنسيق للسيطرة على تهريب الآثار ومواجهة التطورات الخطيرة في هذا المجال وبالذات خلال السنوات الأخيرة خصوصا آثار بعض الدول العربية التي عانت خطر العنف والإرهاب، مؤكدا على أهمية النظر إلى هذه الآثار باعتبارها تراثا عالميا مشتركا لا يجوز التهاون في سرقتها أو تهريبها أو نقلها من أماكنها التاريخية.
وقال في الجلسة الختامية للمؤتمر الدولي للحفاظ على التراث الثقافي المهدد بالخطر اليوم بأبوظبي: «إنني على ثقة تامة بأن هذا المؤتمر سوف يمثل منعطفًا مهمًا وعلامة فارقة في الجهود الدولية الرامية إلى حماية التراث الثقافي العالمي المهدد وقت الحروب والأزمات، وإطارا عالميًا فاعلاً لتنسيق التحركات في هذا المجال، ومنطلقًا أساسيا لمزيد من العمل والجهد خلال الفترة المقبلة».
وأكد أن هذا المؤتمر يمثل حدثًا مهمًا وفرصة حقيقية للإعراب من خلاله على أهمية تكاتف جهود دول العالم كافة لحماية التراث العالمي الذي بات مهددًا أكثر من أي وقت مضى بفعل الحروب الأهلية والنزاعات وعبث الجماعات المتطرفة والإرهابية وعصابات تهريب الآثار والتراث بغرض القضاء على ذاكرة الشعوب وتدمير تراثها الإنساني وهو سلوك ترفضه كل الديانات السماوية والأعراف البشرية والمواثيق الدولية.
ولفت إلى أن الاهتمام بالتراث الثقافي العالمي ليس فقط مسؤولية مجتمع أو دولة بعينها وإنما هو مسؤولية جميع الحكومات والشعوب حول العالم؛ لكونه إرثا إنسانيا تشترك فيه كل البشرية، مؤكدا أن احتضان الإمارات لهذا المؤتمر يدخل في إطار رؤيتها الحضارية وسياستها الحريصة على إيلاء جميع القضايا التي تهم البشرية عناية بالغة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)