الرمادي العراقية.. إصرار على العودة للحياة رغم الخراب

«الشرق الأوسط» تتجول في المدينة المحررة.. ونائب المحافظ: 80 % من الأحياء دمرت وما تحت الأنقاض عبوات ناسفة

أهالي بيت مدمر في الرمادي يعاينون الخراب الذي حل به.. وفي الإطار نائب محافظ الرمادي علي الدليمي («الشرق الأوسط»)
أهالي بيت مدمر في الرمادي يعاينون الخراب الذي حل به.. وفي الإطار نائب محافظ الرمادي علي الدليمي («الشرق الأوسط»)
TT

الرمادي العراقية.. إصرار على العودة للحياة رغم الخراب

أهالي بيت مدمر في الرمادي يعاينون الخراب الذي حل به.. وفي الإطار نائب محافظ الرمادي علي الدليمي («الشرق الأوسط»)
أهالي بيت مدمر في الرمادي يعاينون الخراب الذي حل به.. وفي الإطار نائب محافظ الرمادي علي الدليمي («الشرق الأوسط»)

الدخول إلى مدينة الرمادي، مركز محافظة الأنبار التي تحتل ربع مساحة العراق، يشبه الوصول إلى أرض خراب أو منطقة أشباح؛ خاصة أن 80 في المائة من أحياء المدينة قد تعرض إلى الدمار، ونحو خمسة أحياء سكنية قد دمرت بالكامل، حسب نائب محافظ الأنبار علي فرحان الدليمي.
لدى التجول عبر الطرق الفرعية التي أزيلت الألغام والعبوات الناسفة منها، بين تلك الأحياء التي لم يتبق منها أي شيء، يجد الزائر نفسه كأنه في واحد من تلك المشاهد السينمائية الأكثر رعبًا في فيلم من أفلام الحرب العالمية الثانية، أو شريط يصور اليوم التالي لمدينة غزتها مجموعات هي الأكثر همجية عبر التاريخ. سائق السيارة، دليلنا إلى هذه الأرض أوصى أن نغلق نوافذ السيارة كي لا نتنفس رائحة عفونة الجثث التي ما زالت تحت الأنقاض منذ أشهر كثيرة، سواء كانت جثث الأبرياء الذين كانوا يسكنون تلك الدور أو جثث مقاتلي تنظيم داعش الإرهابي الذين قضوا في القصف المدفعي والجوي خلال عمليات تحرير الرمادي، فعملية «إزالة الأنقاض وإخراج الجثث يجب أن تسبقها عمليات إزاحة المتفجرات والعبوات الناسفة والألغام المزروعة في كل مكان»، حسب علي الدليمي محافظ الرمادي.
على مسافة 108 كيلومترات غرب العراق تقع مدينة الرمادي، منفتحة على الصحراء، وهي بوابة البلد باتجاه السعودية والأردن وسوريا. الطريق إليها أصبح سالكًا مؤخرًا بعد ما تحررت مدينة الفلوجة من سيطرة تنظيم داعش في يونيو (حزيران) الماضي، وبعد عمليات رفع الألغام والعبوات الناسفة من الشارع الدولي الذي يربط مدن غرب العراق ببغداد، رغم أن هذا الشارع يحمل آثارًا واضحة من بقايا المتفجرات والتي تظهر على شكل فجوات ومطبات متواصلة لم يتم إصلاحها بعد، تذكر المسافرين باستمرار بما تعرض له من قصف وتفجير منذ 2003 حيث غزو القوات الأميركية للعراق من جهته الغربية وحتى اليوم.
ندخل للمدينة من بوابة الخراب، إذ لا تخلو أي بناية، سكنية أو تجارية أو مسجد من آثار الرصاص أو القاذفات الصاروخية (آر بي جي 7)، والأبنية التي سلمت من الدمار الكامل قليلة عمومًا. الحياة تدب ببطء، والشارع الوحيد الذي يقود إلى مركز الرمادي، حيث مبنى المحافظة، يبدو مزدحمًا بسبب استمرار موجة عودة النازحين الذين يعبرون عبر نقطة (فلتر) واحدة للحصول على موافقات دخولهم إلى مدينتهم التي هجروها قسريًا قبل أكثر من عامين.
يقول علي فرحان الدليمي، نائب محافظ الأنبار لـ«الشرق الأوسط» التي التقته في مكتبه وسط الرمادي، إن «عمليات عودة النازحين وإجراءات دخولهم لا تبدو صعبة مثلما تم تسجيله في الفلوجة، فهنا تشرف الشرطة المحلية على هذه الإجراءات التي تتلخص بالتأكد من أن العائدين لم يتورطوا في العمل مع تنظيم داعش ثم يمنحون بطاقة دخول المدينة»، مشيرًا إلى أن «ما يقارب 90 في المائة من سكان الرمادي الذين يقترب عددهم من ستين ألف نسمة، عادوا إلى مناطقهم عبر أربع بوابات أو مداخل لتسهيل عمليات دخولهم».
ويعترف الدليمي أن «الحكومتين الاتحادية ببغداد والمحلية في الرمادي لم تهتما بأمر النازحين العائدين إلى بيوتهم ولم نقدم لهم أي دعم بينما بيوتهم مدمرة والخدمات سيئة باستثناء توفير الماء الصالح للشرب وبنسب جيدة جدًا، بينما يعتمد الأهالي على مولدات الكهرباء الخاصة التي تبيع الأمبيرات بأسعار مختلفة للناس»، مؤكدًا أن «هناك مناطق كثيرة وأحياء سكنية مهدمة ومزروعة بالألغام ولا أحد يغامر بالدخول إليها وسننتظر لأكثر من عشر سنوات كي تزال الألغام من كافة مناطق الرمادي، وقيل لنا إن هناك شركات أجنبية تعاقدت بمبلغ 20 مليون دولار لإزاحة العبوات الناسفة والمتفجرات لكنني لم ألتق هذه الشركات ولا أعرف أي شيء عنها ولم يجر بعد إزالة أي لغم». وتابع قائلا: «أما موضوع إزالة أنقاض الأبنية وفتح الطرق فهذا يحتاج إلى جهود كبيرة بسبب نقص المعدات والآليات غير المتوفرة لدينا، فهناك مثلا 70 بناية مدرسية مدمرة ولا تسمح لنا إمكانياتنا المالية بإعادة إعمار ولو قسم منها، وسنلجأ إلى نقل كرفانات كانت مخصصة للنازحين إلى المناطق السكنية لنحولها إلى مدارس، أما فيما يتعلق بإعمار البيوت والمحلات التجارية فهذا من شأن المواطنين أنفسهم أصحاب هذه العقارات والحكومة لا تتحمل دفع أي تعويضات أو إعمار أي بناية خاصة. نحن نبذل حاليًا كل جهودنا من أجل استقرار المدينة وليس إعمار البنى التحتية فيها».
نائب المحافظ يعرف خرائط وأسرار مدينته التي ولد وترعرع فيها، على غرار والديه وأجداده؛ فهو يتحدر من أشهر عشائر غرب العراق، الدليم، والأنبار هي المحافظة التي تتحكم بها العشائر، وأشهرها بعد الدليم، البونمر، البو فهد، البو علوان، البو ذياب، البوعساف، البو مرعي، البو خليفة، البو ريشة، والبو عبيد. كثرة هذه العشائر وسطوة نفوذها «هي التي خلقت الكثير من المشاكل للأنبار عامة وللرمادي، مركز المحافظة، خاصة»، حسب ما يوضح علي فرحان الدليمي الذي يضيف أن «الصراع دائما يدور من أجل المناصب، والمناصب تعني منافع وأموالا وفسادا في الغالب، والمشكلة أن شيوخ العشائر الذين يتعين أن تنحصر مهمتهم بقيادة وإدارة شؤون العشيرة من خلال مضيفة، تحولوا اليوم إلى قادة أحزاب وكتل سياسية وصاروا يتحكمون وعبر نفوذهم بالمشهد والقرار السياسي». ونبه نائب المحافظ إلى أن المشكلة الأكثر تعقيدا تتمثل فيما يقوم به بعض الأثرياء الجدد وشيوخ عشائر بطريقة غير شرعية وتتنافى مع أعراف العشائر عندنا، و«هؤلاء بسبب أموالهم صنعوا لهم نفوذا اجتماعيا ومن ثم أقحموا أنفسهم في العمل السياسي الذي هم أبعد ما يكونون عنه».
لكن الدليمي ذاته ينخرط في ذات الصراع أو الصراعات السياسية، فهو رئيس كتلة التعاون البرلمانية، ومتحالف مع كتلة الإصلاح في مجلس المحافظة، الكتلة التي أقالت محافظ الأنبار، صهيب الراوي، لمرتين. لكن هذا القرار لم ينفذ حتى الآن على الرغم من أن المحكمة الغدارية صادقت على القرار، حسب الدليمي. وهنا المشهد يكون أكثر تعقيدا، فهناك علاقة شائكة بين المحافظ الذي هو من كتلة الحزب الإسلامي، ونائبه من كتلة الإصلاح، وهذه العلاقة خلقت تقاطعات يروح ضحيتها المواطنون الذين لا يحظون بخدمات ولو بسيطة.
يقول الدليمي إن «محافظ الأنبار يقيم في بغداد ولا يزور الأنبار إلا نادرًا، وأنا هنا بلا صلاحيات إدارية كاملة وبلا أموال، وكلما أردنا إنجاز أي خدمات ندخل في أروقة البيروقراطية واللجان التي تتشكل من قبل المحافظ لتقف عائقا أمام جهودنا هنا على أرض الواقع».
«الشرق الأوسط» حاولت لأكثر من مرة الاتصال بمحافظ الأنبار لغرض الوقوف على بعض الحقائق، لكن تلك الاتصالات لم تثمر. وفي «أرض الواقع» أو «الميدان»، حسب وصف الدليمي، وجدنا نائب المحافظ وفريق عمل يرافقه في العمل لتهيئة الأوضاع لإعادة الحياة لمدينة هي الأكبر في عموم الأنبار وتقسيمها الإداري (قضاء)، حيث تضم 18 ناحية وبلدة، وفي مركزها أكثر من 30 حيا سكنيًا وجامعتان (جامعة الأنبار الحكومية، وجامعة المعارف الأهلية)، ومستشفيان، واحد مخصص للولادة والثاني عام.
نهر الفرات يشق المدينة إلى قسمين، الشامي الذي يضم مركز الرمادي وإداراتها، والجزيرة الذي ينفتح على البادية، فهذه المدينة تضم ثلاث بوابات أو مداخل مع أهم الدول العربية المجاورة للعراق، السعودية عبر بوابة عرعر، وسوريا عبر مدخل الوليد، والأردن من خلال معبر طريبيل. ويقول الدليمي «تشكل هذه النقاط أو المداخل الحدودية للرمادي خاصة والعراق عامة مصدرا اقتصاديا مهما، إذ تمر أغلب تجارة العراق من خلال هذه المنافذ، كما يشكل وجود الفوسفات أهم مصدر اقتصادي لأهالي الأنبار عامة بالإضافة إلى نفط بئر عكاز، والغاز الذي لم يتم استثماره بعد». ويشير إلى أن «تنظيم داعش سرق غالبية المصانع والمعامل ومولدات الطاقة الكهربائية ونقلها إلى الرقة» في سوريا.
الموقع الجغرافي المتميز هو الذي أوجد الرمادي على أرض الواقع عندما بناها الوالي العثماني مدحت باشا عام 1866. لكن الاهتمام بها وتطويرها تم على يد البريطانيين عام 1918 بعد احتلالهم العراق عندما اكتشفوها عبر طريق ما كان يسمى بـ(شرق الأردن)، وسرعان ما تحولت إلى ممر مهم للقوافل التجارية ومعبر بارز إلى مدن غرب العراق.
نترك مبنى المحافظة لنرافق المهندس محمد عبيد العيادة، المستشار الفني لنائب المحافظ. نمضي بين أحياء خربة تماما، خالية إلا من القطط والكلاب السائبة، أحياء كانت قبل سيطرة تنظيم داعش على المدينة عام 2014 تضج بالحياة، عوائل بأكملها أبيدت إذا لم تكن قد هاجرت مبكرًا. ويقول العيادة إن «أحياء البكر والأرامل، المضيق، وأطراف حي التاميم الذي يعد من أكبر الأحياء السكنية، والقادسية والإسكان والملعب والجامعة، قد تعرضت لدمار كامل إما بسبب تفجير داعش لبيوت هذه الأحياء بطريقة التفجير المتسلسل أو بسبب قصفها من قبل قوات مكافحة الإرهاب العراقية وطيران التحالف الدولي»، منبهًا إلى أن «مسألة إعادة إعمار هذه الأحياء مستحيلة، ولذا يجب هدمها وتسويتها وإعادة بنائها، وهذا يتطلب الملايين من الدولارات في وقت يمر به العراق بأزمة اقتصادية خانقة».
لم يتبق حجر على حجر في أحياء سكنية كانت توصف بالراقية، أما المباني التجارية فقد دمر أغلبها والصواريخ طالت حتى المساجد، وأبرزها مسجد صدام حسين، أو هكذا كان يسمى كون الرئيس العراقي السابق هو الذي أمر ببنائه، وما زال يحمل ذات الاسم حتى اليوم.
كانت الفلوجة أول مدينة احتلها تنظيم داعش، قبل أن يتسلل مقاتلو التنظيم الإرهابي إلى الرمادي عام 2014 عن طريق الأحياء الجنوبية كونها مفتوحة على البادية، سيطروا أولا على مدينة الملعب التي تضم 8 أحياء سكنية، وبعد عام ونصف العام من القتال تم احتلال كامل المدينة، ثم سيطروا على الجامعة، وتلاها حي التاميم في غرب الرمادي. ويتذكر العيادة: «كنا نعمل في بناية المحافظة وتفصلنا مسافة 300 متر عن مقرات داعش، ثم سيطروا على بناية مديرية تربية الرمادي، هم يتوغلون في الأحياء السكنية، الحي تلو الآخر، وكان من الصعب مقاتلتهم هناك، فقد كانت لهم حواضن، من بين أهالي المدينة وهذا ما سهل عليهم مسألة السيطرة على الأحياء السكنية».
ويعترف الدليمي أن «أعدادًا كبيرة، ربما نصف مقاتلي داعش كانوا من أهالي الرمادي بينهم الأكاديميون والأطباء والمهندسون والموظفون وطلبة الجامعة، وبعضهم تم تضليله أو فهم أن حقوقه مهدورة ويتعين عليه القتال مع داعش، كما شجع المجلس العسكري (مجلس العشائر) على نجاح خطط تنظيم داعش وكان ذلك جزءًا من أسباب سقوط الرمادي، بل الأنبار عامة». وأضاف: «تنظيم داعش نشط في خيام ساحات الاعتصام في الفلوجة والرمادي عام 2013. ومن هناك بدأ بالانتشار، وكثير من المعتصمين لم يكونوا يعلمون بخطط داعش وبينها إسقاط المحافظة».
بعد قتال ما يقرب من عامين تم تحرير الرمادي من سيطرة تنظيم داعش. «تحررت بداية هذا العام بدءا من جنوبها حتى شرقها، بعد قتال شرس خاصة في منطقة الجامعة» يقول الدليمي، مستطردًا «القسم الأكبر من أهالي المدينة نزحوا عنها ومن بقي أما كان على صلة بداعش أو مضطر، خاصة في مدينة الملعب والمناطق الجنوبية من المدينة».
المهندس محمد عبيد العيادة، يعلق قائلاً ونحن نشاهد صور الخراب: «المعروف عن أهالي الأنبار أنهم عنيدون ولا يستسلمون بسهولة وسوف يعيدون بناء بيوتهم إذ لا خيار آخر لهم. هم لا يرضخون لذل المخيمات ومتمسكون بمدينتهم، يساعدهم بذلك أن أوضاعهم المادية جيدة، فبينهم التجار والمستثمرون في جميع أنحاء العراق كما أنهم متكاتفون مع بعضهم ولا يتخلون عن أبناء عشائرهم».
على حافة حي مدمر، نشاهد بارقة أمل حيث يشتغل عمال البناء لإعادة إعمار بيت كان خربًا. كان صاحب الدار يساعد العمال وهو يجيب على سؤالنا حول حجم الخراب الذي كان يعاني منه بيته، فقال: «كان البيت مدمرًا بالكامل تقريبًا، وأنا أول ما عدت مع عائلتي قررت أن أعيد بناءه لأننا عانينا من ذل النزوح وهجرة مدينتنا»، مشيرًا إلى «أننا كنا مقيمين ببيت في حي العامرية ببغداد ولم نذهب إلى المخيمات حفاظًا على كرامتنا وراحة عائلتي. كنا ننتظر بفارغ الصبر تحرير الرمادي والعودة إليها والشروع ببناء بيتنا»، شاكيا من «غياب الخدمات بصورة كاملة تقريبا».
في طريق عودتنا ونحن نقطع الشارع الرئيسي بمركز الرمادي، كنا نراقب إصرار الحياة على العودة لمدينة أكل الخراب 80 في المائة منها. الأسواق بدأت تنتعش مع عودة النازحين، والسيارات تؤثث الشوارع ولو بإيقاع بطيء، لكنه إيقاع بداية مشوار عودة الرمادي لتتصدر المشهد الحياتي في غرب العراق.



طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».