الرمادي العراقية.. إصرار على العودة للحياة رغم الخراب

«الشرق الأوسط» تتجول في المدينة المحررة.. ونائب المحافظ: 80 % من الأحياء دمرت وما تحت الأنقاض عبوات ناسفة

أهالي بيت مدمر في الرمادي يعاينون الخراب الذي حل به.. وفي الإطار نائب محافظ الرمادي علي الدليمي («الشرق الأوسط»)
أهالي بيت مدمر في الرمادي يعاينون الخراب الذي حل به.. وفي الإطار نائب محافظ الرمادي علي الدليمي («الشرق الأوسط»)
TT

الرمادي العراقية.. إصرار على العودة للحياة رغم الخراب

أهالي بيت مدمر في الرمادي يعاينون الخراب الذي حل به.. وفي الإطار نائب محافظ الرمادي علي الدليمي («الشرق الأوسط»)
أهالي بيت مدمر في الرمادي يعاينون الخراب الذي حل به.. وفي الإطار نائب محافظ الرمادي علي الدليمي («الشرق الأوسط»)

الدخول إلى مدينة الرمادي، مركز محافظة الأنبار التي تحتل ربع مساحة العراق، يشبه الوصول إلى أرض خراب أو منطقة أشباح؛ خاصة أن 80 في المائة من أحياء المدينة قد تعرض إلى الدمار، ونحو خمسة أحياء سكنية قد دمرت بالكامل، حسب نائب محافظ الأنبار علي فرحان الدليمي.
لدى التجول عبر الطرق الفرعية التي أزيلت الألغام والعبوات الناسفة منها، بين تلك الأحياء التي لم يتبق منها أي شيء، يجد الزائر نفسه كأنه في واحد من تلك المشاهد السينمائية الأكثر رعبًا في فيلم من أفلام الحرب العالمية الثانية، أو شريط يصور اليوم التالي لمدينة غزتها مجموعات هي الأكثر همجية عبر التاريخ. سائق السيارة، دليلنا إلى هذه الأرض أوصى أن نغلق نوافذ السيارة كي لا نتنفس رائحة عفونة الجثث التي ما زالت تحت الأنقاض منذ أشهر كثيرة، سواء كانت جثث الأبرياء الذين كانوا يسكنون تلك الدور أو جثث مقاتلي تنظيم داعش الإرهابي الذين قضوا في القصف المدفعي والجوي خلال عمليات تحرير الرمادي، فعملية «إزالة الأنقاض وإخراج الجثث يجب أن تسبقها عمليات إزاحة المتفجرات والعبوات الناسفة والألغام المزروعة في كل مكان»، حسب علي الدليمي محافظ الرمادي.
على مسافة 108 كيلومترات غرب العراق تقع مدينة الرمادي، منفتحة على الصحراء، وهي بوابة البلد باتجاه السعودية والأردن وسوريا. الطريق إليها أصبح سالكًا مؤخرًا بعد ما تحررت مدينة الفلوجة من سيطرة تنظيم داعش في يونيو (حزيران) الماضي، وبعد عمليات رفع الألغام والعبوات الناسفة من الشارع الدولي الذي يربط مدن غرب العراق ببغداد، رغم أن هذا الشارع يحمل آثارًا واضحة من بقايا المتفجرات والتي تظهر على شكل فجوات ومطبات متواصلة لم يتم إصلاحها بعد، تذكر المسافرين باستمرار بما تعرض له من قصف وتفجير منذ 2003 حيث غزو القوات الأميركية للعراق من جهته الغربية وحتى اليوم.
ندخل للمدينة من بوابة الخراب، إذ لا تخلو أي بناية، سكنية أو تجارية أو مسجد من آثار الرصاص أو القاذفات الصاروخية (آر بي جي 7)، والأبنية التي سلمت من الدمار الكامل قليلة عمومًا. الحياة تدب ببطء، والشارع الوحيد الذي يقود إلى مركز الرمادي، حيث مبنى المحافظة، يبدو مزدحمًا بسبب استمرار موجة عودة النازحين الذين يعبرون عبر نقطة (فلتر) واحدة للحصول على موافقات دخولهم إلى مدينتهم التي هجروها قسريًا قبل أكثر من عامين.
يقول علي فرحان الدليمي، نائب محافظ الأنبار لـ«الشرق الأوسط» التي التقته في مكتبه وسط الرمادي، إن «عمليات عودة النازحين وإجراءات دخولهم لا تبدو صعبة مثلما تم تسجيله في الفلوجة، فهنا تشرف الشرطة المحلية على هذه الإجراءات التي تتلخص بالتأكد من أن العائدين لم يتورطوا في العمل مع تنظيم داعش ثم يمنحون بطاقة دخول المدينة»، مشيرًا إلى أن «ما يقارب 90 في المائة من سكان الرمادي الذين يقترب عددهم من ستين ألف نسمة، عادوا إلى مناطقهم عبر أربع بوابات أو مداخل لتسهيل عمليات دخولهم».
ويعترف الدليمي أن «الحكومتين الاتحادية ببغداد والمحلية في الرمادي لم تهتما بأمر النازحين العائدين إلى بيوتهم ولم نقدم لهم أي دعم بينما بيوتهم مدمرة والخدمات سيئة باستثناء توفير الماء الصالح للشرب وبنسب جيدة جدًا، بينما يعتمد الأهالي على مولدات الكهرباء الخاصة التي تبيع الأمبيرات بأسعار مختلفة للناس»، مؤكدًا أن «هناك مناطق كثيرة وأحياء سكنية مهدمة ومزروعة بالألغام ولا أحد يغامر بالدخول إليها وسننتظر لأكثر من عشر سنوات كي تزال الألغام من كافة مناطق الرمادي، وقيل لنا إن هناك شركات أجنبية تعاقدت بمبلغ 20 مليون دولار لإزاحة العبوات الناسفة والمتفجرات لكنني لم ألتق هذه الشركات ولا أعرف أي شيء عنها ولم يجر بعد إزالة أي لغم». وتابع قائلا: «أما موضوع إزالة أنقاض الأبنية وفتح الطرق فهذا يحتاج إلى جهود كبيرة بسبب نقص المعدات والآليات غير المتوفرة لدينا، فهناك مثلا 70 بناية مدرسية مدمرة ولا تسمح لنا إمكانياتنا المالية بإعادة إعمار ولو قسم منها، وسنلجأ إلى نقل كرفانات كانت مخصصة للنازحين إلى المناطق السكنية لنحولها إلى مدارس، أما فيما يتعلق بإعمار البيوت والمحلات التجارية فهذا من شأن المواطنين أنفسهم أصحاب هذه العقارات والحكومة لا تتحمل دفع أي تعويضات أو إعمار أي بناية خاصة. نحن نبذل حاليًا كل جهودنا من أجل استقرار المدينة وليس إعمار البنى التحتية فيها».
نائب المحافظ يعرف خرائط وأسرار مدينته التي ولد وترعرع فيها، على غرار والديه وأجداده؛ فهو يتحدر من أشهر عشائر غرب العراق، الدليم، والأنبار هي المحافظة التي تتحكم بها العشائر، وأشهرها بعد الدليم، البونمر، البو فهد، البو علوان، البو ذياب، البوعساف، البو مرعي، البو خليفة، البو ريشة، والبو عبيد. كثرة هذه العشائر وسطوة نفوذها «هي التي خلقت الكثير من المشاكل للأنبار عامة وللرمادي، مركز المحافظة، خاصة»، حسب ما يوضح علي فرحان الدليمي الذي يضيف أن «الصراع دائما يدور من أجل المناصب، والمناصب تعني منافع وأموالا وفسادا في الغالب، والمشكلة أن شيوخ العشائر الذين يتعين أن تنحصر مهمتهم بقيادة وإدارة شؤون العشيرة من خلال مضيفة، تحولوا اليوم إلى قادة أحزاب وكتل سياسية وصاروا يتحكمون وعبر نفوذهم بالمشهد والقرار السياسي». ونبه نائب المحافظ إلى أن المشكلة الأكثر تعقيدا تتمثل فيما يقوم به بعض الأثرياء الجدد وشيوخ عشائر بطريقة غير شرعية وتتنافى مع أعراف العشائر عندنا، و«هؤلاء بسبب أموالهم صنعوا لهم نفوذا اجتماعيا ومن ثم أقحموا أنفسهم في العمل السياسي الذي هم أبعد ما يكونون عنه».
لكن الدليمي ذاته ينخرط في ذات الصراع أو الصراعات السياسية، فهو رئيس كتلة التعاون البرلمانية، ومتحالف مع كتلة الإصلاح في مجلس المحافظة، الكتلة التي أقالت محافظ الأنبار، صهيب الراوي، لمرتين. لكن هذا القرار لم ينفذ حتى الآن على الرغم من أن المحكمة الغدارية صادقت على القرار، حسب الدليمي. وهنا المشهد يكون أكثر تعقيدا، فهناك علاقة شائكة بين المحافظ الذي هو من كتلة الحزب الإسلامي، ونائبه من كتلة الإصلاح، وهذه العلاقة خلقت تقاطعات يروح ضحيتها المواطنون الذين لا يحظون بخدمات ولو بسيطة.
يقول الدليمي إن «محافظ الأنبار يقيم في بغداد ولا يزور الأنبار إلا نادرًا، وأنا هنا بلا صلاحيات إدارية كاملة وبلا أموال، وكلما أردنا إنجاز أي خدمات ندخل في أروقة البيروقراطية واللجان التي تتشكل من قبل المحافظ لتقف عائقا أمام جهودنا هنا على أرض الواقع».
«الشرق الأوسط» حاولت لأكثر من مرة الاتصال بمحافظ الأنبار لغرض الوقوف على بعض الحقائق، لكن تلك الاتصالات لم تثمر. وفي «أرض الواقع» أو «الميدان»، حسب وصف الدليمي، وجدنا نائب المحافظ وفريق عمل يرافقه في العمل لتهيئة الأوضاع لإعادة الحياة لمدينة هي الأكبر في عموم الأنبار وتقسيمها الإداري (قضاء)، حيث تضم 18 ناحية وبلدة، وفي مركزها أكثر من 30 حيا سكنيًا وجامعتان (جامعة الأنبار الحكومية، وجامعة المعارف الأهلية)، ومستشفيان، واحد مخصص للولادة والثاني عام.
نهر الفرات يشق المدينة إلى قسمين، الشامي الذي يضم مركز الرمادي وإداراتها، والجزيرة الذي ينفتح على البادية، فهذه المدينة تضم ثلاث بوابات أو مداخل مع أهم الدول العربية المجاورة للعراق، السعودية عبر بوابة عرعر، وسوريا عبر مدخل الوليد، والأردن من خلال معبر طريبيل. ويقول الدليمي «تشكل هذه النقاط أو المداخل الحدودية للرمادي خاصة والعراق عامة مصدرا اقتصاديا مهما، إذ تمر أغلب تجارة العراق من خلال هذه المنافذ، كما يشكل وجود الفوسفات أهم مصدر اقتصادي لأهالي الأنبار عامة بالإضافة إلى نفط بئر عكاز، والغاز الذي لم يتم استثماره بعد». ويشير إلى أن «تنظيم داعش سرق غالبية المصانع والمعامل ومولدات الطاقة الكهربائية ونقلها إلى الرقة» في سوريا.
الموقع الجغرافي المتميز هو الذي أوجد الرمادي على أرض الواقع عندما بناها الوالي العثماني مدحت باشا عام 1866. لكن الاهتمام بها وتطويرها تم على يد البريطانيين عام 1918 بعد احتلالهم العراق عندما اكتشفوها عبر طريق ما كان يسمى بـ(شرق الأردن)، وسرعان ما تحولت إلى ممر مهم للقوافل التجارية ومعبر بارز إلى مدن غرب العراق.
نترك مبنى المحافظة لنرافق المهندس محمد عبيد العيادة، المستشار الفني لنائب المحافظ. نمضي بين أحياء خربة تماما، خالية إلا من القطط والكلاب السائبة، أحياء كانت قبل سيطرة تنظيم داعش على المدينة عام 2014 تضج بالحياة، عوائل بأكملها أبيدت إذا لم تكن قد هاجرت مبكرًا. ويقول العيادة إن «أحياء البكر والأرامل، المضيق، وأطراف حي التاميم الذي يعد من أكبر الأحياء السكنية، والقادسية والإسكان والملعب والجامعة، قد تعرضت لدمار كامل إما بسبب تفجير داعش لبيوت هذه الأحياء بطريقة التفجير المتسلسل أو بسبب قصفها من قبل قوات مكافحة الإرهاب العراقية وطيران التحالف الدولي»، منبهًا إلى أن «مسألة إعادة إعمار هذه الأحياء مستحيلة، ولذا يجب هدمها وتسويتها وإعادة بنائها، وهذا يتطلب الملايين من الدولارات في وقت يمر به العراق بأزمة اقتصادية خانقة».
لم يتبق حجر على حجر في أحياء سكنية كانت توصف بالراقية، أما المباني التجارية فقد دمر أغلبها والصواريخ طالت حتى المساجد، وأبرزها مسجد صدام حسين، أو هكذا كان يسمى كون الرئيس العراقي السابق هو الذي أمر ببنائه، وما زال يحمل ذات الاسم حتى اليوم.
كانت الفلوجة أول مدينة احتلها تنظيم داعش، قبل أن يتسلل مقاتلو التنظيم الإرهابي إلى الرمادي عام 2014 عن طريق الأحياء الجنوبية كونها مفتوحة على البادية، سيطروا أولا على مدينة الملعب التي تضم 8 أحياء سكنية، وبعد عام ونصف العام من القتال تم احتلال كامل المدينة، ثم سيطروا على الجامعة، وتلاها حي التاميم في غرب الرمادي. ويتذكر العيادة: «كنا نعمل في بناية المحافظة وتفصلنا مسافة 300 متر عن مقرات داعش، ثم سيطروا على بناية مديرية تربية الرمادي، هم يتوغلون في الأحياء السكنية، الحي تلو الآخر، وكان من الصعب مقاتلتهم هناك، فقد كانت لهم حواضن، من بين أهالي المدينة وهذا ما سهل عليهم مسألة السيطرة على الأحياء السكنية».
ويعترف الدليمي أن «أعدادًا كبيرة، ربما نصف مقاتلي داعش كانوا من أهالي الرمادي بينهم الأكاديميون والأطباء والمهندسون والموظفون وطلبة الجامعة، وبعضهم تم تضليله أو فهم أن حقوقه مهدورة ويتعين عليه القتال مع داعش، كما شجع المجلس العسكري (مجلس العشائر) على نجاح خطط تنظيم داعش وكان ذلك جزءًا من أسباب سقوط الرمادي، بل الأنبار عامة». وأضاف: «تنظيم داعش نشط في خيام ساحات الاعتصام في الفلوجة والرمادي عام 2013. ومن هناك بدأ بالانتشار، وكثير من المعتصمين لم يكونوا يعلمون بخطط داعش وبينها إسقاط المحافظة».
بعد قتال ما يقرب من عامين تم تحرير الرمادي من سيطرة تنظيم داعش. «تحررت بداية هذا العام بدءا من جنوبها حتى شرقها، بعد قتال شرس خاصة في منطقة الجامعة» يقول الدليمي، مستطردًا «القسم الأكبر من أهالي المدينة نزحوا عنها ومن بقي أما كان على صلة بداعش أو مضطر، خاصة في مدينة الملعب والمناطق الجنوبية من المدينة».
المهندس محمد عبيد العيادة، يعلق قائلاً ونحن نشاهد صور الخراب: «المعروف عن أهالي الأنبار أنهم عنيدون ولا يستسلمون بسهولة وسوف يعيدون بناء بيوتهم إذ لا خيار آخر لهم. هم لا يرضخون لذل المخيمات ومتمسكون بمدينتهم، يساعدهم بذلك أن أوضاعهم المادية جيدة، فبينهم التجار والمستثمرون في جميع أنحاء العراق كما أنهم متكاتفون مع بعضهم ولا يتخلون عن أبناء عشائرهم».
على حافة حي مدمر، نشاهد بارقة أمل حيث يشتغل عمال البناء لإعادة إعمار بيت كان خربًا. كان صاحب الدار يساعد العمال وهو يجيب على سؤالنا حول حجم الخراب الذي كان يعاني منه بيته، فقال: «كان البيت مدمرًا بالكامل تقريبًا، وأنا أول ما عدت مع عائلتي قررت أن أعيد بناءه لأننا عانينا من ذل النزوح وهجرة مدينتنا»، مشيرًا إلى «أننا كنا مقيمين ببيت في حي العامرية ببغداد ولم نذهب إلى المخيمات حفاظًا على كرامتنا وراحة عائلتي. كنا ننتظر بفارغ الصبر تحرير الرمادي والعودة إليها والشروع ببناء بيتنا»، شاكيا من «غياب الخدمات بصورة كاملة تقريبا».
في طريق عودتنا ونحن نقطع الشارع الرئيسي بمركز الرمادي، كنا نراقب إصرار الحياة على العودة لمدينة أكل الخراب 80 في المائة منها. الأسواق بدأت تنتعش مع عودة النازحين، والسيارات تؤثث الشوارع ولو بإيقاع بطيء، لكنه إيقاع بداية مشوار عودة الرمادي لتتصدر المشهد الحياتي في غرب العراق.



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».