المسبحة.. رفيق الأتراك في الذكر وجلب الحظ وتهدئة الأعصاب

صناعتها حرفة قديمة تواجه حربًا من الأنواع الرخيصة المستوردة

بائع يعرض مسبحة حجارتها من {النيازك} قيمتها 30 ألف دولار (غيتي)
بائع يعرض مسبحة حجارتها من {النيازك} قيمتها 30 ألف دولار (غيتي)
TT

المسبحة.. رفيق الأتراك في الذكر وجلب الحظ وتهدئة الأعصاب

بائع يعرض مسبحة حجارتها من {النيازك} قيمتها 30 ألف دولار (غيتي)
بائع يعرض مسبحة حجارتها من {النيازك} قيمتها 30 ألف دولار (غيتي)

للمسبحة مكانة خاصة في نفوس الأتراك كحرفة وتجارة ورفيق لكثير من الرجال يحملونها في أيديهم في حلهم وترحالهم.
وعلى مدى تاريخ تركيا استحوذت المسبحة على مكانة خاصة في الوجدان العام ولم يقتصر استخدامها يوما ما على معتنقي دين معين أو أفراد جماعة معينة بل كانت إرثا مشتركا في الحياة التركية.
ومن الطبيعي رؤية المسبحة في أيدي الرائح والغادي في شوارع تركيا حيث تتعدد أسباب ولع الأتراك بالمسبحة منها ما هو ديني، أو تراثي أو صحي، مما أدى إلى تنوع أشكال وأحجام وألوان المسابح وحتى المواد المستخدمة في صناعتها.
ويرى بعض الأتراك أن السبحة تجلب الحظ، وهناك من يراها تخفف التوتر والضغط، وآخرون يستخدمونها في أذكارهم للتسبيح.
نجيب كاراداغ أحد المتخصصين في صناعة المسابح يلخص قيمة المسبحة في ذهن الأتراك بقولة: «إنها كالزوجة تمامًا تقف بجوار زوجها وتشاطره لحظاته».
ويقول كاراداغ الذي يحرص على توريث مهنة صناعة المسابح لأولاده وأحفاده إن «السبحة ومنذ توزيعها من قبل السلاطين العثمانيين على المصلين عقب صلاة الجمعة وحتى اليوم تواصل استحواذها على وجدان كثير من المسلمين في تركيا، حيث يراها بعضهم حبات دعاء تذكرهم بالله، فيما يعتبرها آخرون رمزًا للخير».
يعمل كاراداغ وإخوته الأربعة منذ نعومة أظفارهم في حرفة صناعة المسابح، بعد انتقالهم مع أسرتهم من مدينة أرزينجان شرق تركيا إلى إسطنبول.
ويقول من يعملون في صناعة المسابح إنها تحولت مع الوقت من مجرد مهنة إلى فن يحمل تاريخا كبيرا نرغب في تطويره، لا سيما وهذه الثقافة منتشرة في مختلف أنحاء العالم، وعدم اقتصارها على دين أو شعب معين.
ويختلف سعر المسبحة في تركيا بحسب جودتها وحرفية صانعها، وتوجد منتجات تبدأ أسعارها من 5 ليرات تركية (نحو 1.5 دولار أميركي)، وهناك أخرى يصل سعر الواحدة منها 50 ليرة (15.5 دولار) وبالإضافة إلى ذلك هناك أنواع يصل سعر المسبحة منها إلى مائة دولار أو أكثر حتى يصل السعر إلى أكثر من 6 آلاف دولار.
وتصنع المسابح بأنواع مختلفة من حيث عدد حباتها، فتوجد السبحة ذات الـ33 حبة، وأخرى بـ99 حبة، في حين يستخدم بعض الصوفيين مسابح خاصة يبلغ عدد حباتها 500 وأحيانا ألف حبة.
وتصنع المسابح عادة من خشب «الأبنوس»، حيث يفضلها من يعانون من التوتر وارتفاع الضغط العصبي، في حين توجد أنواع أخرى لإزالة الميكروبات والجراثيم، وتعطير رائحة اليد في الوقت نفسه.
ويصل عدد المواد المستخدمة في صناعة المسابح إلى عشرين مادة، ومن بينها الكهرمان والأحجار الكريمة وبذور الزيتون والبلح، بالإضافة إلى الفضة والذهب والصدف المستخدم في تزيين المسبحة وتغطية حباتها.
ويقوم صانعو المسابح بصقل حباتها من أنواع خشبية متنوعة بدقة ومهارة بالغة، وتُثقب من الوسط ويجمعها في الوقت نفسه خيط متين لتصبح على شكل حلقة مستديرة كاملة.
كما تصنع المسابح أيضا من الكريستال وبعض الأحجار الكريمة كالعقيق وهي الأغلى سعرا لكن تفضل المسابح المصنوعة من خشب الأبنوس للأشخاص الذين يعانون من التوتر وارتفاع الضغط العصبي.
ويحاول أرباب حرفة صناعة المسابح ذات التاريخ الممتد لمئات السنين الحفاظ على صناعتهم الأصيلة التي باتت تواجه منافسة شديدة من المسابح الرخيصة المستوردة من الخارج.
ويستخدم الأتراك المسابح منذ القرن الرابع عشر تقريبًا، ويستخدمها الرجال بكثرة، بالإضافة إلى مهمتها الأساسية في تسهيل الذكر، حيث تعلق في أركان بالمساجد ليستخدمها المصلون.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)