ترامب .. أمام الحقيقة

صار «الرئيس الأميركي المنتخب»... على الرغم من كل شيء

ترامب .. أمام الحقيقة
TT

ترامب .. أمام الحقيقة

ترامب .. أمام الحقيقة

لا يحتاج الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى صحافيين أو كتاب ليؤلفوا عنه كتبا فيها سيرة حياته. ذلك لأنه ألف هو شخصيًا - وأحيانًا بمساعدة آخرين - أكثر من خمسة عشر كتابًا، خلال حياته العملية التي بدأت قبل خمسين سنة تقريبًا في أعقاب إنهائه تعليمه الجامعي. ومن هذه الكتب - السير الذاتية: «فن الصفقات (التجارية)» و«فن العودة (بعد إفلاس)» و«فن النجاح» و«كيف تصير غنيًا» و«كيف تفكر مثل مليونير» و«لماذا نريد أن نكون أغنياء» و«لمسة ميداس: من يغتني ومن لا يغتني». وفي صيف العام الماضي، أصدر، كعادة المرشحين لرئاسة الجمهورية، كتابًا ليساعده في حملته الانتخابية اختار له عنوان «أميركا المقعدة، كيف نعالجها؟»، ثم أصدر في صيف هذا العام كتاب «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى»، وجعله شعار حملته الانتخابية.
وفق ما يذكره كتاب «عائلة ترامب: ثلاثة أجيال بنت إمبراطورية» كتبت الصحافية غويندا بلير أن جد الرئيس الأميركي دونالد ترامب لوالده (أي والد والده) هاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية من ألمانيا. ويعود أصل اسم «ترامب» إلى «درامبف»، ووفق الكتاب فإن هذه العائلة عريقة في ألمانيا اشتهرت بزراعة العنب وصناعة النبيذ.
وفي عام 1885، هاجر الجد فريدريتش درامبف من ألمانيا إلى أميركا. وكما فعل ابنه من بعده، ثم سار على نهجه حفيده، امتهن فريدريتش درامبف الاستثمار في مجالات الفنادق والمطاعم. ثم ذهب إلى الساحل الغربي للبلاد ليلحق ببقايا ما يسمى بـ«الغزو الذهبي». وفي الصيف الماضي، عندما ترشح دونالد ترامب لرئاسة الجمهورية، ذكرت شبكة تلفزيون «سي بي سي» في كندا، أن الجد درامبف تنقل على طول الساحل الغربي لكندا والولايات المتحدة، وكان يملك «مطاعم وفنادق وملاهي ومواخير.. ومنازل دعارة» أيضًا.
وفي عام 1895، بعد عشر سنوات في «الدنيا الجديدة» نال الجد الجنسية الأميركية، بعدما غيّر اسمه من «فريدريتش درامبف» إلى «فريدريك ترامب». إلا أن الجد، مثل ابنه وحفيده، أثار مشكلات مثيرة. أولا: بسبب الفساد الذي شاب استثماراته، وثانيًا: بسبب سلوكه الشخصي، لا سيما مطاردة النساء والتحرّش بهن. وثالثا: بسبب إدارته ملاهي ومنازل دعارة.
* إفلاس الجدّ الألماني
في عام 1902، أفلس الجد فريدريتش (فريديريك) وعاد إلى ألمانيا، حيث تزوّج من امرأة ألمانية. إلا أن الوقت لم يطل قبل أن تعتقله السلطات الحكومية الألمانية بتهمة التهرب من الخدمة العسكرية (قبل ذلك بعشرين سنة تقريبا)، وحكمت عليه بالسجن لخمس سنوات، قبل أن تطلق سراحه في وقت لاحق على إثر تدخل السفارة الأميركية في برلين، وتم تطرده من ألمانيا.
ولدى عودة فريديك ترامب إلى نيويورك مع زوجته، معدمًا ومفلسًا، عمل حلاقًا، لكنه، في أواخر سنوات عمره عاد إلى العمل في قطاع الفنادق والمطاعم. وترك عندما توفي عام 1918، فندقًا صغيرًا يحمل اسمه هو «فندق ترامب». وتولى ابنه فريدريك ترامب «الابن» (والد الرئيس المنتخب) إدارته.
ذلك الفندق الصغير صار بداية «إمبراطورية عائلة ترامب»، إذ أصاب فريديريك «الابن» نجاحًا كبيرًا، وعندما توفي ترك وراءه ثروة ضخمة بلغت قيمتها قرابة 300 مليون دولار أميركي. ولهذا السبب، نشأ دونالد ترامب - المولود عام 1946 - نشأة منعّمة شبه أرستقراطية. وتلقى تعليمه في مدارس خاصة، ولاحقًا في جامعة خاصة تعد من أرقى جامعات أميركا وأعرقها هي جامعة بنسلفانيا، التي التقى بـ«مدرسة وارتون للتمويل» فيها، وهي أعرق وإحدى أشهر مدارس إدارة الأعمال في أميركا والعالم. ومع هذا، يصف زملاء الدراسة ترامب بأنه كان طالبًا مشاكسًا مناكفًا، وحتى والده قال ذلك، حسب كتاب «عائلة ترامب».
في نهاية ستينات القرن الماضي، عندما جاء وقت التجنيد الإجباري لحرب فيتنام، وكان عمر دونالد ترامب 22 سنة، فإنه تهرّب من التجنيد.
مع العلم أنه أنكر ذلك إبان الحملة الانتخابية الأخيرة، عندما طاردته أسئلة صحافيين. وكرّر الإجابة بالقول إنه حصل على «استثناء قانوني»، مرددًا: «لم أخرق أي قانون». وهو الرد نفسه الذي كان يردده لدى سؤاله عن تهمة تهربه من دفع ضرائب قرابة 20 سنة. وهنا، أضاف أنه فقط استغل ثغرات في قانون الضرائب. وأردف مفاخرًا أنه «ذكي» في فعل ذلك.
* عالم الاستثمارات
في عام 1982، ظهر دونالد ترامب على غلاف مجلة «تايم» المرموقة، بعدما اشتهر بفضل نجاحاته الاستثمارية والتجارية. وكان قد اشترى فندق «كومودور» العريق في نيويورك، وحوله إلى فندق «غراند حياة»، الذي يعد أحد أهم فنادق نيويورك حتى اليوم.
ثم في عام 1988، اشترى «كازينو تاج محل» في منتجع أتلانتيك سيتي بولاية نيوجيرسي، الشهير بكازينوهات القمار. وفي عام 2001، شيّد «مركز ترامب العالمي» (بالقرب من برجي «مركز التجارة العالمي») اللذين دمرتهما الهجمات الإرهابية يوم 11 سبتمبر (أيلول) من ذلك العام، إلا أن مركز ترامب لم يصب بأذى في ذلك.
وفي العام الماضي قدّرت مجلة «فوربس»، المتخصصة في قطاع المال والأعمال، ثروة ترامب بنحو ثمانية مليارات دولار، إلا أن ترامب انتقد المجلة أثناء حملته الانتخابية، وتباهى أن حجم ثروته يربو على عشرة مليارات دولار. حسب صحيفة «بوسطن غلوب»، وهي من الصحف الأميركية المحترمة.
وتحمل اليوم 515 شركة ومؤسسة وموقعا ومبنى ومنتجا اسم «ترامب»، ويملكها دونالد ترامب، منها: «ماء ترامب» و«سيارات ترامب» و«مقررات ترامب التعليمية» و«أطعمة ترامب» و«مراتب ومخدات وملاءات ترامب». وفي المقابل، يظل بعض الناس يتذكرون حتى الاستثمارات التي فشلت، وأبرزها: «خطوط طيران ترامب» و«يخوت ترامب» و«لحوم ستيك ترامب» و«جامعة ترامب» و«لعبة ترامب» (وفيها يقلده اللاعبون في شركاته واستثماراته).
* استثماراته «الشعبية»
من ناحية أخرى، في ذكاء واضح، اتجه ترامب نحو «الاستثمارات الشعبية»، مثل إقدامه في قطاع الرياضة على شراء نادي فريق «نيو جيرسي جنرالز» (الجنرالات) لكرة القدم الأميركية، ونادي «دونبيرغ» للغولف في آيرلندا، وفندق وملعب للغولف تيرنبيري في اسكوتلندا.
وفي مجال الفن، انخرط في الاستثمار بشركات منافسات ملكة جمال الولايات المتحدة، ومنافسات ملكة جمال العالم، ومنافسات ملكة جمال مراهقات الولايات المتحدة. كذلك ظهر بأدوار عابرة صغيرة في أفلام سينمائية مثل: «هوم ألون» Home Alone (وحيدا في المنزل). وكانت بعض مناظر الفيلم صورت في فندق «ترامب» بمدينة نيويورك، وقدم في مجال التلفزيون مسلسلات مثل «إبرينتيس» (المتدرّب) الذي كان يدرب فيه الشباب والشابات على فنون الاستثمار.
* المبرّة.. الإشكالية
ووسط كل ذلك، لم ينس تلميع صورته الإنسانية، فبادر إلى دعم أعمال الخير عبر مبرّة «مؤسسة ترامب الخيرية». ولكن هذه «المؤسسة» كانت لها طبيعة شبه تجارية، وذلك لأنه يجمع تبرّعات من آخرين، ثم يوزّعها باسمه (مع التربح منها) حسب مراقبين. وهنا يزعم كتاب «ترامب مكشوفًا» أن نشاطات «مؤسسة ترامب الخيرية» شابتها سلسلة مخالفات مالية وقانونية، منها: مخالفة قانون الضرائب، ومجاملات لمعارف وأصدقاء، والنكث بتعهدات بتقديم تبرعات بعد قطعها. وبالفعل، أمر المدعي العام لولاية نيويورك، قبل يوم التصويت في الانتخابات الرئاسية بشهر، بتجميد نشاط المؤسسة في الولاية «إلى أن تكشف التحقيقات حقيقة ما كان يجري فيها».
* ترامب.. النساء
إبان الحملة الانتخابية أيضًا وضعت علامات استفهام كبيرة حول أخلاق ترامب الشخصية وتعففه، وأثير غير مرة موضوع تورّط ترامب، مثل والده وجده من قبل، في علاقات غرامية ومطاردات للنساء، ومعاكساتهن. ومعلوم أنه تزوّج ثلاث مرات:
- في عام 1977، تزوّج إيفانا زيلنيتسكوفا وهي عارضة أزياء هاجرت من تشيكوسلوفاكيا.
- في عام 1990، تزوّج مارلا مايبلز، وهي ممثلة أميركية، بعدما حملت منه وولدت بنتًا، قبل طلاقه إيفانا.
- في عام 2005، تزوّج ميلانيا كناوس، وهي عارضة أزياء هاجرت من سلوفينيا، بعدما حملت منه، قبل طلاقه ماريا.
وعلى لسان ترامب، فإنه يقرّ في كتاب مذكراته «فن العودة» (بعدما كادت إمبراطوريته تنهار) أنه يحب النساء أكثر من حب أي شيء آخر.
وهو يتباهى بكثرة زوجاته وعشيقاته. بل إنه كشف عن أنه حاول ذات مرة أن يصادق الأميرة البريطانية الراحلة ديانا بعد طلاقها من ولي العهد الأمير تشارلز، بيد أن ديانا رفضته.
وفي سياق رواية كتاب «ترامب مكشوفًا» قصة طلاق ترامب من زوجته الأولى إيفانا، يقول إنه عندما اكتشفت إيفانا أن زوجها يخونها، اتصلت بالصحافية ليز سميث، وهي كاتبة عمود شائعات وأخبار خاصة في صحيفة «نيويورك بوست»، واتفقت المرأتان على نشر الخبر عندما كان ترامب يزور اليابان. وظهر الخبر تحت عنوان «خرسانة تصب فوق حب ترامب» (في إشارة إلى عمل ترامب في مجالا العقارات والمباني والإنشاءات). ثم عندما عاد من اليابان، قال للصحافية ما لم تقله لها إيفانا، ومنها أنه طلّقها لأنها «لم تعد جميلة»، وأضاف: «لقد أجرت عمليات تجميل عدة، لكنها ظلت دميمة».
* ترامب.. والدين
على صعيد آخر، فيما يتصّل بالدين، يصف دونالد ترامب «هويته» الدينية ومدى التزامه بها في كتاب مذكراته «فن الصفقات» بأنه «مسيحي قوي، لكنني لست متدينًا»، وفي وقت لاحق نفى وجود خلفية يهودية عند عائلته الألمانية. كذلك نفى وجود خلفية نازية، رغم تكرار الأسئلة له من صحافيين وغيرهم، وشائعات نقلتها مواقع التواصل الاجتماعي عن ميول نازية عنده، وعند والده وجده من قبله. وفي هذا الصدد قال إن ابنته إيفانكا (أمها إيفانا) اعتنقت اليهودية عندما تزوّجت يهوديًا، متابعًا: «جدودي ما كانوا يهودًا، لكن أحفادي يهود».
وقبل يوم التصويت بأسبوع، نشرت صحيفة «واشنطن بوست» تقريرا عن علاقة ترامب باليهود، جاء فيه أن وثائق اتصالات وخطابات داخلية في حملة ترامب كشفت عن «تصريحات وتصرفات معادية للسامية».
وفي بداية العام الحالي، دخل ترامب في مناكفة مع البابا فرانسيس، بابا الفاتيكان. إذ قال البابا خلال زيارته للمكسيك تعليقًا على دعوة ترامب لبناء جدار فاصل على الحدود مع المكسيك: «ليس مسيحيا من يدعو إلى بناء جدران تفرّق بين الناس. بل يدعو المسيحي الحقيقي إلى بناء جسور تربط بين الناس». وسارع ترامب، وغرّد تغريدتين متتابعتين في موقع «تويتر» كتب في الأولى: «أرى هذا التصريح مؤسفًا، خصوصا من راعي الكنيسة الكاثوليكية». وفي الثانية: «عندما يهجم مقاتلو (داعش) على الفاتيكان، سيحتاج الفاتيكان إلى دعم أميركي».
وختامًا، ينقل كتاب «ترامب مكشوفا» الآتي عن رأي ترامب في الدين: «أعتقد أن الدين شيء عظيم. وأعتقد أن ديني دين عظيم»، و«أحاول أن أصحح نفسي عندما أخطئ، ولكنني لا أبتهل إلى الله هنا»، «أفرق بين طقوس العبادة والسلوك الذي يدعو له الدين».
* الإسلام و«الإسلاموفوبيا»
أخيرًا، مع بداية حملة ترامب الانتخابية في العام الماضي، ركز الرئيس المنتخب - كما أصبح اليوم - على تخويف الأميركيين من الإسلام والمسلمين، وصارت هذه حلقة مفرغة.. فكلما يزيد التخويف، يزيد خوف الأميركيين، ثم يزيد هو التخويف.
في ذلك الوقت، في استطلاع مشترك لتلفزيون «سي بي إس» وصحيفة «نيويورك تايمز»، قالت نسبة 80 في المائة من الأميركيين إنهم يتوقعون مزيدا من الهجمات الإرهابية قريبًا، وكانت هذه النسبة أعلى من نسبة الذين قالوا ذلك بعد هجمات 11 سبتمبر عام 2001، ولهذا، أكد الاستطلاع وجود علاقة بين الخوف من الإرهاب وزيادة شعبية ترامب. ومن ثم، قال نحو 40 في المائة من الأميركيين إنهم «متأكدون جدًا» من أن ترامب سيكون أفضل رئيس يواجه الإرهاب.
في ذلك الوقت، في استطلاع وكالة «بلومبيرغ» الصحافية، قالت نسبة 60 في المائة من الجمهوريين إنهم «يؤيدون» دعوة ترامب لمنع دخول المسلمين الولايات المتحدة، ونسبة 20 في المائة، إنهم «ربما يؤيدون ذلك». وبالتالي، غدا واضحًا أن كل الجمهوريين تقريبا يؤيدون منع دخول المسلمين، ولم تتغير النسبة كثيرا منذ ذلك الوقت.
أيضًا، مع اشتداد هجوم ترامب على المسلمين، أوضح استطلاع أجراه معهد «بروكينغز» في واشنطن، أن نسبة 37 في المائة فقط من الأميركيين ينظرون اليوم إلى الإسلام نظرة «إيجابية» (قالت نسبة 61 في المائة «سلبية»)، مع أنه قبل خمس سنوات، كانت نسبة «إيجابية» أعلى بعشر نقاط (47 في المائة).



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.