الفيلوغرافيا.. فن عثماني انتقل من الأيدي الخشنة إلى الأنامل الناعمة

مارسه المساجين لتهوين فترة عقوبتهم ومواده الأسلاك والمسامير

سورة الفلق بالفيلوغرافيا - شنور دوغان تدرب فتيات على لوحات الفيلوغرافيا
سورة الفلق بالفيلوغرافيا - شنور دوغان تدرب فتيات على لوحات الفيلوغرافيا
TT

الفيلوغرافيا.. فن عثماني انتقل من الأيدي الخشنة إلى الأنامل الناعمة

سورة الفلق بالفيلوغرافيا - شنور دوغان تدرب فتيات على لوحات الفيلوغرافيا
سورة الفلق بالفيلوغرافيا - شنور دوغان تدرب فتيات على لوحات الفيلوغرافيا

خلف العثمانيون وراءهم الكثير من ألوان الفنون التي لا يزال أحفادهم يسعون للحفاظ عليها من الاندثار والإبقاء عليها ماثلة أمام الأجيال جيلا بعد الآخر.
ومن هذه الفنون فن «الفيلوغرافيا» أو الرسم بالأسلاك والمسامير، والذي قد يعتقد البعض أنه فن خاص بالرجال بسبب أدواته التي تتكون من اللوحات الخشبية والمطرقة والمسامير والأسلاك النحاسية الملونة. لكن الكثير من النساء في تركيا احترفن هذا الفن وأصبحت هناك فنانات يطبقنه بأسلوب علمي ويقمن ورشا لتعليمه بل ويقمن له المعارض في أنحاء العالم ولا سيما في الدول العربية والإسلامية التي لا يزال ينتشر فيها بعض الآثار التي خلفها العثمانيون.
إيلونا هوش هي واحدة من هؤلاء الفنانات اللاتي اكتسبن شهرة في مجال الفيلوغرافيا والتي تجوب العالم بلوحاتها، وأقامت في يونيو (حزيران) الماضي معرضا في بيروت قدمت فيه بعضها من لوحاتها في بيت الفن.
في لوحات الفيلوغرافيا تشد الأسلاك بقوة وثبات لتخرج فنا جميلا يلفت الأنظار، وتركز هوش في لوحاتها على الخط العربي، حيث تؤلف كتلة لها عناصرها المختلفة المشدودة إلى بعضها في تناغم دقيق وأسلوب مميز في لف الأسلاك الملونة من الأعلى والأسفل لتشكل انعكاسات تجذب المتلقي للتأمل في طريقة وصولها إلى هذا المستوى.
تبدأ الخطوات، التي تمر بها لوحة الفيلوغرافيا، بتحضير قالب الشكل المراد رسمه، والذي قد يكون لوحة خط عربي، أو شكلا فنيا، ومن ثم تدق المسامير على حواف الشكل، وبعد ذلك يجري الوصل بين المسامير باستخدام أسلاك نحاسية ملونة، بطريقة فنية، ما يُخرج في النهاية لوحة ذات جاذبية عالية.
وإلى جانب اللوحات يمكن أن يستخدم فن الفيلوغرافيا لتزيين الكثير من الأغراض المنزلية كالمرايا أو المزهريات أو الصواني.
ويحتاج فن الفيلوغرافيا إلى الكثير من الصبر ويقال إنه ظهر في السجون خلال العهد العثماني حيث كان يتسلى به المساجين بانتظار انتهاء مدة عقوبتهم.
ويقول من يعملون في هذا الفن إن له ميزة كبيرة وهي تفريغ التوتر والضغوط النفسية حيث يسهم في تحسين الحالة النفسية وهو فن مناسب لجميع الأعمار بداية من الأطفال وحتى كبار السن.
تقول ايلونا هوش إنها تركز على الحروف العربية والأشكال الصوفية التي تحاول أن تترك لها رمزيتها في التشكيل عبر الأسلاك أو المسامير التي تخرج انسيابية أحيانا وتلتف على بعضها ضمن شكل له حيويته ودلالته الشرقية والإسلامية بنوع خاص مع الاهتمام بالخيوط، وكأنها خيوط تنسجها بزركشة معدنية لها أصولها وتقاليدها الموروثة لهذا الفن الإسلامي العريق محافظة على الطابع العثماني.
وتقدم الفنانة شنور دوغان دورات تدريبية للنساء في خان «ألاجا» الأثري ضمن فعاليات مركز ثقافي حكومي لتعليمهن فن الفيلوغرافيا.
وتبدي دوغان سعادتها بالرواج الذي بدأ يحققه فن الفيلوغرافيا، لافتة إلى أنه خلال عامين أصبح 20 من خريجات الدورات التدريبية معها يبعن منتجاتهن في خان ألاجا للسكان المحليين والزوار الأتراك والسياح الأجانب، ويشاركن في مهرجانات في دول أخرى، يقمن خلالها ببيع كميات كبيرة من إنتاجهن.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)