سوق «البرديات» المصرية {مجمع حضارات} في حي الحسين الشعبي

ما زالت تحتفظ بأسرارها وقلة من يجيدون فن الرسم عليها

لوحات البردي ذات الرسوم الفرعونية تومض بأحد المحال بحي الحسين و لوحات تتعانق فيها الأشكال الفرعونية والإسلامية والحضارة اليونانية القديمة
لوحات البردي ذات الرسوم الفرعونية تومض بأحد المحال بحي الحسين و لوحات تتعانق فيها الأشكال الفرعونية والإسلامية والحضارة اليونانية القديمة
TT

سوق «البرديات» المصرية {مجمع حضارات} في حي الحسين الشعبي

لوحات البردي ذات الرسوم الفرعونية تومض بأحد المحال بحي الحسين و لوحات تتعانق فيها الأشكال الفرعونية والإسلامية والحضارة اليونانية القديمة
لوحات البردي ذات الرسوم الفرعونية تومض بأحد المحال بحي الحسين و لوحات تتعانق فيها الأشكال الفرعونية والإسلامية والحضارة اليونانية القديمة

دون عليه المصري القديم تاريخه ووقائع حياته اليومية، كما جعل منه تحفة فنية مزدانة بالرسوم الخلابة والرموز الطبيعية والحضارية المتنوعة. وحتى الآن لا يزال ورق «البردي» يحمل الكثير من أسرار الحضارة الفرعونية ويتهافت عليه السياح الوافدون لمصر، كهدايا وتذكارات تحمل عبق تلك الحضارة.
تقتصر صناعة ورق البردي على عدد محدود من الورش والمصانع في مصر، وكما هو معروف اكتشف المصري القديم نبات البردي منذ بداية الأسر الفرعونية، وعمل على تنمية زراعته، واستخدمه في أغراض شتى، منها صناعة الورق، وكتابة الرسائل والتاريخ، وهو ما عرف بفن «البرديات». ويعتبر حي الحسين الشعبي العريق بالقاهرة أحد الأماكن التي ما زالت تصنع وتباع فيها منتجات «البردي» من خلال تجار ومصنعين ورثوا المهنة عن أجدادهم منذ مئات السنين.
داخل دكان أشبه بقاعة عرض للوحات الفنون التشكيلية، جلس مدحت جمال، أحد تجار البردي بحي الحسين على كرسي خشبي قديم لم يخل هو الآخر من الزخارف والأشكال الهندسية الرائعة يقول جمال: «زراعة نبات البردي حاليا أصبحت عملية نادرة جدا نظرا لقلة الأماكن الصالحة لزراعته، وإن كانت تنشط بكثرة في جنوب الدلتا وفي مناطق معينة في صعيد مصر، وطبقا لروايات أجدادي عنه فقد استخدمه المصريون القدماء في أغراض كثيرة منها تسجيل أحداثهم وعلومهم وآدابهم، بجانب أغراض أخرى كصناعة القوارب الشمسي، والحصير الذي يباع حاليا في السوق».
يتابع جمال: «طورنا كثيرا في صناعة البردي وأصبحنا نصنع منه لوحات فنية رائعة، يرسم عليها أشكال ورموز ولغة وأيقونات الحضارة الفرعونية القديمة. ويوجد إقبال قوي علي شراء تلك اللوحات خاصة من السياح الأجانب والعرب الذين يعتبرونه بمثابة تحفة فنية نادرة». ويلاحظ كل من يمشي في شارع المعز الشهير بحي الحسين انتشار الدكاكين والمحلات والبازارات التي تعرض منتجات «البردي» في شكل لوحات جميلة تحاكي التاريخ المصري القديم، أيضا ثمة إقبال جيد علي شرائها.
ويقول جمال: «لمنتجات البردي خصوصية شديدة في السوق التجارية تنعكس على أسعاره، وذلك نظرا لأن طرق زراعته كنبات نادر تتطلب جهدا كبيرا في نقله أو تصنيعه، كذلك الرسم أو الكتابة عليه تتطلب مجهودا أكبر حتى وإن كانت تجري في ورش خاصة بنا من خلال مجموعة من الحرفيين والفنانين التشكيليين البارعين»، مضيفا: «سعر لوحة البردي يختلف حسب حجمها والرسومات التي عليها ولكن في المجمل تبدأ من 500 جنيه وقد تصل إلى 20 و30 ألف جنيه، وهذا في حالة إذا كانت اللوحة كبيرة نسبيا والتي يشتريها عادة أصحاب البيوت الكبيرة وبعض المؤسسات والشركات الخاصة».
وتعود نشأة أو اكتشاف نبات البردي في الحضارة المصرية القديمة إلى الألف الرابع قبل الميلاد وكان يقتلع من المستنقعات ويربط في حزم ثم ينقلون السيقان إلى المخازن وكانت تستخدم حينها في كثير من الأغراض التي ابتكرها المصري القديم، فاستخدمها في بادئ الأمر في صناعة الحبال التي كانت تساعده في جر الأحجار والصخور الكبيرة، وكذلك في عمليات النحت، ثم استخدمه في صناعة الحصير والسلال والصنادل والمراكب الخفيفة وفي صناعة بعض الأوعية والتي كانت تعتبر وقتها أنواعا فاخرة للملوك والنبلاء، إلى أن تطورت الصناعة بشكل كبير أخيرا لينتج من البردي لوحات فنية برسوم فرعونية ذات مدلول تاريخي، وبعد ذلك شمل نقوشا وآيات قرآنية ورسوما يونانية وقبطية أيضا، حتى أصبحت البريات بمثابة مجمع حضارات.
وكما يقول مدحت علي، وهو تاجر شاب يمتلك دكانا صغير وجذابا: «ما زالت صناعة أوراق البردي تحتفظ بسر مهنة لا يعلمه إلا قليل من سكان القرى التي يزرع فيها النبات، حيث يجري تدويره وتصنيعه في مصانع البردي التي لا يوجد منها كثير على مستوى البلاد، وخلال مراحل تصنيع اللوحة الورقية نبدأ بعد تحديد مقاسها في وضع الألوان عليها، وأصبحت الآن عملية أسهل مما سبق حيث بدأنا في طبع الألوان بـ«الشابلونات»، على عكس بداية عملنا عندما كنا نرسم على البردي بالفرش والألوان.. الأمر الذي كان يستغرق وقتا طويلا للانتهاء من لوحة واحدة، ورغم ذلك فإننا ما زلنا نرسم بالفرش، ولكن كميات قليلة على حسب الطلب».
وأدى دخول فن الرسم والطباعة على أوراق البردي إلى انتعاش سوقها ورواجه بشكل خاص مع عودة الانتعاش لقطاع السياحة بشكل نسبي خلال الأشهر القليلة السابقة، وهو ما يؤكده مدحت قائلا: «لا شك أن السياحة بدأت في العودة من جديد، ونحن كتجار نلاحظ ذلك من خلال عودة الأفواج السياحية سواء العربية أو الأجنبية في التوافد على المكان من جديد».
ويتمنى مدحت أن يستمر الحال كذلك ويعود الأمن حتى تنتعش السوق وتنتعش التجارة التي ضربها الكساد على مدى السنوات الثلاث الماضية.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».