«داعش» و«القاعدة» ما بين الهوية والمستقبل

المتغيرات الشرق أوسطية ترسم خطيهما البيانيين

صراع في تنظيم القاعدة على استقطاب المجندين والمؤيدين («الشرق الاوسط»)
صراع في تنظيم القاعدة على استقطاب المجندين والمؤيدين («الشرق الاوسط»)
TT

«داعش» و«القاعدة» ما بين الهوية والمستقبل

صراع في تنظيم القاعدة على استقطاب المجندين والمؤيدين («الشرق الاوسط»)
صراع في تنظيم القاعدة على استقطاب المجندين والمؤيدين («الشرق الاوسط»)

لا يختلف المتابعون على أن تنظيم داعش الإرهابي المتطرف سرق الأضواء من تنظيم القاعدة، الذي خرج منه وانفصل عنه. ومن ثم تمكن من تكثيف حضوره القوي على الساحة الدولية، بصفته تنظيما وحشيا عنيفا وسّع نفوذه جغرافيًا، واكتسب أتباعًا ومؤيدين في بقاع مختلفة. إلا أن مؤشرات عدة تشير إلى تراجع قوة «داعش» نتيجة الضربات الموجهة إليه، ولا سيما في العراق وسوريا، والتصاعد التدريجي الاستراتيجي لـ«القاعدة» من جديد. ومردّ ذلك إلى تسرّع «داعش» وممارساته الموغلة في التوحش وابتعاده عن الاستراتيجيات التي من شأنها كسب مؤيدين على المدى البعيد. وحقًا، فإن الفوارق واضحة بين التنظيمين من حيث التخطيط والأهداف والهيكلة التنظيمية.
نظرًا لكون تنظيم القاعدة استهل نشاطاته الإرهابية منذ عقد التسعينات من القرن الماضي، سابقًا من الناحية الزمنية التنظيمات المتطرفة الأخرى التي نشطت خلال السنوات الأخيرة، فإن ذلك يفسر بداياته التقليدية في التواصل مع العالم.
«القاعدة» بدأ تواصله بنشر رسائل كتبها أبرز قادته، قبل أن يتدرّج إلى تسجيلات صوتية، ثم أخرى مرئية تركز غالبيتها على خطب للقادة ما يعبّر عن التوجه المركزي للتنظيم، الذي يجعل من القيادات أمرًا مهمًا جوهريًا، ويجعل كذلك للتنظيم بُنية هرمية، وبالأخصّ، إبان فترة قيادة أسامة بن لادن له (قتل في مايو (أيار) 2011 في بلدة آبوت آباد الباكستانية). وظهور بن لادن الدائم في مقاطع بث مرئي تعكس جاذبيته وقدرته على إقناع الآخرين بما يؤمن به بهدوء وسكينة تامة؛ الأمر الذي دفعه إلى أن يصبح أشبه بظاهرة، وباتت متابعته بالنسبة لأتباعه ومريديه والتطلع لخطاباته المقبلة، سواء في العالم العربي أو الغرب، أشبه بالهوس. وكما هو معروف، بدأ الالتفات الإعلامي إلى بن لادن عبر الإعلام التقليدي الغربي، وواصل الحرص على الظهور الإعلامي العالمي إلى أن توقف عن ذلك، ليكتفي فيما بعد في نقل رسائله عبر قناة إخبارية خليجية نقلت صوته إلى العالم وترجمت خطاباته إلى اللغة الإنجليزية.
* الاستراتيجية الإعلامية
منذ تلك المرحلة لم يظهر تغيير كبير في استراتيجية «القاعدة» الإعلامية؛ إذ لا تزال مقاطع البث المرئي تركز على قادتها، ويظهر أيمن الظواهري، القيادي الذي خلف بن لادن في سدة القيادة، من وقتٍ إلى آخر في مقاطع يثبت فيها وجوده أو يتطرق إلى موضوعات مهمة، منها تكراره إدانة ممارسات «داعش» ورفضه الاعتراف بشرعيته واعتباره تنظيمًا متطرفاَ.
ويأتي امتدادًا للاستراتيجية ذاتها الظهور المفاجئ لحمزة بن لادن، نجل مؤسس «القاعدة»، يوم 9 مايو 2016 في كلمة صوتية تظهر محاولته استخدام النسق نفسه الذي كان يستخدمه والده في التواصل مع الآخرين، وتجاهل التقدم التقني في الآونة الأخيرة، وكأنه بذلك يحذو حذو والده في استخدام التسجيلات الصوتية والمرئية التقليدية، والاستمرار في نقل أهدافه.
وإلى جانب ما يقال بأن ظهوره نتيجة لرغبته في الثأر لوالده، فإن خطابه سعى إلى التحريض ضد المملكة العربية السعودية، والحث على الانضمام إلى «تنظيم القاعدة في اليمن». وهو امتداد لحرص «القاعدة» على أدلجة الدين، واستهداف الغرب وأميركا بالتحديد كونها العدو الأهم، ومحاولة الإطاحة بمصالح الغرب حتى وإن كانت في دول عربية كما حدث في استهدافهم للسعودية. وفي ذلك أيضا سعي لاستقطاب المتطرفين ممن يتعاطف معهم لأهداف دينية وسياسية، وإن تظهر «القاعدة» أكثر نخبوية بوضعها شروطًا لانضمام المقاتلين والتأكد من ولائهم، وإخضاعهم لتدريبات عسكرية قاسية. وأما التواصل فيجري عبر منتديات خاصة كـ«الإخلاص» و«الفردوس» و«الفرقان»، ومجلات إلكترونية كـ«صوت الجهاد» و«البتار» و«ذروة السنام»، ولا يتيسر الوصول إلى رسائلها الإعلامية إلا عبر الانضمام إلى المنتديات، التي تحوي مقاطع بث مرئي تدريبية، مثل كيفية تصنيع المتفجرات أو حتى استخدام الأسلحة، وأخرى ترويجية كاستعراض المعسكرات التدريبية أو عمليات اختطاف وقتل «الأجانب الكفار»، كل ذلك عبر منتديات مغلقة.
* سياسة «داعش» الشعبوية
استراتيجيات «داعش» الإعلامية تختلف تمامًا عن كل هذا؛ فهي أكثر شعبوية وتعمل بتواصل جماهيري أكبر، من دون اكتراث للظهور الإعلامي لقادتها. فشخصية «أبو بكر البغدادي» زعيم التنظيم، يكتنفها الغموض، وهو لا يظهر إلا نادرًا متشحًا السواد.
ولقد تجاهل التنظيم المتطرف الإعلام التقليدي، وربما يكون ذلك نتيجة ظهوره في الفترة التي انحسر فيها الدور الإعلامي التقليدي وبزغ فيها نجم وسائل التواصل الإلكتروني. وبالتالي، تفوق على التنظيمات المتطرفة الأخرى باستغلاله مختلف تلك المواقع بدءًا بـ«تويتر» و«فيسبوك»، وانتهاء برسائل مشفرة عبر برامج التطبيق الذكية مثل «كيك» و«تيليغرام». هذا، ما أتاح للتنظيم التواصل عن بعد لكل بقاع العالم بأسهل وأسرع وأوفر الطرق، ليس فقط في العالم العربي، بل وحتى الغربي باستخدامه رسائل إعلامية مختلفة حسب الجهة المستهدفة وبلغات متعددة، ومن ثم، أسبغ على «داعش» القدرة على تجنيد عدد كبير من المتعاطفين ممن لديهم الاستعداد للقيام بعمليات إرهابية، سواء عبر انضمام فعلي وتسلل إلى مقرهم أو إعانة آخرين على التخطيط لهجمات أو حتى أشخاص منفردين فيما يطلق عليهم مسمى «الذئاب المنفردة».
ويظهر جليًا عبر الكثير من قصص المنضمين إلى صفوفهم التركيز على النواحي النفسية، كوجود أشخاص يشعرون بالتأزم النفسي والرغبة في الانضمام إلى جماعة تشعرهم بأهميتهم، أو كالمسلمين الذين يعيشون في الغرب ويشعرون بعنصرية الآخرين تجاههم، وإعطائهم تصورًا بوجود بيئة تحتضنهم دون الشعور بتعجب بممارسة الشعائر الدينية... وإن تسبب ذلك التصور المغلوط بأن يفاجأ بعض الأعضاء باختلاف الصورة الحقيقية عن كل ما سبق إقناعهم به.
هذا الأمر بالذات الذي دفع بالبعض إلى التراجع عن قرار الانضمام، ولقد ظهرت للملأ الكثير من هذه القصص؛ ما يدل على اكتفاء «داعش» بالاستقطاب الأولي، ومن ثم إذعان الآخرين لواقع التنظيم الشرس.
إذ تبدأ الرسائل الموجهة إلى شخص مستهدف بالترغيب والإغراء، ومن ثم تبدأ الرسائل بإظهار عنف شديد وممارسة للقتل الجماعي، بصورة بشعة وبتكثيف، لإرسال تلك المقاطع بعد أن شعر المستهدف برغبة فعلية في الانضمام. وتنجح مثل هذه الرسائل بشكل خاص في استقطاب أشخاص مرضى يشعرون بالجذل لمشاهد العنف، وتكون لديهم رغبة المغامرة، وممارسة القتل والسلطة المطلقة. ولذا؛ فإن الأماكن التي تندرج تحت حكم «داعش» تعد أشبه بملاذ تتحقق فيه تحقيق أحلام الشخصيات المنبوذة في مجتمعاتها.
* الهيكلية التنظيمية «داعش» و«القاعدة»
في بداية حقبة «القاعدة»، حين كانت أكثر قوة وتنظيمًا، بالتحديد في عهد أسامة بن لادن، كان التنظيم يتبع الهيكلة الهرمية التي تركز على مفهوم السيطرة النخبوية من قبل قادة مفكرين من أطباء ومهندسين في قمة الهرم، والتخطيط لعمليات ينفذها الأعضاء بتفكيرهم البسيط ممن يقع في أسفل الهرم. ويليهم المناصرون، ومن ثم الرأي العام في قاع الهرم كأكبر شريحة مستهدفة من قبل التنظيم... وذلك من أجل تكوين خلايا نائمة متعاطفة معهم عند الحاجة.
ويظهر فيما بعد تغير في هذا التوجه، والاكتفاء بالسيطرة فقط على الاستراتيجيات الأساسية والسياسات العامة لـ«القاعدة»، بوجود مجلس شورى وهيئات عسكرية ومالية، بينما تأتي العمليات التنفيذية حسب الجهة المنفذة.
ويظهر استخدام سياسة التكيّف حسب الظروف المختلفة؛ وذلك نتيجة لضعف «القاعدة» النوعي في الآونة الأخيرة، وخفوت بريقها باستثناء بعض المناطق الجغرافية. إذ يظهر تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب»، المتمثل في اليمن، الأكثر نشاطًا والأكبر من حيث عدد الأعضاء بالنسبة لتنظيم القاعدة الأم، وتصاعد قوتها العسكرية والمالية.
تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب» تمكن من نهب ما يزيد على 100 مليون دولار أميركي من البنك المركزي في مدينة المكلا، عاصمة حضرموت، وتهريب الوقود عبر ميناء المدينة ذاتها. وهذا مع أن المدينة كانت أخيرًا قيد الاستهداف من قبل الهجمات العسكرية لقوات التحالف والغارات الجوية الأميركية.
من ناحية ثانية، حرص تنظيم القاعدة على استخدام السياسة التدريجية في الصعود وتنفيذ هجمات إرهابية في مناطق مختلفة، كتبني «القاعدة في جزيرة العرب» الهجوم الإرهابي على مطبوعة «شارلي إيبدو» الفرنسية الذي تسبب في إثارة الرأي العام العالمي ضد التنظيم، وضد المسلمين عمومًا. أيضا، تبنى تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب» هجمات على منتجع غراند باسام في جمهورية ساحل العاج، وكان في الحقيقة تنفيذًا مشتركًا عبر أعضاء ينتمون إلى «جماعة المرابطين» و«إمارة الصحراء الكبرى» ممن أعلنوا ولاءهم لـ«القاعدة»، إضافة إلى هجمات أخرى للتنظيم في كل من مالي وبوركينا فاسو. الأمر الذي يظهر التركيز الجديد لـ«القاعدة» ما بين اليمن وأفريقيا، مع العلم أن «القاعدة» حظي في عام 2014 بمبايعة «حركة الشباب الصومالية» التي نشطت في الآونة الأخيرة.
شن عمليات عشوائية في أماكن متفرقة تجعل من الأسهل على تنظيم «القاعدة» تحقيق غاياته وأهدافه من دون التعرض لاستهداف قوي كما يحدث لتنظيم داعش. كذلك أظهر تنظيم «القاعدة في سوريا» سياسة قاعدية جديدة في التعامل مع «جبهة النصرة» تدل على خروج «القاعدة» من نمطية السيطرة القيادية.. بغرض التكيّف. فكما هو معروف أعلن «أبو محمد الجولاني» زعيم «جبهة النصرة» وقف العمل بهذا الاسم (أي النصرة) وتشكيل جماعة جديدة تحت مسمى «جبهة فتح الشام»، منفصلاً بذلك عن «القاعدة»، وذلك بعد موافقة تنظيم «القاعدة» نفسه وتفويضه للجبهة الجديدة، فيما برره «الجولاني» بقوله «لتلبية رغبة أهل الشام في دفع ذرائع المجتمع الدولي»، محاولا إضفاء قبس من الشرعية لهم، وللابتعاد عن استهداف قوات التحالف بعد تمكنهم من تسديد ضربات قوية تجاه تنظيم داعش.
* الهيكلية الهرمية لـ«داعش»
في المقابل، على الرغم من حرص تنظيم داعش على المرونة في تجنيد الأعضاء، والتواصل معهم لتحقيق العمليات عن بعد، يظهر حرص «أبو بكر البغدادي» على وجه الخصوص على الهيكلية الهرمية. وهذا يعد أمرا منطقيًا في فترة يعتبر فيها التنظيم لا يزال قويًا؛ إذ تصبح كل القرارات تحت سيطرة القائد الأعلى، ويليه فيما بعد مجلس الشورى الذي لا بد من العودة إليه في جميع القرارات، والإشراف على مدى تطبيق الشريعة الإسلامية في المناطق التي سيطر عليها التنظيم.
ويتفرع من مجلس الشورى المجلس العسكري الذي يتميز بالسرية التامة، على نسق الضباط العراقيين البعثيين الذين انضموا إلى تنظيم داعش، إضافة إلى الهيئة الشرعية والإعلامية وأهل الحل والعقد، وتندرج تحتها مناطق النفوذ المقسمة إلى ألوية. وينوّب البغدادي كلاً من «أبو مسلم التركماني» في العراق و«أبو علي الأنباري» في سوريا، ولكن قد يتغير ذلك في حال استمر ضعف التنظيم واستهدافه من قبل قوات التحالف.
إذ إن الهيكلة مجدولة بناء على وجود «خلافة إسلامية» داعشية مزعومة في منطقة جغرافية معينة تمتد من العراق إلى سوريا؛ الأمر الذي يجعل من السهل القضاء على «داعش» عبر ضربات عسكرية مباشرة، واستخدام سياسة التضييق المكاني والمادي عليهم. وفعلاً شنت قوى التحالف منذ أبريل (نيسان) 2014 ما يزيد على 12 ألف غارة جوية استهدفت «داعش» في كل من العراق وسوريا، تسببت بالفعل في انحسار قوتهم، كما حدث في كل من الأنبار والفلوجة وشمال سوريا والرقة.
* القلوب والعقول
من جانب آخر، في الوقت الذي ظهر تنظيم داعش بصورة أكثر عنفًا وتكفيرًا لكل من يخالفهم، التزم «القاعدة» بالسياسة نفسها التي اتبعها منذ بداية تأسيسه، عبر التغرير بالقلوب والعقول بهدف اكتساب الثقة وتكوين شريحة من المؤيدين؛ الأمر الذي حدا بأعضاء وقيادات «القاعدة» إلى استنكار ما يشاهدونه من فظائع بشعة وتوحش ينفذها «داعش»، وبالأخص في استهدافه أعداء آخرين غير أميركا وحلفائها. وللعلم، يكفّر تنظيم داعش كل من يخالفه من السنة، إضافة إلى الشيعة والأكراد والإيزيديين، ولا يتوانى عن استهداف المساجد وأماكن تجمع المسلمين.
أما عن سياسة «القاعدة» الساعية إلى اكتساب «القلوب والعقول» في اليمن، فتتمثل في إلغاء الضرائب التي كانت مفروضة على الدخل، على اعتبار أنها ليست تطبيقًا شرعيًا. كذلك حرص التنظيم في اليمن على نشر صور ومقاطع بث مرئي تحوي تقديمه الخدمات الطبية، ورصف الطرق المحلية، وغير ذلك من أعمال تظهر حرصهم على بناء اليمن وليس فقط إثارة الرعب.
ملحوظة أخيرة: بشكل عام يظهر «القاعدة» مضمونًا آيديولوجيًا أعمق من عشوائية «داعش»، وقياداته أكثر نضجًا وتحسبًا في اتخاذ القرارات؛ إذ تكوين «خلافة إسلامية» يعد عند «القاعدة» هدفًا، ولكن على المدى البعيد. وحتى عند اللجوء إلى العنف، فإن أسلوب «القاعدة» المفضل هو المحاولات التدريجية الحذرة في طريق العودة إلى الساحة عبر هجمات عشوائية تجعل من الصعب استهدافه. في حين اندفع تنظيم داعش للسيطرة على الأراضي بسرعة وبتوسع؛ ما تسبب في تعرضه للهجمات وتدمير ألويته.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.