«إعصار ترامب»: القلق والخسائر يسيطران على أسواق العالم.. عدا موسكو

أسعار الذهب تقفز والدولار يتراجع والنفط يتجاوز الكبوة

حالة الأسواق العالمية بعد إعلان النتيجة (بلومبيرغ)
حالة الأسواق العالمية بعد إعلان النتيجة (بلومبيرغ)
TT

«إعصار ترامب»: القلق والخسائر يسيطران على أسواق العالم.. عدا موسكو

حالة الأسواق العالمية بعد إعلان النتيجة (بلومبيرغ)
حالة الأسواق العالمية بعد إعلان النتيجة (بلومبيرغ)

كأثر العاصفة، ومع الإعلان أمس رسميا عن فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب في منافسات الانتخابات الأميركية، في الساعات الأولى من الصباح، شهدت الأسواق العالمية موجة واسعة من الخسائر، وتزايدت حدة القلق العالمي مع اتجاه واسع لشراء الذهب؛ ما قفز بأسعاره بنسبة كبيرة، فيما تراجع الدولار أمام سلة العملات، بينما نجح النفط في عكس خسائره الصباحية والاتجاه إلى الصعود مجددا مع نهاية اليوم.
ويرى أغلب المحللين والمراقبين، أن فوز ترامب «المفاجئ» سيسفر عن اضطرابات واسعة في أسواق المال حول العالم، ربما تصل إلى حد «الفوضى الاقتصادية العارمة»، خصوصا أن هذا الوضع يشبه كثيرا «في غرابته» ما أحدثه قرار الناخبين البريطانيين «غير المتوقع» بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء الشهير الذي جرى في نهاية يونيو (حزيران) الماضي، الذي لا تزال أصداؤه تتردد في الأسواق والاقتصادات العالمية حتى اليوم.
- موسكو تربح.. «على أمل»
وكان من اللافت تسجيل أسواق المال الروسية أمس ارتفاعات عقب الإعلان عن فوز ترامب، على عكس أغلب البورصات العالمية، خصوصا بعد إعراب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن أمله في «العمل المشترك لإخراج العلاقات الأميركية - الروسية من حالتها الصعبة»، بحسب بيانه لتهنئة ترامب، مؤكدا أن «إقامة حوار بناء سيكون في مصلحة البلدين والمجتمع الدولي». وبعد انخفاض أولي طفيف، عوضت أسواق المال الروسية خسائرها بسرعة لتتجه إلى الارتفاع، حيث ارتفع مؤشر بورصة «آر تي إس» المسعرة بالدولار بنسبة 1.17 في المائة نحو الساعة التاسعة بتوقيت غرينتش، كما ارتفع مؤشر «ميسيكس» المسعر بالروبل بنسبة 1.02 في المائة. أما الروبل، فقد استقر سعره مقابل العملة الأميركية عند مستوى 68.86 للدولار الواحد، لكنه سجل تراجعا طفيفا مقابل اليورو الذي بات يعادل 70.93 روبلا.
وقال كبير الاقتصاديين في مصرف «رينيسانس كابيتال» لوكالة الصحافة الفرنسية إن «روسيا يمكن أن تكون السوق الناشئة التي ستجني أكبر فائدة من فوز ترامب، مع الأمل في إمكانية أن يخفف العقوبات المفروضة على روسيا خلال العام المقبل».
- القلق يعزز الذهب
لكن على عكس الوضع الروسي، تراجعت أغلب مؤشرات الأسواق العالمية خلال تعاملات الأمس، حتى قبل الإعلان رسميا عن فوز ترامب، وبمجرد اقترابه من حسم السباق الرئاسي لصالحه، كما هبطت أسعار النفط بشكل حاد؛ الأمر الذي دفع المستثمرين إلى الإقبال على الذهب.
وسجلت أسعار الذهب ارتفاعا كبيرا خلال تعاملات الأربعاء، بعد أن لجأ المستثمرون إلى المعدن الأصفر بصفته ملاذا آمنا بعد فوز ترامب. وقفز الذهب نحو 5 في المائة، لكن المكاسب تقلصت بعد ذلك لينزل الذهب دون 1300 دولار للأوقية (الأونصة) مع استقرار الأسواق الأوسع نطاقا بعد خطاب النصر المعتدل الذي ألقاه ترامب، لكن المعدن الأصفر ظل مرتفعا بنسبة 2 في المائة، متجها نحو تحقيق أعلى ارتفاع في يوم واحد منذ قرار بريطانيا بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي في يونيو. وارتفع الذهب في المعاملات الفورية لأعلى مستوى في ستة أسابيع إلى 1337.40 دولار للأوقية، بزيادة 5 في المائة تقريبا، وبلغ 1300.80 دولار للأوقية بحلول الساعة 0930 بتوقيت غرينتش.وجرى تداول الذهب في العقود الأميركية الآجلة تسليم ديسمبر (كانون الأول) على ارتفاع بمقدار 26.90 دولار للأوقية، ليصل إلى 1301.40 دولار للأوقية، بعدما وصل لأعلى مستوى خلال الجلسة أمس عند 1338.30 دولار للأوقية. ومن بين المعادن النفيسة الأخرى، ارتفعت الفضة إلى 18.65 دولار للأوقية، بزيادة 1.6 في المائة، بعد وصولها لأعلى مستوى منذ الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) عند 18.996 دولار للأوقية. وزاد البلاتين بنسبة 0.1 في المائة، ليصل إلى 1003.31 دولار للأوقية، في حين صعد البلاديوم بنسبة 0.1 في المائة إلى 663.40 دولار للأوقية.
- الدولار يفقد 2 %
فقد الدولار الأميركي نحو 2 في المائة من قيمته أمام سلة من العملات الرئيسية خلال تعاملات أمس، في أعقاب الإعلان عن فوز ترامب.
وفي التعاملات الصباحية، ارتفع اليورو أمام الدولار بنسبة 1.58 في المائة، ليعادل 1.1200 دولار، وهو أعلى مستوى للعملة الأوروبية أمام الدولار منذ 8 سبتمبر (أيلول) الماضي، كما خسرت العملة الخضراء 2.66 في المائة من قيمتها أمام الين الياباني، لتعادل 102.35 ين، وارتفع الجنيه الإسترليني أمام الدولار بنسبة 0.7 في المائة ليعادل 1.2471 دولار. لكن تقارير لاحقة أشارت إلى تفاقم خسائر الدولار، وبلوغها حاجز 2 في المائة أمام سلة العملات الرئيسية. وكان ذلك حتى وقت متأخر أمس, ثم بدأ الدولار بالتعافي.
- النفط يصلح من أوضاعه
وبعد بداية شهدت تراجعات حادة في أسعار النفط الخام، خصوصا خلال التعاملات الآسيوية، حسّن النفط من أوضاعه مع انتصاف اليوم. وصباحا، هوت العقود الآجلة لخام غرب تكساس المتوسط بنسبة 4 في المائة لتسجل 43.07 دولار للبرميل، كما تراجعت العقود الآجلة لمزيج برنت بما يوازي 2.43 في المائة لتصل إلى مستوى 44.92 دولار للبرميل. لكن النفط تمكن من تعويض خسائره الأولية، إذ صعد بنسبة نحو 4 في المائة، ليجري تداوله فوق 46 دولارًا للبرميل. وزاد خام القياسي العالمي برنت في العقود الآجلة سبعة سنتات، إلى 46.11 دولار للبرميل، بعد تراجعه إلى أدنى مستوى منذ 11 أغسطس (آب) الماضي، وزاد الخام الأميركي سنتًا واحدًا، ليصل إلى 44.99 دولار للبرميل.
وقال محللون إن فوز ترامب ربما يكون له بعض النتائج الداعمة لأسعار النفط، مفسرين ذلك بأن أحد الأسباب أن الرئيس الأميركي الجديد انتقد اتفاق الغرب مع إيران بشأن برنامجها النووي، والذي سمح بدوره لطهران بزيادة صادرات النفط الخام بشكل حاد في العام الحالي.. لكن هناك أيضا من المحللين من يرى أن النفط ربما يعاني أكثر مع «حقبة ترامب»، خصوصا في ظل إعلانه المتكرر خلال حملته عن تعهده بفتح جميع الأراضي والمياه الاتحادية أمام أنشطة التنقيب عن النفط والغاز.
وجاء تحسن النفط أمس رغم ظهور عامل ضغط جديد، حيث أظهر تقرير لمعهد البترول الأميركي أن مخزونات الخام الأميركية زادت بمقدار 4.4 مليون برميل في الأسبوع الماضي؛ مما أثر على أسعار النفط، ويزيد هذا على توقع المحللين لزيادة 1.3 مليون برميل.
- يوم سيئ لاقتصاد العالم
بعد سويعات من إعلان فوز ترامب، قال عضو مجلس حكام البنك المركزي الأوروبي أيوالد نووتني إن فوزه المفاجئ بالرئاسة الأميركية «ليس يوما جيدا للاقتصاد العالمي».
وصرح للصحافيين في فيينا بأن المركزي الأوروبي «مستعد للتدخل»، محذرا من «مشاعر واسعة بانعدام الأمن» بعد أن تسببت نتيجة الانتخابات الأميركية في «صدمة» بالأسواق العالمية. مضيفا أن «المراقبة الشديدة ضرورية في الوقت الحالي». ونووتني عضو في مجلس حكام البنك المخول اتخاذ قرارات السياسة النقدية، كما أنه محافظ البنك المركزي النمساوي. وأكد أن انتعاش أوروبا الاقتصادي يمكن أن يتأثر كذلك إذا اتخذت رئاسة ترامب «منحنى سيئا».
وأضاف نووتني إنه يتوقع «فترة من انعدام الاستقرار على المدى المتوسط»، كما حدث بعد قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي. وقال: إنه من المبكر جدا التكهن بما إذا كان الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (المركزي الأميركي) سيرفع نسبة الفائدة في ديسمبر (كانون الأول) المقبل كما كان متوقعا. مضيفا أن «ذلك سيعتمد على كيفية رد فعل الاقتصاد الأميركي بشكل عام».
ودعا كبير الخبراء الاقتصاديين في البنك المركزي الأوروبي بيتر بريت كذلك إلى الهدوء، وقال «أعتقد أن علينا التزام الهدوء، وأن نكون أهدأ من الأسواق بالتأكيد». وأضاف على هامش مؤتمر مصرفي في بروكسل: «من المبكر إصدار رد فعل على مثل هذه الأحداث، ونحن نراقب الوضع عن كثب»، و«أعتقد أن كل الاتصالات بشأن السياسة المالية لم تتغير، ولن تتغير نتيجة الانتخابات».
- الإعصار بدأ في أميركا
وفي الولايات المتحدة، انخفضت أسواق المال الأميركية صباح أمس وبورصة نيويورك أكثر من 5 في المائة مساء الثلاثاء مع تقدم ترامب على كلينتون، ثم بدأت المؤشرات في التحسن عند منتصف اليوم. حيث هبط مؤشر «ستاندرد آند بورز» الأوسع نطاقا بنسبة 5.01 في المائة، فيما تهاوى مؤشر «ناسداك» الذي تغلبت عليه أسهم شركات التكنولوجيا بنسبة 5.08 في المائة. وبالأمس، ومع افتتاح التعاملات بالأسواق الأميركية عقب إعلان النتائج، واصلت الأسهم تراجعها، حيث تراجع مؤشر «داو جونز» الصناعي بنسبة 25.55 نقطة، بما يعادل 0.14 في المائة، ليصل إلى مستوى 18307.19 نقطة.
وانخفض مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» بمقدار 10.84 نقطة، أو بنسبة 0.51 في المائة، ليصل إلى 2128.72 نقطة، كما نزل مؤشر «ناسداك المجمع» بمعدل 41.65 نقطة، أو بنسبة 0.8 في المائة، ليسجل 5151.84 نقطة.
- خسائر بالأسواق الأوروبية
من جانبها، استهلت مؤشرات الأسواق الأوروبية تعاملات أمس بتراجع جماعي كبير، بعد فوز ترامب. وهوى مؤشر «يورو ستوكس 600» في مستهل التعاملات بما يوازي 3.8 في المائة، كما تراجع مؤشر «فايننشال تايمز» في بريطانيا بنسبة 3.1 في المائة ليصل إلى مستوى 6607.50 نقطة.
وفي ألمانيا، تراجع مؤشر «داكس» بنسبة 3.4 في المائة مسجلا 10093 نقطة، كما هبط مؤشر «كاك 40» في فرنسا بما يوازي 3.9 في المائة ليصل إلى مستوى 4302.50 نقطة.
وبعد دقائق من بدء التعاملات، تراجع مؤشر «فايننشيال تايمز إم آي بي» في إيطاليا بنسبة 2.77 في المائة مسجلا 16352.78 نقطة، كما هبط مؤشر «إيبكس 35» في إسبانيا بما يوازي 2.78 في المائة ليصل إلى مستوى 8687.80 نقطة.
أيضا، انخفضت بورصات الدول الاسكندنافية أمس متأثرة بفوز ترامب، فقد انخفض مؤشر «أو إم إكس ستوكهولم 30» في بداية التداول. وبعد مرور نصف ساعة، ارتفع المؤشر الذي يضم 30 سهما من الأسهم الأكثر تداولا في بورصة استوكهولم، لكنه تراجع بعد ذلك بنسبة 1.8 في المائة. وانخفض أيضا مؤشر «أو إم إكس كوبنهاغن» في الدنمارك، ومؤشر «هلسنكي» الفنلندي عند بداية التداول.
- أفريقيا أيضا تأثرت
ولم تسلم القارة السمراء من آثار فوز ترامب؛ إذ انخفضت الأسهم في أكبر بورصة بأفريقيا بنسبة 1.43 في المائة أمس. وقد انخفض مؤشر البنوك في بورصة جوهانسبرغ بنحو 3 في المائة، لتكون البنوك الأكثر تضررا من فوز ترامب، وذلك بحسب ما ذكرته صحيفة «بيزنس توداي» المحلية.
وقال محللون بشركة «مومينتوم إس بي ريد» للسندات في جنوب أفريقيا إنه من المحتمل أن يتسبب فوز ترامب في حدوث مستويات مرتفعة من الغموض والتضارب في البورصات الأفريقية، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات التذبذب، بحسب ما نقلته وكالة الأنباء الألمانية.
- آسيا أكبر المتضررين
وربما كان الأثر الأكبر لإعلان فوز ترامب على الجانب الشرقي للعالم، خصوصا أن الأسواق افتتحت وأغلقت في وقت ساد فيه الترقب لإعلان النتائج؛ ما ترك الأسواق والمستثمرين في حالة من «عدم اليقين» بأكثر من باقي أرجاء العالم، التي ربما أسهم في تهدئتها خطاب ترامب الذي كان «سياسيا» و«أكثر حنكة» من ذي قبل، لكنه صدر عقب إغلاق أغلب الأسواق الشرق آسيوية.
وتكبد مؤشر «نيكي» الياباني أكبر خسارة يومية منذ استفتاء خروج بريطانيا؛ إذ هبطت الأسهم اليابانية أكثر من 5 في المائة مسجلة أكبر انخفاض يومي منذ «البريكسيت»، متأثرة بمرحلة «فرز النتائج» في الانتخابات الأميركية.
وهبط المؤشر «نيكي» القياسي بنسبة 5.4 في المائة، مغلقا عند مستوى 16251.54 نقطة، بعدما تأرجح بين الانخفاض والارتفاع مع توالي نتائج فرز الأصوات في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
وهوى المؤشر «توبكس» الأوسع نطاقا بنسبة 4.6 في المائة، ليصل إلى مستوى 1301.16 نقطة، مع هبوط جميع مؤشراته الفرعية. وانخفض المؤشر «جيه.بي.إكس - نيكي 400» بنسبة مماثلة، ليهبط إلى مستوى 11662.18 نقطة.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟