متى يتفاوض الأصوليون؟

من احتفالات إيران.. إلى حرب الحوثي

مسلحون حوثيون تقلهم مركبة عسكرية متجهين إلى مناطق قبلية قرب العاصمة صنعاء (رويترز)
مسلحون حوثيون تقلهم مركبة عسكرية متجهين إلى مناطق قبلية قرب العاصمة صنعاء (رويترز)
TT

متى يتفاوض الأصوليون؟

مسلحون حوثيون تقلهم مركبة عسكرية متجهين إلى مناطق قبلية قرب العاصمة صنعاء (رويترز)
مسلحون حوثيون تقلهم مركبة عسكرية متجهين إلى مناطق قبلية قرب العاصمة صنعاء (رويترز)

تصر الأصوليات المنغلقة على أهدافها ولا تفاوض عليها، هي تفاوض على واقعها متى احتاجت ذلك، ولكن شريطة ألا تخسر أهدافها الرئيسة وشعاراتها ومبادئها الصلبة التي تمثل شرايين الدماء التي تهبها الحياة لدى قواعدها وحلفائها. هذه الفرضية يمكن أن تكون قاعدة تفسر مشاهد وحوادث كثيرة، تربط بين مختلف الأصوليات وحركات التطرف التي تؤمن بعقيدة العداء والبراء، وتنطلق من مرجعية الصراع الأبدي بين ما تراه حقا وما تصمه باطلا. لذا تبدو قيم التفاوض والسلام والتعايش قيمًا ثانوية عند العقل الأصولي، بينما تكون الأولوية فقط للأهداف الآيديولوجية والعقائدية الكبرى التي يؤمن بها، ولا يعني الاتفاق عنده إلا حلاً مرحليا، ولا القبول به إلا مراوغة للحفاظ على التنظيم الذي يحمي الفكرة ويولد منها، لكن الفكرة وغاياتها لا تقبل التنازل ولا التراجع ولا المرونة أو التكيف.
لا مساومة لدى الأصوليات، بمختلف أنواعها، على الأساس الآيديولوجي الذي يمثل أهدافها الكبرى، وفي هذه الحالة يبدو التراجع خروجًا، والتفاوض والحوار مرحلة وليست مبدأ ملزما، بل يكون الاعتدال عيبا يخرج من دائرة التنظيم نفسه ودائرة ولائه إلى أطراف عدائه. وسندلل على ما سبق بمشهدين راهنين هما في اليمن الموقف الحوثي الخارق دائمًا للهدن وللالتزامات مع الشعب والشرعية اليمنية، وفي إيران موقف ملالي طهران وعودته في احتفالات ذكرى ثورة الخميني لنفس شعاراته السابقة ضد الولايات المتحدة والغرب.
اثنتان وسبعون ساعة فقط، استغرقتها الهدنة الخامسة في اليمن، التي دعت إليها الأمم المتحدة والتي بدأت صباح يوم الخميس 20 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وانتهت بنهاية يوم الأحد 23 من الشهر نفسه، لتلحق بسابقاتها. وفشلت معها أهدافها التي حددها إعلان الأمم المتحدة لها يوم الثلاثاء 18 أكتوبر، وكذلك السماح بحركة المساعدات الإنسانية والموظفين الإنسانيين بحرية ودون أية عوائق إلى كل أنحاء اليمن، بالإضافة إلى «التوقف الكامل والشامل لكل العمليات العسكرية» خاصة مع الوضع المأساوي في اليمن، الذي وصفه منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ستيفن أوبرايان في مداخلة أمام مجلس الأمن يوم الاثنين 31 أكتوبر الماضي إن «اليمن على شفا مجاعة». وحث على «وقف هذه الحرب وهذه المعاناة». كذلك أشار المسؤول الأممي إلى أن الصراع في اليمن تسبب في «كارثة» جعلت أكثر من 21 مليون شخص - أي 80 في المائة من اليمنيين - في حاجة إلى المساعدات الإنسانية، ومن هؤلاء أكثر من مليوني شخص يعانون سوء التغذية.
لكن كل هذه المآسي الإنسانية للحرب الحوثية السابعة ضد اليمن، لا تشغل العقل الحوثي الأصولي الذي يصرّ على تحقيق أهدافه، وعلى إنتاج نموذج لدولة «الولي الفقيه» في اليمن من جديد. ولأجل هذا خاض حروبه منذ عام 2003 وحتى الآن، ستة منها ضد عدوها السابق وحليفه الحالي علي عبد الله صالح، وسابعها ضد الثورة اليمنية وخارطة طريقتها وما تمخضت عنه من شرعية لم تقص الحوثيين. بل إن الحوثيين شاركوا في مختلف مراحلها من قاعدتها، أي «المبادرة الخليجية»، إلى مناقشات «الحوار الوطني»، وخروج مسودته التي كانت أكثر تبشيرا من سواها من الانتفاضات العربية التي نجحت عام 2011 إلى لجنة الدستور ومسودته، إلى القرارات الأخرى التي صدرت حلا للمشكلات العتيقة ووفقا لدوافع الصراع. ولكن الحوثي كما انتقد الهدنة لخامس مرة، سبق له نقض التزاماته دائما قبل اندلاع «عاصفة الحزم» كما سنوضح.
* حرب مستمرة
سبقت الهدنة اليمنية الأخيرة التي خرقها سريعا الحوثيون الانقلابيون بعد 72 من إعلانها، هدن أربع سابقة، لم يلتزموا بها كذلك، كان أولها في مايو (أيار) 2015، ولقد انطلقت قبلها بشهر «عملية إعادة الأمل» لإنقاذ وإعادة إعمار اليمن في 21 أبريل (نيسان) 2015. إلا أنها انهارت كذلك بعد فترة قليلة من الوقت لتستعر الحرب وتنشأ هدنة جديدة في يوليو (تموز) 2015 بعد انطلاق «عملية السهم الذهبي» وتحرير عدن بقليل، وانطلاق حوار أممي حول الحل الذي كانت الحكومة الشرعية ودول الحزم العربي رحّبت به الحكومة الشرعية وقوى التحالف العربي. ولكن بعد أن استرد الانقلابيون بعض قوتهم عادوا لسابق عهدهم، واشتعلت الحرب من جديد، واستهدفوا خلالها مسجدًا للمصلّين في تعز، لتنشأ هدنة جديدة في ديسمبر (كانون الأول) 2015. ثم خلال محادثات الكويت في أبريل 2016، وكذلك ما كانت تتم المفاوضات بقبول من الحكومة الشرعية ودول التحالف العربي الداعمة لها، وعبر وساطات عربية أو دولية، أو سعي من مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة ولد الشيخ.
وظف الحوثيون الهُدَن دائما للاستفادة من الدعم الإيراني المستمر عسكريًا، منذ فترة طويلة، ومؤخرًا في 27 أكتوبر الماضي أكدت مصادر أميركية أنه «تم ضبط 5 شحنات للأسلحة محملة بالسفن مبحرة من إيران إلى اليمن»، وهو ما مثل وقودا مستمرا لمواصلة الحرب الحوثية السابعة المشتعلة ضد اليمن شعبًا وشرعية وثورة منذ يونيو (حزيران) 2014 في عمران ودماج، ثم احتلال صنعاء في 22 سبتمبر (أيلول) من نفس العام، قبل إلقاء التهم على شماعة الآخرين. فحرب الحوثيين بدأت مع اليمن ولكنها لا تنتهي عنده، خاصة مع عجز الشرعية الدولية عن معاقبة الانقلابيين رغم نص كثير من قراراته على ذلك، وذكر الحوثي وصالح تحديدًا فيه، ونص أحدها على تطبيق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة عليهما.
* تاريخ من رفض الالتزام
وهنا نذكر من تاريخ رفض الالتزام الحوثي بالاتفاقات والتفاوضات النماذج والأحداث التالية:
1- رفض الالتزام بالمبادرة الخليجية التي وقع عليها صالح والقوى السياسية في 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2011.
2- رفض الالتزام بمخرجات «الحوار الوطني اليمني» الذي استمر بين 18 مارس (آذار) 2013 لمدة عشرة شهور وانتهى في 25 يناير (كانون الثاني) 2014، وانعقد تحت شعار «بالحوار نبني المستقبل» كانت قضيتهم محورا من محاوره الأحد عشر، وضم 10 عناصر منهم.
3- قرار تقسيم الأقاليم الذي صدر في 9 فبراير (شباط) 2014 الذي نص على تسمية أقاليم ستة في إطار الدولة الاتحادية التي جرى الاتفاق عليها في «الحوار الوطني»، ولقد ضم الإقليم الخامس منها صعدة وصنعاء وذمار وعمران وسُمّى إقليم آزال، ولكن تمدداتهم منذ أغسطس (آب) وسبتمبر 2014 ثم في فبراير إلى عدن ضربت كل هذه التوافقات عرض الحائط.
4- اتفاق الشراكة والسلم وقع في 21 سبتمبر 2014، ووقع بروتوكوله الأمني بعده بأسبوع على الأقل، ولم يلتزموا خاصة بمسألة نزع السلاح.
5- التملص من مرجعية القرارات الدولية مثل القرار 2216 ومحاولة تجاوزه بتصوير انقلابهم صراعًا وصدًا لعدوان، رغم أن عدوانهم صنف جرائم حرب في عمران ودماج وصنعاء قبل «عاصفة الحزم» بسبعة شهور على الأقل. ونرى أن الإصرار على الحسم وعلى مرجعية هذه القرارات الدولية كأرضية لأي حل تفاوضي أساس لا بد منه، لكن لا بد من ملاحظة أن التفاوض والسلام والوطن قيم مزاحة وثانوية في العقل الحوثي المصرّ في وثيقته وأدبياته وخطب زعيمه على النموذج السلالي والإمامي المتمثل لـ«الولي الفقيه» الإيراني.
* شعارات إيران وتناقضاتها
لم تختلف احتفالات النظام الإيراني بذكرى انطلاق الثورة الخمينية واقتحام السفارة الأميركية، في الثالث من نوفمبر هذا العام، عن سوابقه، فاليوم ما زال يعرف بيوم «مقاومة الاستكبار العالمي»، وهو ما يتناقض كليًا مع ما كان متوقعًا بعد الاتفاق النووي الذي أبرمه مع «الشيطان الأكبر» الذي كان نظام الملالي يهتف بعدائه في يوليو 2015، وبعد رفع العقوبات الاقتصادية عنه.
كذلك، فهو يتناقض مع ما سبق هذا الاتفاق وتزامن معه من توقيف وتخفيف لغة العداء لأميركا، وقد تم رفع لافتات مناهضتها وعداوتها من مساجد وشوارع طهران، وفق موقع «الحرس الثوري» التابع للمرشد علي خامنئي نفسه في 30 أغسطس 2015. كذلك، صرح الرئيس الإيراني حسن روحاني في سبتمبر من العام ذاته بأن شعار «الموت لأميركا» مجرد شعار يرفعونه، مما يوحي بإمكانية تجميده حينها، لكن رئيس مجلس الخبراء حينها المحافظ صرح ردا عليه بأنه لا تنازل عن هذا الشعار.
كان الواقع يتكيّف مع قوانينه وممكناته، ولكن الأهداف الآيديولوجية هي التي تقوده ولا يمكن التنازل عنها. ففي 2 نوفمبر 2015، وقبل الذكرى السنوية الماضية بيوم واحد، نشرت وكالة الأنباء الإيرانية بيانًا وقع عليه 192 نائبا من أصل 290 ينص على أن «إيران أمة الشهداء ليست مستعدة إطلاقا للتخلي عن شعار (الموت لأميركا) بحجة إبرام الاتفاق النووي». وأن «هذا العداء وإعلان الموت لأميركا أصبحا رمز الجمهورية الإسلامية، وجميع الأمم المناضلة تعتبر جمهورية إيران الإسلامية نموذجا لها في هذا النضال».
لكن هذه المرة كانت هناك تصريحات للمرشد نفسه ولعدد من القادة الدينيين والعسكريين ولحلفاء إيران في كل مكان من جديد، وهو ما يناقض التقاربات الأميركي - الإيراني في كثير من الملفات الشائكة في المنطقة، أو تساهل التدخلية والتوسعية مع سياستها إيران التدخلية بشكل واضح. ولقد عادت إيران من جديد لسابق عهدها، قبل الاتفاق، ولم يفلح الرهان على الانفتاح المجتمعي من ورائه، بل زادت صلابة الآيديولوجية التي لا تعرف التراجع ولا تؤمن بالتفاوض، مردّدة في تظاهراتها الضخمة الخميس الماضي عقيدة «العداء» وتأبيد مبدأ «الصراع»، فالآيديولوجية الأصولية لا يمكن أن تعيش أو تزدهر دون عداء ودون صراع مستمر.
لقد حرص مرشد النظام «الولي الفقيه» علي خامنئي، كما حرص حسين سلامي نائب القائد العام للحرس الثوري، على وصف السفارة التي جرى اقتحامها قبل 37 سنة بـ«وكر التجسس» خلال احتفالات الخميس الماضي. واستقبل خامنئي - حسب صحيفة «كيهان» - آلاف الشبان وطلاب الجامعات منكرا لهم أي قيمة «للتفاوض»، وأنه «لا يمكن أن يكون حلا لأي مشكلة»، مع التأكيد على أن «الحل هو الروح والفكر الثوريان»، مكررا نفس قاموسه القديم من العداء والاتهام المستمر بـ«أن الإدارة الأميركية لم تتوان عن القيام بأي جهد وإجراء رسمي أو غير رسمي ضد الشعب الإيراني لإفشال ثورته الإسلامية».
إنه النظام الأصولي الذي لا يفقد أهدافه بل يصر على تحقيقها. وتبدو السياسة وقيم الحوار والتفاوض والاتفاق عنده، وما يعلنه من قبولها أحيانا، مجرد مرحلة مؤقتة يراوغ بها لكسب المزيد أو تخفيف ضغط أو إنقاذ حليف، ولكن حتى تحين الفرصة لإعلان رفضها من جديد.
هكذا فعل الحوثي مع مختلف ما التزم به. وهكذا قد تصنع إيران متى استطاعت أن تعلن رفضها لما سبق أن التزمت به، وظل كلاهما دون رادع دولي يعطي للالتزام الدولي أو الوطني قيمته الأخلاقية والقانونية والتنفيذية.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟