من التاريخ : المشاكل السياسية وانتخاب أول رئيس أميركي

جورج واشنطن
جورج واشنطن
TT

من التاريخ : المشاكل السياسية وانتخاب أول رئيس أميركي

جورج واشنطن
جورج واشنطن

ما زلنا حتى الساعة نراقب تبعات الانتخابات الأميركية التي أجريت في وقت سابق من الأسبوع، ومعظمنا يوجه أنظاره نحو مستقبل السياسة الدولية، بينما البعض الآخر يتأمل طريقة الانتخابات ذاتها خاصة فكرة «المجمع الانتخابي» ما بين مؤيد ومعارض لها. وفي حين يتابع كثيرون المظاهرات التي اندلعت في بعض الولايات رفضًا لنتائج الانتخابات يعبّر فريق آخر عبر وسائل التواصل الإعلامي عن رفضه سياسات شخص الرئيس المنتخب أو تأييده له.
اليوم اخترت العودة إلى الوراء متابعًا نتائج هذه الانتخابات لعام 1787، بالتحديد عند اجتماع «لجنة إعداد الدستور الأميركي» في محاولة لتأمل العملية الانتخابية برؤية تاريخية. من أين بدأت؟ وإلى أين توجهت المسيرة الديمقراطية الأميركية؟ بينما ترن في إذني الجُمل الشهيرة خلال مداولات لجنة كتابة الدستور وعلى رأسها كلمات ألكسندر هيلتون، مؤسس تكتل «الفيدراليين» وقائده، ومنها وصفه العامة - ويقصد هنا المواطنين البسطاء - بأنهم «الدابة الكبرى»، وفي المقابل، بينما حذّر إلبريدج جيري، وهو أيضًا من المساهمين بوضع الدستور «من مخاطر الديمقراطية المفرطة». وهذا، في حين تعالت أصوات رافضة لفلسفة وظيفة رئيس الجمهورية من الأساس إذ رأوا فيها «جنين الملكية الفاسدة» خلال هذه الأيام الحاسمة من تاريخ الولايات المتحدة بعد استقلالها بسنوات قليلة.
الحقيقة أن الولايات المتحدة تتمتع بميزتين أساسيتين تفرقانها عن الأغلبية العظمى من الدول: الأولى هي أنها الدولة الوحيدة التي ولدت «ديمقراطية أو شبه ديمقراطية» منذ إعلان استقلال الولايات الثلاث عشرة عن الحكم البريطاني بعد الحرب التي اندلعت عام 1776، والثانية هي كونها الدولة الوحيدة التي ولدت من رحم برلمان معروف باسم «الكونغرس» - أو «المؤتمر» - . ذلك أن معظم الدول تبنى في الأساس على قوة شخص أو شخصيات توحّدها، بعد ذلك تأتي سلطة البرلمان تدريجيًا كحال غالبية الدول، وهي السلطة التي كانت دائمًا غير مطلقة باستثناءات قليلة وقصيرة في التاريخ، لعل أبرزها فترة ما بعد الثورة الإنجليزية قبيل حكم أوليفر كرومويل مباشرة. فلقد أسس «الكونغرس»، أو «المؤتمر القارّي» المكون من ممثلي الولايات الـ13 الأساسية الدولة الأميركية الوليدة، وهو أمر طبيعي بالنظر إلى التركيبة التاريخية الأميركية آنذاك.
في كل الأحوال انتصر الجيش القارّي الأميركي على القوات البريطانية، وبدأ «الكونغرس» يحكم البلاد على المستوى الجماعي بينما ظلت الولايات الثلاث عشرة تتمتع بقدر كبير من الحكم الذاتي داخل ما يشبه «الكونفدرالية» أكثر منه للنظام «الفيدرالي» أو الاتحادي، وذلك على أساس «مواد الكونفدرالية Articles of the Confederation» والتي نظمت السلطة الجماعية للولايات. وحقًا الترجمة الدقيقة في العربية لكلمة State في الإنجليزية هي «دولة» وليس «ولاية»، وعليه، فالاسم الأقرب للصواب للكيان الجديد هو «الدول المتحدة الأميركية».
وبمرور الوقت، صار واضحًا، كما حدث مع ثورة كرومويل على الملك تشارلز الأول، أن البرلمانات وحدها لا تستطيع إدارة الدولة بمفردها. إذ إن الدول والشعوب وطبيعة الحكم غير مؤهلة لذلك، خاصة عندما بدأت تندلع المشاكل الخاصة بترسيم الحدود الأنهار والتجارة البينية بين الولايات وعلاقاتها الخارجية، وهو ما دفع «الكونغرس» الأميركي لإصدار قرار لمراجعة «مواد الكونفدرالية» في عام 1787، وهو ما تقبلته بعض الولايات، خاصة الصغرى، بالشك والريبة، خشية تسلط الولايات الكبيرة على الكيان «الكونفدرالي» الفضفاض وتحويله إلى كيان «فيدرالي» أشد تماسكًا. ومن ثم، عارضت هذه الولايات الصغيرة هذا التوجه تمامًا، قبل مداولات متطاولة أفلحت أخيرًا بتبديد الخوف من تحوّل «الولايات المتحدة» إلى حكم أوتوقراطي بعد التغلب على ذلك من خلال فكرة توافقية صاغها بعض العباقرة وعلى رأسهم المفكر المنعزل والمثقف جيمس ماديسون - أحد واضعي الدستور ورئيس الجمهورية لاحقًا - بعد موائمات نتجت عنها فكرة «الموازنة بين السلطات»، أو «الحدود والتوازنات» المعروفة بالـChecks and Balances في السياسة الأميركية. ذلك أنه ثبت للمشاركين أنه لا يمكن إدارة دولة إلا بوجود سلطة تنفيذية يعتليها شخص مُنتخب، وتتعايش مع سلطتين مستقلتين: برلمانية (ممثلة بـ«الكونغرس») وأخرى قضائية (ممثلة بالمحكمة العليا). إلا أن حدود صلاحيات كل سلطة كانت محل بحث وتمحيص وموائمات لا حصر لها، خاصة فكرة «الرئيس» الذي وجب وضع قيود على سلطاته من قبل «الكونغرس» والعكس صحيح. ومن ثم، تقرر أن يكون لـ«الرئيس» صلاحيات تنفيذية واسعة ولكن من دون الحق في إعلان الحرب أو عقد اتفاق السلام. ومنح «الكونغرس» حق نقض قراراته، بل أيضًا حق العزل في حالة ثبوت اتهامه. أيضًا منح الدستور «الرئيس» حق النقض للقوانين الصادرة عن «الكونغرس»، ولكن للأخير بغالبية ثلثي الأعضاء له الحق في مراجعة نقض «الرئيس».
مع هذا، يرى كثيرون أن «عبقرية» الدستور الأميركي تكمن في سبل معالجته مخاوف الولايات الصغيرة أمام تغوّل سلطات الولايات الأكبر من حيث عدد السكان. وكان أهم عنصرين في هذه المشكلة هو كيفية احتساب تعداد السكان والوزن النسبي لمشاركة الولايات في انتخاب «الرئيس» والتمثيل في «الكونغرس»، وهي مشكلة ممتدة ومعقدة لا تزال تلقي ببعض ظلالها حتى اليوم. إذ استقر الرأي على جعل «الكونغرس» مؤسسة تشريعية من مجلسين هما «مجلس الشيوخ» Senate The و«مجلس النواب» The House of Representatives، يكون الأول على أساس متساوٍ بين الولايات بشيخين لكل منهما ويكون المجلس الأكثر صلاحية، بينما الثاني على أساس نسبي لتعداد سكان كل ولاية وسلطاته أقل بصفة عامة. ومن هنا نشأت فكرة ما عرف فيما بعد بـ«المجمع الانتخابي» Electoral college في انتخابات الرئاسة، وهو ما حسم في بعض الانتخابات النتيجة على أساس الأصوات الانتخابية كل ولاية على حدة وليس مجموع الأصوات الشعبية كما حدث في انتخابات عام 2000، وأيضًا، الانتخابات الأخيرة قبل أيام.
واقع الأمر أن بعض القادة كان يأمل في أن تكون انتخابات الرئاسة مبنية على انتخابات ديمقراطية مفتوحة لكل مواطن صوت واحد يُنتخب بعدها «الرئيس» بالأغلبية المطلقة، إلا أن مداولات «لجنة إعداد الدستور» وُجدت مشاكل كثيرة مرتبطة بهذه الفكرة على رأسها صعوبة السيطرة على العملية الانتخابية، لا سيما، في ظل بدائية الوسائل التي كانت متاحة في ذلك الوقت، إضافة إلى ارتباط مشكلة تعداد الولايات بوجود طبقة العبيد الذين لا يحقّ لهم الانتخاب بطبيعة الحال. لكن الولايات الجنوبية كانت تريد استغلال هذا الأمر لتوسيع قاعدة تمثيلها، ومن ثم تم الاتفاق على أن يُحتسب تعداد العبيد بثلاثة أخماس فقط، وعلى هذه الأسس تقرر انتخاب «المجمع الانتخابي» المكون من مُنتخبين Electors عن كل ولاية وفقًا لتعدادها على أساس حجم تمثيلها في مجلسي «الكونغرس» وتكون مسؤوليتهم أن يعكسوا الهوى الانتخابي للدوائر التي يمثلونها، على ألا يكون هؤلاء المُنتخبون من حملة الوظائف العامة، ويكون لهذه الجماعة حق انتخاب أول رئيس للجمهورية.
عُقد «المجمع الانتخابي» جلسته في مارس (آذار) 1789 لانتخاب أول رئيس للجمهورية الأميركية ونائبه على أساس أن يحصل صاحب أكبر الأصوات من المرشحين على منصب الرئيس بينما الحاصل على ثاني أكبر عدد من الأصوات يؤول له منصب نائب الرئيس، وهو ما يختلف عن مسيرة الانتخابات الحالية التي يدخل فيها الرئيس ونائبه سباق الرئاسة في قائمة واحدة. وجاءت نتائج انتخابات «المجمع الانتخابي» لصالح جورج واشنطن (من ولاية فيرجينيا في الجنوب)، قائد الجيش القارّي الأميركي إبان حرب الاستقلال، حاصلاً على 99 صوتًا - أي بإجماع «المجمع» - فبات أول رئيسًا للولايات المتحدة، كما بات كان أول وآخر رئيس يصار إلى انتخابه بالإجماع في تاريخ الولايات المتحدة. ويومذاك احتل أحد كتبة الدستور المحامي جون آدامز (من ولاية ماساتشوستس في شمال البلاد) في المركز الثاني بـ34 صوتًا، فأعلن أول نائب لرئيس الجمهورية. وأقسم الرئيس واشنطن اليمين الدستورية على نفس النحو الذي يقسمه الرؤساء الأميركيون اليوم وتولى المسؤولية على رأس فريق ضم وزير خارجية ووزير مالية ومحاميا عاما، وهو ما اعتبره البعض أول «مجلس وزراء»، إذ ما كانت قد استحدثت بعد الوزارات والمؤسّسات الأخرى التي نعرف اليوم مثل مجلس الأمن القومي أو وكالة الاستخبارات المركزية وغيرها.
وفيما بعد، جرى إدخال الكثير من التعديلات على الدستور والعملية الانتخابية لعل أهمها كما هو إلغاء الدور العملي للمُنتخبين Electors في «المجمع الانتخابي» لمعظم الولايات وإبدال الغالبية البسيطة لكل ولاية به تترجم إلى نقاط يحصل عليها المرشح الفائز وفقًا لتعداد كل الولاية كما هو ممثل في الكونغرس، والملاحظ أن أول تعديل لقواعد الانتخابات جاء في انتخابات عام 1800 عندما ترشّح توماس جيفرسون، وزير الخارجية في فريق واشنطن وأحد ألمع واضعي الدستور، للمنصب مع آرون بُر كنائب للرئيس، فحصل الاثنان على 73 صوتًا لكليهما مقابل 65 لنائب الرئيس جون آدامز، وهو ما اضطر الكونغرس للتصويت 35 مرة في أسبوع حتى تم انتخاب جيفرسون في أعقاب بعد تدخل مباشر من ألكسندر هاملتون، وزير المالية الذي انشق عن معسكر آدامز، لصالح جيفرسون. ولاحقًا اشتدت العداوة بينه بين بُر (الذي انتخب نائبا للرئيس)، انتهت بمبارزة قُتل فيها هاملتون بيد بُر، ومن بعدها أضطر الكونغرس لتغيير أساليب الاقتراع على نائب الرئيس فكانت هذه بداية لسلسلة من التعديلات إلى وصلت العملية الانتخابية إلى ما وصلت إليه اليوم، غير أن الأساس ظل في مجمله على ما صيغ منذ قرنين ونصف القرن من الزمان.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.