«دومة الجندل» السعودية.. قاهرة «زنوبيا» تكشف عن إرثها الحضاري

اكتشاف آثار نبطية ورومانية في قلعة مارد بمنطقة الجوف

الأمير سلطان بن سلمان يتفقد أعمال التنقيب في محيط قلعة مارد ({الشرق الأوسط})
الأمير سلطان بن سلمان يتفقد أعمال التنقيب في محيط قلعة مارد ({الشرق الأوسط})
TT

«دومة الجندل» السعودية.. قاهرة «زنوبيا» تكشف عن إرثها الحضاري

الأمير سلطان بن سلمان يتفقد أعمال التنقيب في محيط قلعة مارد ({الشرق الأوسط})
الأمير سلطان بن سلمان يتفقد أعمال التنقيب في محيط قلعة مارد ({الشرق الأوسط})

لا تزال دومة الجندل في منطقة الجوف (شمال السعودية)، تبوح بأسرارها الضاربة في عمق التاريخ، إذ كشف علماء آثار بقايا معمارية ترجع إلى الفترة النبطية والرومانية (بين القرنين الأول ق.م والرابع الميلادي)، في قلعة مارد بمحافظة دومة الجندل.
وذكر تقرير للبعثة السعودية الإيطالية الفرنسية المشتركة للتنقيب في موقع دومة الجندل، أن أعمال التنقيب في الموقع كشفت عند السور الغربي لواحة دومة الجندل عن وحدة معمارية لحي سكني ترجع إلى العصرين النبطي والروماني، كما عثرت على أساسات معمارية ترجع للعصر الروماني عند أبراج السور ونظام للري مرتبط بقنوات وأنفاق بدومة الجندل.
وعثر الفريق على عدد من النقوش الإسلامية المبكرة والثمودية والنبطية في مواقع مويسن والنيصة وجبل قيال، إضافة إلى العثور في الموقع على مستوطنة ترجع للعصر الحجر الحديث (الألف الرابع ق. م).
وأكد الدكتور الإيطالي جيوم شاركوس عضو الفريق السعودي الإيطالي الفرنسي للتنقيب في دومة الجندل، أن تاريخ واحة دومة الجندل عريق وثري، إذ ورد ذكرها في حولية الآشوريات الحديثة منذ 2800 سنة، ومصادر التراث منذ ألفي سنة، كما ذكرت في مصادر عدة عربية من العصور الوسطى.
ولفت إلى أن الرحالة الدنماركي نيبور، ذكر واحة الجوف في نهاية القرن الثامن عشر، كما وصفها بدقة رحالة في القرنين التاسع عشر والعشرين بدءًا من زيتسن عام 1808 وبورخارت في عام 1822.
وأشار إلى أن دراسة بقايا الآثار في الموقع تثبت أنها مرت بمرحلتين: الأولى هي مسح الواحة وما جاورها ودراسة النقوش خصوصًا في أقرب المناطق إليها وهي نقوش تحكي عن أناس نحتوا أسماءهم عليها، ودونوا لغاتهم وكتاباتهم على تلك الشواهد التي من شأنها أن تساعد في معرفة طرق سفرهم وتنقلاتهم ولإيجاد تأريخ تقريبي لذلك، في حين أن المرحلة الثانية هي التنقيب داخل الواحة، وتجري هذه الدراسة ميدانيًا بمساعدة السكان، ولذلك يزور الفريق كل بقعة من الواحة بحثًا عن أدلة أثرية ومقابلة المواطنين والحديث معهم.
وأضاف أن القرى والواحات عمومًا تضم نظام قنوات وآبار، حيث ذكر قديمًا أن في الجوف ألف بئر وألف ينبوع متدفقة. ورغم استحالة التحقق من ذلك فإنه ثبت فعلاً أن حدائق الواحة وبساتين نخيلها كانت تسقيها شبكة مياه معقدة، تمكن الفريق خلال هذه الدراسة من رسم خريطة لها ولجميع آبار دومة الجندل وقنواتها وينابيعها.
وذكر أن الفريق استطاع خلال هذا المسح العثور على معالم آثار قديمة ودرسها، كالقصير أو ما يسمى بقصر الحطاب الذي يقع خلف المتحف قريبًا من قلعة مارد، كما درس الفريق قصر جوهر أو حزام. وهو حصن عسكري مستطيل الشكل طوله 82 مترًا وعرضه 45 مترًا.
وأشار إلى أن الفريقين السعودي والإيطالي درسا المنطقة التاريخية للواحة، للكشف عن تسلسل الاستيطان بشكل كامل بالموقع، حيث تم الكشف عن فترة استيطان نبطية عمرها ألفا سنة وعدة مراحل استيطان رومانية وفترة الإسلام حتى وقتنا الحاضر.
* سور عمره ألفا عام
وأجرى الفريق دراسة على الجزء الغربي من السور الأثري على بعد 3 كلم غربًا المركز التاريخي بين بئر حسية وحي السبيلة قريبًا من البرج. وكشفت الأبحاث عن سور طوله 2 كلم يصل ارتفاع بعض أطلاله أحيانا إلى (4.5) متر حيث يغلق أسفل الوادي ويتجه ناحية الجبل المجاور ويحتمل أنه عمارة الأكيدر، وبدا السور قديمًا جدًا قد تجاوز عمره ألفي عام وظل مستخدمًا خلال الفترة الإسلامية حتى قرنين مضيا، واكتملت دراسة هذا القطاع عن طريق التنقيبات ودراسة التضاريس حيث تمكن الفريق من كشف مبان عدة قديمة في الوادي ويظهر قمة الرجم ببرجه وأريكته وهي صالة اجتماع نبطية جرى تنقيبها وكشفها تمامًا.
ويجري العمل حاليًا في الموقع من خلال فريق سعودي إيطالي مشترك، ولتوسيع نطاق العمل مستقبلا تمت الاستعانة بالمركز الفرنسي للبحوث، بحيث يكون فريق من أعضاء سعوديين وفرنسيين وإيطاليين وبإدارة مشتركة يكون هناك رئيس فريق لكل طرف.
ومن المقرر أن تتوسع الأعمال بشكل كبير لتشمل مع قلعة مارد، والأسوار في دومة الجندل التي يزيد طولها على 11 كيلومترًا.
* مسجد عمر بن الخطاب
ومن أهم ما يميز قلعة مارد الأثرية احتواؤها على مسجد عمر بن الخطاب، وتعتبر مئذنة المسجد من أقدم المآذن في تاريخ شبه الجزيرة العربية، إذ تم بناء هذا المسجد سنة 17هـ، ويعتبر من أهم المساجد الأثرية في السعودية.
ويعد المسجد من أهم المساجد الأثرية لتخطيطه الذي يمثل نمط تخطيط المساجد الأولى، خصوصًا مسجد الرسول، صلى الله عليه وسلم، في المدينة في مراحله الأولى، وكذلك تبرز أهمية هذا المسجد كون الذي أمر ببنائه هو الفاروق عمر.
وتقع مئذنة المسجد في الركن الجنوبي الغربي من المبنى العام، وهي مربعة الشكل طول ضلعها عند القاعدة ثلاثة أمتار، وتضيق إلى الداخل كلما ارتفعت إلى الأعلى حتى تنتهي بقمة شبه هرمية، ويبلغ ارتفاعها نحو 12.7 متر، واستخدم الحجر في بناء المسجد والمئذنة كما هو الحال في المباني المجاورة مثل قلعة مارد نفسها ليكون هناك انسجام وتناغم هندسي رائع في وسط المدينة العتيقة. والمنطقة الأثرية التي تضم قلعة مارد ومسجد عمر بن الخطاب وحي الدرع تستقبل الزوار من الساعة السابعة والنصف صباحًا، حتى التاسعة مساء.. وجرت عمليتان لترميم المنطقة، الأولى تدعيمية، والأخرى ترميم قلعة مارد. كما يجري حاليًا تنقيب في الجهة الجنوبية من القلعة بواسطة فريق إيطالي سعودي.
* حضارة سكنية من العصر النبطي
وأشار الدكتور علي الغبان نائب رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني إلى أن نتائج هذا الموسم أظهرت وجودا سكنيا واسعا من العصر النبطي في موقع دومة الجندل، كما أنه عثر على قطع عملات تعود إلى القرن الرابع الميلادي، وأيضًا أنواع متعددة من القطع الأثرية والأواني والأدوات التي تعود إلى تلك الفترة.
وفيما يتعلق باتفاقية التنقيب أبان الغبان، أنها تسمح للفريق بالعمل في الموقع ونشر نتائج التنقيبات وفق ضوابط معينة وتحدد التزامات كل جهة، لافتًا إلى أن الهيئة تعمل جاهدة إلى إظهار البعد الحضاري للمملكة من خلال العمل في عدد من المواقع المهمة.
إلى ذلك قال الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بعد رعايته توقيع الاتفاقية: «نحن نعمل بالتعاون مع محافظ دومة الجندل والمجتمع المحلي لإبراز البعد الحضاري المهم الذي تتمتع به دومة الجندل ومنطقة الجوف من خلال ما تختزنه من مواقع أثرية هامة ذات قيمة عالية»، مشيرا إلى أهمية نتائج هذه الأعمال في كشف كثير من الحضارات التي تقوم عليها هذه المنطقة، لتضاف إلى ما يتم اكتشافه من قطع ومعلومات تبرز مكانة السعودية التاريخية وبعدها الحضاري، وما تشكل في شبه الجزيرة العربية على مر التاريخ من حضارات متعاقبة، وإرث حضاري عريق.
وكانت اتفاقية تعاون علمي بين الهيئة وجامعة نابولي الإيطالية «الدراسات الشرقية» وُقّعت للتنقيب في المواقع الأثرية بمحافظة دومة الجندل بمنطقة الجوف، وذلك لخمس سنوات ابتداءً من شهر جمادى الأولى 1430هـ، ثم تم تعديل الاتفاقية في 2 / 12 / 1432هـ، وإضافة شريك في المشروع هو المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، وتمّ تنفيذ تسعة مواسم من التنقيب آخرها في 21 / 5 / 1437هـ، وجاري تنفيذ الموسم العاشر للبعثة الذي بدأ في 14 / 1 / 1438هـ.
* قلعة مارد وزنوبيا
وتعد قلعة مارد المعلم الأثري الأبرز في دومة الجندل، وتقع على تل مرتفع في مدينة دومة الجندل جنوب غربي مسجد عمر بن الخطاب.
وأقدم ذكر لها يعود إلى نحو القرن الثالث الميلادي عندما غزت ملكة تدمر زنوبيا دومة الجندل وفيها قالت: «تمرد مارد وعز الأبلق»، والمارد في اللغة صفة لكل شيء تمرد واستعصى.
وينقسم تصميمها المعماري إلى قسمين أحدهما مدني للإعاشة والسكن والإدارة، والآخر حربي للمراقبة والإنذار بالحرب والقتال.
والقسم المدني مكون من فناء كبير مكشوف مستطيل الشكل تعلوه ست فتحات معدة للمراقبة وإسقاط الحجارة والزيت المغلي، ويلحق بالمدخل حجرات الحراس وبرج مستدير يتصل به ممر مغطى بجذوع وجريد النخل ينتهي ببئر عميقة تبرز عن جدران القلعة وكأنها برج مستدير. وتوجد أيضًا بقايا مسجد صغير يتكون من رواق واحد رئيسي للقبلة، ويؤمن هذا القسم المدني بأربعة أبراج ركنية مستديرة ومخروطية الشكل مبنية من الحجر والطوب والذي يعرف بـ«اللبِن».
أما القسم الحربي فهو عبارة عن كتلة معمارية ضخمة مقامة فوق هضبة مرتفعة يتقدمها من الجهة الجنوبية الشرقية خندق دفاعي ويصعد إليها بواسطة درج من الجهة نفسها.
وتوجد بالجهة الشرقية منه بئر عميقة قطرها 40 سم فيما تمتاز جدران القسم الحربي بوجود فتحات ضيقة للمراقبة والسهام إلى جانب الفتحات المنتشرة في الأجزاء العلوية من الأسوار.
* غزو سنحاريب
وتعد دومة الجندل أهم محافظات منطقة الجوف التاريخية وإحدى أهم المدن القديمة في شمال الجزيرة العربية، إذ يعود تاريخها للقرن الثامن قبل الميلاد. وورد ذكر دومة الجندل في نص مسماري ضمن إشارة لحملة قام بها سنحاريب الملك الآشوري ضد مملكة دومة الجندل سنة 688 قبل الميلاد، ويفهم من سياق النص أن سنحاريب دخل دومة الجندل عنوة وعاث فيها فسادًا وتدميرًا وحمل معه آلهتها إلى نينوى في العراق.
كما ورد ذكر دومة الجندل في حوليات الملك آشور بانيبال والملك إسرحدون والملك البابلي نابونيدوس، وفي المصادر الآشورية باسم أدوماتو أو أدمو، وكانت دومة الجندل عاصمة لعدد من الملكات العربيات مثل تبؤه أو تاربو، وتلخونو وزبيبة وسمسي وأياتي. وتضم دومة الجندل، فضلاً عما ذكر، بقايا سور دومة الجندل.
وكانت دومة الجندل من أهم الأسواق العربية في العصر الجاهلي، وفيما بعد أصبحت خاضعة للدولة البيزنطية حتى تم فتحها على يد خالد بن الوليد، ودخولها الدولة الإسلامية في السنة الثانية عشرة للهجرة النبوية في بدايات خلافة أبي بكر الصديق، وتذكر بعض المصادر أن خالد بن الوليد اضطر إلى كسر باب قلعة مارد وأسر المتحصنين داخلها.
وللمحافظة على هذه القلعة التاريخية عمدت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني إلى عمل سياج حول القلعة وترميمها، إضافة إلى مسجد عمر بن الخطاب، الذي بُني بجانب القلعة بمئذنته ملاصقًا لحي الدرع الأثري من الجهة الجنوبية كما شهد الموقع بعض الفعاليات والبرامج.
وتقع قلعة مارد ضمن محيط حي الدرع الذي يعد أحد الآثار الباقية من مدينة دومة الجندل القديمة وسوق دومة الجندل التاريخي بمحافظة دومة الجندل بمنطقة الجوف، ويمثل الجزء المتبقي من الأحياء السكنية من الأحياء السبعة في دومة الجندل الإسلامية، والذي نجا من الهدم الذي لحق بسوق ابن الدرع التاريخي منذ نحو 25 سنة.
ويقع حي الدرع في مركز المدينة التراثي لدومة الجندل إلى جانب قلعة قصر مارد ومسجد عمر، ويعتبر أهم حي في المحافظة، وأحد أهم المراكز الثقافية في شبه الجزيرة العربية منذ عصر ما قبل الإسلام.
ويمثل الحي نموذجًا للتخطيط الهندسي الفريد من نوعه، ويضم الكثير من المواقع والمباني التاريخية مثل مسجد عمر بن الخطاب وقلعة قصر مارد وحي الدير والسور القديم، وتعود منشآته إلى العصر الإسلامي الوسيط، لكنها تقوم على طبقات أثرية وأساسات تعود إلى منتصف الألف الأول قبل الميلاد.
ويعكس حي الدرع في نمطه الحالي المدينة الإسلامية العربية من حيث النسيج العمراني الفريد، ويعد مثالاً مهمًا يوضح تعاقب الحضارات في دومة الجندل، حيث كشفت التنقيبات والدراسات الأثرية في الموقع عن تعاقب الحضارات أثناء الحقبة النبطية (القرن الأول قبل الميلاد والقرن الرابع بعد الميلاد) من ضمنها الآثار المعمارية والمنشآت المائية والكتابات والقطع الأثرية المنقولة المصنوعة من الفخار والنقود وغيرها.
ويتميز الحي بأقواسه ومبانيه الحجرية وممراته الضيقة وموقعه بين البساتين والقنوات المائية، مما سهل الحياة على سكان الحي الذين يعيشون قرب الينابيع. كما أن بيوته حجرية تتصل فيما بينها بواسطة ممرات ضيقة (أزقة)، وأزقته متصلة ببعضها بعضا، وبعضها مغطى بأقواس. ويتألف من مجموعة من المنازل (دور) مع أكثر من 40 مسكنًا ذات أحجام مختلفة، حيث تنقسم إلى عدد من التجمعات السكنية.
وتم بناء الحي على أطلال حي سابق، وهذا واضح من الطبقات المتعددة إلى جانب ظهور الطرق القديمة للحي تحت المباني الحالية، وتشير الأدلة إلى أن الحي تم بناؤه على إحدى جهات موقع أدوماتو الأثري، ويعود تاريخ منازل الحي إلى منتصف العصر الإسلامي.
وحي الدرع هو من المواقع العشرة التي وافق المقام السامي الكريم على طلب الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بتسجيلها في قائمة التراث العالمي لدى منظمة اليونيسكو خلال السنوات القادمة.
* 30 بعثة أثرية في أنحاء السعودية
وتعمل حاليًا بإشراف الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني أكثر من 30 بعثة وفريق علمي متخصص في البحث والتنقيب الأثري، يضم إلى جانب العلماء السعوديين علماء متخصصين من أرقى جامعات العالم وأعرق المراكز البحثية من دول عدة منها: فرنسا، وإيطاليا، والولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا، وألمانيا، واليابان، وبلجيكا، وبولندا، وفنلندا، وهولندا، والنمسا.
وكشفت أعمال هذه البعثات العلمية للتنقيب عن الآثار في السعودية عن نتائج بالغة الأهمية لتاريخ المملكة والجزيرة العربية والتاريخ الإنساني.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».