السودانيون يفيقون من «الحنين» للفن السابع بأفلام جذابة

خمسة أفلام في أول أيام مهرجان الفيلم الأوروبي بالخرطوم

الفيلم السويدي الدائرة أحد الأفلام المعروضة في المهرجان («الشرق الأوسط»)
الفيلم السويدي الدائرة أحد الأفلام المعروضة في المهرجان («الشرق الأوسط»)
TT

السودانيون يفيقون من «الحنين» للفن السابع بأفلام جذابة

الفيلم السويدي الدائرة أحد الأفلام المعروضة في المهرجان («الشرق الأوسط»)
الفيلم السويدي الدائرة أحد الأفلام المعروضة في المهرجان («الشرق الأوسط»)

بشروق الشمس في العاصمة السودانية الخرطوم، يكون عشاق السينما السودانيون قد أفاقوا مما يشبه الحلم، بعد أن عاشوا أمسية رائعة بمشاهدة خمسة أفلام تعد من أجود إبداعات الفن السابع الأوروبي دفعة واحدة.
يشبه الحلم، أو فلنقل إنه حلم حقيقي بالنسبة لجمهور السينما السوداني الذي حرم لأسباب شتى من دور العرض السينمائي، التي تحولت لخرابات ينعق فيها البوم، فحرموا من الأفلام الجيدة التي كانت تقدمها دور السينما في السودان قبل أكثر من ثلاثة عقود.
كانت أجود الأفلام تعرض بالتزامن مع أزمنة عرضها في عواصم العالم الأول، لكن بعد أن تحولت دور السينما إلى (خرابات) ينعق فيها ألبوم، مثلما هي الحال بالنسبة لسينما (كلوزيوم) الشهيرة وسط الخرطوم، ودور أخرى أزيلت وتحولت إلى أنشطة أخرى، فيما تعرض ما تبقت من دور (أرخص) الأفلام، فإن السودانيين ينتظرون (مهرجان الفيلم الأوروبي) سنويًا ليمتعوا ذوائقهم البصرية والسمعية بالأفلام الجيدة.
ويتوقع أن يفيق السودانيون من حلم الفيلم الإيطالي (رواية عن مذبحة) بالمركز الثقافي الألماني (جوتة)، وفيلم (النسر إيدي) البريطاني في المركز الثقافي البريطاني، والفيلم الفرنسي (الأمير الصغير) بالمعهد الفرنسي، وفيلم (الدائرة) السويدي بمبنى السفارة الهولندية، وفيلم (أمي ومجانين آخرون في العائلة) المجري، والذي يعرض بمركز الفيصل الثقافي، وانتظار الأمسية التالية ليشاهدوا بقية الأفلام.
وافتتحت بعثة الاتحاد الأوروبي بالسودان مساء السبت مهرجان الفيلم الأوروبي الذي ظل يعرض خلاله للسنة الثامنة في الخرطوم عدد من الأفلام الأوروبية.
وتعرض خلال المهرجان 20 فيلمًا من 18 دولة، وتستمر العروض حتى الثلاثين من الشهر الحالي، بمعدل خمسة أفلام يوميًا، على أن تعرض كل المراكز الأفلام العشرين ليحظى عشاق الفن السابع بمشاهدتها جمعيها.
وقال سفير الاتحاد الأوروبي بالخرطوم جان ميشال خلال حفل الافتتاح بمقر البعثة بالخرطوم السبت، إن المهرجان «يعزز التعاون الثقافي بين السودان والاتحاد الأوروبي، ويحاول تقديم التنوع والثراء الثقافي الأوروبي للسودانيين».
فيما وصف وزير الثقافة السوداني الطيب حسن بدوي المهرجان بأنه تعبير عن الشراكة الثقافية بين الاتحاد الأوروبي والسودان، وأضاف: «هذه الشراكة تعيد للسينما السودانية تاريخها الذي بدأ قبل 104 أعوام»، ودعا المسؤول السوداني الاتحاد الأوروبي لتأهيل وتدريب الجيل الجديد من السينمائيين السودانيين، وإتاحة الفرصة لهم لعرض إنتاجهم في دور العرض الأوروبية.
وأعلنت بعثة الاتحاد الأوروبي أن مهرجان هذا العام يجمع بين الدراما، والكوميديا، والأفلام الوثائقية، وأن الأفلام المقدمة تمتاز بفنية عالية، وأنها عرضت جميعها في مهرجانات دولية مثل: «مهرجان برلين السينمائي، مهرجان بايرويت السينمائي، مهرجان إيفورا الدولي للفيلم القصير، مهرجان لايبزيغ للأفلام الوثائقية والأفلام المتحركة، مهرجان قرطاج السينمائي، المهرجان الدولي للفيلم القصير بهامبورغ، مهرجان كان السينمائي، مهرجان البندقية السينمائي ومهرجان زيوريخ السينمائي».
ويعد مهرجان الفيلم الأوروبي محاولة لإعادة الحياة لشرايين السينما السودانية التي تكلست بسبب الإهمال، بعد أن كانت مزدهرة منذ عام 1910 بتصوير فيلم (رحلة الصيد) للمخرج السويسري دام ديفيد، والذي عرض في مدينة الأبيض وسط البلاد عام 1912 كأول مدينة سودانية تشهد عرضًا مماثلاً.
وافتتح بعد ذلك في السودان كثير من دور السينما وظلت تعمل بنشاط في نقل الفن السابع للمتلقين السودانيين، وعادة ما يتم اختيار أجود الأفلام الأوروبية والأميركية والمصرية، بواسطة مؤسسة الدولة للسينما والتي كانت تتبع وزارة الثقافة والإعلام السودانية.
وتتجه الأنظار إلى نظام الحكم في الخرطوم، وتحمله المسؤولية عن تراجع السينما عرضا وإنتاجا، بعد حل مؤسسة الدولة السينما في 1989 وإغلاق نادي السينما، وتحول دور العرض الشهيرة إلى أمكنة مهجورة، وتهديم البعض وتغيير أغراضها إبان الهوجة الدينية التي رافقت وصول الإسلاميين للحكم في البلاد، أما المتبقية من دور العرض والمستحدثة فتقدم أفلاما رخيصة في الغالب (أفلام أكشن) هندية وغربية.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)