متى يتفاوض الأصوليون؟

من احتفالات إيران.. إلى حرب الحوثي

مسلحون حوثيون تقلهم مركبة عسكرية متجهين إلى مناطق قبلية قرب العاصمة صنعاء (رويترز)
مسلحون حوثيون تقلهم مركبة عسكرية متجهين إلى مناطق قبلية قرب العاصمة صنعاء (رويترز)
TT

متى يتفاوض الأصوليون؟

مسلحون حوثيون تقلهم مركبة عسكرية متجهين إلى مناطق قبلية قرب العاصمة صنعاء (رويترز)
مسلحون حوثيون تقلهم مركبة عسكرية متجهين إلى مناطق قبلية قرب العاصمة صنعاء (رويترز)

تصر الأصوليات المنغلقة على أهدافها ولا تفاوض عليها، هي تفاوض على واقعها متى احتاجت ذلك، ولكن شريطة ألا تخسر أهدافها الرئيسة وشعاراتها ومبادئها الصلبة التي تمثل شرايين الدماء التي تهبها الحياة لدى قواعدها وحلفائها. هذه الفرضية يمكن أن تكون قاعدة تفسر مشاهد وحوادث كثيرة، تربط بين مختلف الأصوليات وحركات التطرف التي تؤمن بعقيدة العداء والبراء، وتنطلق من مرجعية الصراع الأبدي بين ما تراه حقا وما تصمه باطلا. لذا تبدو قيم التفاوض والسلام والتعايش قيمًا ثانوية عند العقل الأصولي، بينما تكون الأولوية فقط للأهداف الآيديولوجية والعقائدية الكبرى التي يؤمن بها، ولا يعني الاتفاق عنده إلا حلاً مرحليا، ولا القبول به إلا مراوغة للحفاظ على التنظيم الذي يحمي الفكرة ويولد منها، لكن الفكرة وغاياتها لا تقبل التنازل ولا التراجع ولا المرونة أو التكيف.
لا مساومة لدى الأصوليات، بمختلف أنواعها، على الأساس الآيديولوجي الذي يمثل أهدافها الكبرى، وفي هذه الحالة يبدو التراجع خروجًا، والتفاوض والحوار مرحلة وليست مبدأ ملزما، بل يكون الاعتدال عيبا يخرج من دائرة التنظيم نفسه ودائرة ولائه إلى أطراف عدائه. وسندلل على ما سبق بمشهدين راهنين هما في اليمن الموقف الحوثي الخارق دائمًا للهدن وللالتزامات مع الشعب والشرعية اليمنية، وفي إيران موقف ملالي طهران وعودته في احتفالات ذكرى ثورة الخميني لنفس شعاراته السابقة ضد الولايات المتحدة والغرب.
اثنتان وسبعون ساعة فقط، استغرقتها الهدنة الخامسة في اليمن، التي دعت إليها الأمم المتحدة والتي بدأت صباح يوم الخميس 20 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وانتهت بنهاية يوم الأحد 23 من الشهر نفسه، لتلحق بسابقاتها. وفشلت معها أهدافها التي حددها إعلان الأمم المتحدة لها يوم الثلاثاء 18 أكتوبر، وكذلك السماح بحركة المساعدات الإنسانية والموظفين الإنسانيين بحرية ودون أية عوائق إلى كل أنحاء اليمن، بالإضافة إلى «التوقف الكامل والشامل لكل العمليات العسكرية» خاصة مع الوضع المأساوي في اليمن، الذي وصفه منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ستيفن أوبرايان في مداخلة أمام مجلس الأمن يوم الاثنين 31 أكتوبر الماضي إن «اليمن على شفا مجاعة». وحث على «وقف هذه الحرب وهذه المعاناة». كذلك أشار المسؤول الأممي إلى أن الصراع في اليمن تسبب في «كارثة» جعلت أكثر من 21 مليون شخص - أي 80 في المائة من اليمنيين - في حاجة إلى المساعدات الإنسانية، ومن هؤلاء أكثر من مليوني شخص يعانون سوء التغذية.
لكن كل هذه المآسي الإنسانية للحرب الحوثية السابعة ضد اليمن، لا تشغل العقل الحوثي الأصولي الذي يصرّ على تحقيق أهدافه، وعلى إنتاج نموذج لدولة «الولي الفقيه» في اليمن من جديد. ولأجل هذا خاض حروبه منذ عام 2003 وحتى الآن، ستة منها ضد عدوها السابق وحليفه الحالي علي عبد الله صالح، وسابعها ضد الثورة اليمنية وخارطة طريقتها وما تمخضت عنه من شرعية لم تقص الحوثيين. بل إن الحوثيين شاركوا في مختلف مراحلها من قاعدتها، أي «المبادرة الخليجية»، إلى مناقشات «الحوار الوطني»، وخروج مسودته التي كانت أكثر تبشيرا من سواها من الانتفاضات العربية التي نجحت عام 2011 إلى لجنة الدستور ومسودته، إلى القرارات الأخرى التي صدرت حلا للمشكلات العتيقة ووفقا لدوافع الصراع. ولكن الحوثي كما انتقد الهدنة لخامس مرة، سبق له نقض التزاماته دائما قبل اندلاع «عاصفة الحزم» كما سنوضح.
* حرب مستمرة
سبقت الهدنة اليمنية الأخيرة التي خرقها سريعا الحوثيون الانقلابيون بعد 72 من إعلانها، هدن أربع سابقة، لم يلتزموا بها كذلك، كان أولها في مايو (أيار) 2015، ولقد انطلقت قبلها بشهر «عملية إعادة الأمل» لإنقاذ وإعادة إعمار اليمن في 21 أبريل (نيسان) 2015. إلا أنها انهارت كذلك بعد فترة قليلة من الوقت لتستعر الحرب وتنشأ هدنة جديدة في يوليو (تموز) 2015 بعد انطلاق «عملية السهم الذهبي» وتحرير عدن بقليل، وانطلاق حوار أممي حول الحل الذي كانت الحكومة الشرعية ودول الحزم العربي رحّبت به الحكومة الشرعية وقوى التحالف العربي. ولكن بعد أن استرد الانقلابيون بعض قوتهم عادوا لسابق عهدهم، واشتعلت الحرب من جديد، واستهدفوا خلالها مسجدًا للمصلّين في تعز، لتنشأ هدنة جديدة في ديسمبر (كانون الأول) 2015. ثم خلال محادثات الكويت في أبريل 2016، وكذلك ما كانت تتم المفاوضات بقبول من الحكومة الشرعية ودول التحالف العربي الداعمة لها، وعبر وساطات عربية أو دولية، أو سعي من مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة ولد الشيخ.
وظف الحوثيون الهُدَن دائما للاستفادة من الدعم الإيراني المستمر عسكريًا، منذ فترة طويلة، ومؤخرًا في 27 أكتوبر الماضي أكدت مصادر أميركية أنه «تم ضبط 5 شحنات للأسلحة محملة بالسفن مبحرة من إيران إلى اليمن»، وهو ما مثل وقودا مستمرا لمواصلة الحرب الحوثية السابعة المشتعلة ضد اليمن شعبًا وشرعية وثورة منذ يونيو (حزيران) 2014 في عمران ودماج، ثم احتلال صنعاء في 22 سبتمبر (أيلول) من نفس العام، قبل إلقاء التهم على شماعة الآخرين. فحرب الحوثيين بدأت مع اليمن ولكنها لا تنتهي عنده، خاصة مع عجز الشرعية الدولية عن معاقبة الانقلابيين رغم نص كثير من قراراته على ذلك، وذكر الحوثي وصالح تحديدًا فيه، ونص أحدها على تطبيق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة عليهما.
* تاريخ من رفض الالتزام
وهنا نذكر من تاريخ رفض الالتزام الحوثي بالاتفاقات والتفاوضات النماذج والأحداث التالية:
1- رفض الالتزام بالمبادرة الخليجية التي وقع عليها صالح والقوى السياسية في 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2011.
2- رفض الالتزام بمخرجات «الحوار الوطني اليمني» الذي استمر بين 18 مارس (آذار) 2013 لمدة عشرة شهور وانتهى في 25 يناير (كانون الثاني) 2014، وانعقد تحت شعار «بالحوار نبني المستقبل» كانت قضيتهم محورا من محاوره الأحد عشر، وضم 10 عناصر منهم.
3- قرار تقسيم الأقاليم الذي صدر في 9 فبراير (شباط) 2014 الذي نص على تسمية أقاليم ستة في إطار الدولة الاتحادية التي جرى الاتفاق عليها في «الحوار الوطني»، ولقد ضم الإقليم الخامس منها صعدة وصنعاء وذمار وعمران وسُمّى إقليم آزال، ولكن تمدداتهم منذ أغسطس (آب) وسبتمبر 2014 ثم في فبراير إلى عدن ضربت كل هذه التوافقات عرض الحائط.
4- اتفاق الشراكة والسلم وقع في 21 سبتمبر 2014، ووقع بروتوكوله الأمني بعده بأسبوع على الأقل، ولم يلتزموا خاصة بمسألة نزع السلاح.
5- التملص من مرجعية القرارات الدولية مثل القرار 2216 ومحاولة تجاوزه بتصوير انقلابهم صراعًا وصدًا لعدوان، رغم أن عدوانهم صنف جرائم حرب في عمران ودماج وصنعاء قبل «عاصفة الحزم» بسبعة شهور على الأقل. ونرى أن الإصرار على الحسم وعلى مرجعية هذه القرارات الدولية كأرضية لأي حل تفاوضي أساس لا بد منه، لكن لا بد من ملاحظة أن التفاوض والسلام والوطن قيم مزاحة وثانوية في العقل الحوثي المصرّ في وثيقته وأدبياته وخطب زعيمه على النموذج السلالي والإمامي المتمثل لـ«الولي الفقيه» الإيراني.
* شعارات إيران وتناقضاتها
لم تختلف احتفالات النظام الإيراني بذكرى انطلاق الثورة الخمينية واقتحام السفارة الأميركية، في الثالث من نوفمبر هذا العام، عن سوابقه، فاليوم ما زال يعرف بيوم «مقاومة الاستكبار العالمي»، وهو ما يتناقض كليًا مع ما كان متوقعًا بعد الاتفاق النووي الذي أبرمه مع «الشيطان الأكبر» الذي كان نظام الملالي يهتف بعدائه في يوليو 2015، وبعد رفع العقوبات الاقتصادية عنه.
كذلك، فهو يتناقض مع ما سبق هذا الاتفاق وتزامن معه من توقيف وتخفيف لغة العداء لأميركا، وقد تم رفع لافتات مناهضتها وعداوتها من مساجد وشوارع طهران، وفق موقع «الحرس الثوري» التابع للمرشد علي خامنئي نفسه في 30 أغسطس 2015. كذلك، صرح الرئيس الإيراني حسن روحاني في سبتمبر من العام ذاته بأن شعار «الموت لأميركا» مجرد شعار يرفعونه، مما يوحي بإمكانية تجميده حينها، لكن رئيس مجلس الخبراء حينها المحافظ صرح ردا عليه بأنه لا تنازل عن هذا الشعار.
كان الواقع يتكيّف مع قوانينه وممكناته، ولكن الأهداف الآيديولوجية هي التي تقوده ولا يمكن التنازل عنها. ففي 2 نوفمبر 2015، وقبل الذكرى السنوية الماضية بيوم واحد، نشرت وكالة الأنباء الإيرانية بيانًا وقع عليه 192 نائبا من أصل 290 ينص على أن «إيران أمة الشهداء ليست مستعدة إطلاقا للتخلي عن شعار (الموت لأميركا) بحجة إبرام الاتفاق النووي». وأن «هذا العداء وإعلان الموت لأميركا أصبحا رمز الجمهورية الإسلامية، وجميع الأمم المناضلة تعتبر جمهورية إيران الإسلامية نموذجا لها في هذا النضال».
لكن هذه المرة كانت هناك تصريحات للمرشد نفسه ولعدد من القادة الدينيين والعسكريين ولحلفاء إيران في كل مكان من جديد، وهو ما يناقض التقاربات الأميركي - الإيراني في كثير من الملفات الشائكة في المنطقة، أو تساهل التدخلية والتوسعية مع سياستها إيران التدخلية بشكل واضح. ولقد عادت إيران من جديد لسابق عهدها، قبل الاتفاق، ولم يفلح الرهان على الانفتاح المجتمعي من ورائه، بل زادت صلابة الآيديولوجية التي لا تعرف التراجع ولا تؤمن بالتفاوض، مردّدة في تظاهراتها الضخمة الخميس الماضي عقيدة «العداء» وتأبيد مبدأ «الصراع»، فالآيديولوجية الأصولية لا يمكن أن تعيش أو تزدهر دون عداء ودون صراع مستمر.
لقد حرص مرشد النظام «الولي الفقيه» علي خامنئي، كما حرص حسين سلامي نائب القائد العام للحرس الثوري، على وصف السفارة التي جرى اقتحامها قبل 37 سنة بـ«وكر التجسس» خلال احتفالات الخميس الماضي. واستقبل خامنئي - حسب صحيفة «كيهان» - آلاف الشبان وطلاب الجامعات منكرا لهم أي قيمة «للتفاوض»، وأنه «لا يمكن أن يكون حلا لأي مشكلة»، مع التأكيد على أن «الحل هو الروح والفكر الثوريان»، مكررا نفس قاموسه القديم من العداء والاتهام المستمر بـ«أن الإدارة الأميركية لم تتوان عن القيام بأي جهد وإجراء رسمي أو غير رسمي ضد الشعب الإيراني لإفشال ثورته الإسلامية».
إنه النظام الأصولي الذي لا يفقد أهدافه بل يصر على تحقيقها. وتبدو السياسة وقيم الحوار والتفاوض والاتفاق عنده، وما يعلنه من قبولها أحيانا، مجرد مرحلة مؤقتة يراوغ بها لكسب المزيد أو تخفيف ضغط أو إنقاذ حليف، ولكن حتى تحين الفرصة لإعلان رفضها من جديد.
هكذا فعل الحوثي مع مختلف ما التزم به. وهكذا قد تصنع إيران متى استطاعت أن تعلن رفضها لما سبق أن التزمت به، وظل كلاهما دون رادع دولي يعطي للالتزام الدولي أو الوطني قيمته الأخلاقية والقانونية والتنفيذية.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».