من صنع صورة سقراط وأسس لشهرته؟

رفعه موته الدرامي إلى مقام شهيد الفلسفة الأول وقديسها الكبير

من صنع صورة سقراط وأسس لشهرته؟
TT

من صنع صورة سقراط وأسس لشهرته؟

من صنع صورة سقراط وأسس لشهرته؟

من هو سقراط؟!
هل نقول بقول القائلين الذين نظروا في متن «أبولوجيا» لأفلاطون، وخلصوا إلى أنه كان نبيا مرسلا؟!
أم نقول بقول جاك لاكان، الذي قارب وسومات شخصيته المنثورة في المتون القديمة؛ فانتهى بميثودولوجيا (علم الأساطير والخرافات المتصلة بالآلهة) التحليل النفسي، إلى كونه مجرد مريض عصابي؟! أم نرجع قبل لاكان، إلى بداية القرن التاسع عشر، لنسترجع تحليل ليلوت Lélut، الذي انتهى – في كتابه «شيطان سقراط» إلى أن فيلسوف أثينا كان مختلا مجنونا؟! لكن، كيف تأتى لهذا «المختل» الذي لم يكتب صفحة واحدة، أن يمارس على تاريخ الفكر كل تلك السلطة المهيمنة التي مارسها؟
أم نقول إن سر هيمنته معرفيا، هو أنه لم ينثر على الورق شيئا، أي لو أنه خَلَّفَ نصوصا مكتوبة؛ لتَخَلَّفَ بسببها؟!
إن مجرد استجماع تلك التوصيفات السابقة يوقعنا في الحيرة؛ فلم لا نتخلص منها بجرة قلم، بانتهاج قول القائلين، بأن سقراط لم يكن له أي وجود تاريخي، بل هو مجرد نتاج مخيلة أرسطوفان وكزينوفون وأفلاطون؟!
لكن هل بذاك النفي لوجوده البيولوجي نرتاح من كل تلك الإشكالات التي تحيط به؟ ثم كيف لشخص موهوم الوجود أن يقسم تاريخ الفكر الفلسفي إلى ما قبل وما بعد؟! أليس من السذاجة الظن بإمكان تخليص التاريخ الفلسفي من وقع سقراط وأثره بمجرد نفي وجوده؟
كان الصباح باكرا لحظة تجوالي في أزقة أثينا... وكان الصمت يخيم على المكان، وإذا بصرير باب يفتح من بيت أشبه بكوخ.. لا نوافذ له، كأنه كوة محفورة في جوف الصخر. وإذا بشخص قصير القامة، طويل الشعر، دميم الخلقة، يخرج ممسكا في يده بصلة، يتنادى من خلفه صوت امرأة ناهرة له بكلمات لم أتبين ملفوظها...
لم يعرها الرجل اهتماما... إنما استمر في خطوه السريع مرتقيا الهضبة... أخذ يرمي بين الفينة والأخرى نويات الزيتون، ثم يقضم من البصلة قضمة تلو قضمة...
إنه لا ينتعل أي شيء بل يمشي حافيا، لا يعوقه سِنُّ حجر ولا يؤلمه غَرز شوك!
آه عرفته إنه سقراط!
إذ لم يكن في أثينا وقتئذ، شخص غيره يتجرأ على أن يمشي حافيا! فقد كانت مدينة الأكروبول، في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، قد بلغت شأوا عظيما في الاهتمام بحسن الملبس وأناقة المظهر، حتى قيل بأن العبيد كانوا هم أيضا ينتعلون! والظاهر أيضا، أن المرأة التي سمعتها تنهره من خلف الباب، هي زوجه كزانثيب Xanthippe، ومن حقها مجاهرة هذا الكائن الطيب (بأقذع) الكلمات... إذ كان ديدنه اليومي أن يخرج منذ باكر الصبح؛ ليقضي سحابة يومه في المجادلة الفكرية.. ثم يعود إلى البيت خالي الوفاض بلا مؤونة ولا مال... بل غالب ظني، أنه كان يعود تعبا حتى من الكلام، وما أقسى الصمت على طبيعة المرأة، وهي التي تنتعش بالإنصات إلى رقة الكلم، وترتاح بالتملي في المرأى الحسن! وكان سقراط يقابل غضبها بالحلم واللامبالاة، قائلا: «إن كزانثيب مثل السماء، عندما ترعد سرعان ما تبكي».
وحبات الزيتون التي أراه الآن ينثرها خلفه، نعلم أنها كانت فطوره اليومي، مع بصلة يقضمها وهو يخطو بين الأزقة؛ متلفتا لعله يرى أحدا من محبيه أو من خصومه، ليبادره باستفهام يفتح حوارا معرفيا ينسيه نكد زوجه التي بلاه الله بها وبلاها به.
حاولت اللحاق به، لكنني لم أقو على بزه في سرعة الخطو! إذ كان أسرع مني في الوصول إلى قمة الهضبة المكسوة بالضباب؛ فلما اعتليتها لم أجد له أثرا... كأنه تبخر وارتقى إلى الأعالي! لكن لم يخالجني ريب في أن الشخص الذي رأيت للتو هو سقراط... ولم تكنْ أنتَ أيضا، لتخطئ معرفته إذا ما قدر لك أن تسافر في الزمن، كما سافرت، وتلتقي به صدفة في زقاق من أزقة أثينا، إذ لا شك سيسهل عليك التعرف عليه من كثرة تلك التوصيفات المتداولة في مختلف الكتب الفلسفية، التي اتفقت على وصف ملمحه الدميم وملبسه الرث.
أجل: «من بين كل رجال العصور القديمة – يقول بيير مونطي - نحتفظ لسقراط بالصورة الأكثر أمانة ويقينا... صورة محفوظة بشهادات كتاب عاصروه». وهكذا إذا كنتَ ممنْ يحسنون الرسم أو النحت، فإنه سيسهل عليك توقيع الصورة الجسدية لسقراط؛ إذ لديك عنه في النصوص القديمة توصيف دقيق لأنفه الأفطس، الذي إذا صادف أن سال، فإن صاحبنا الفيلسوف – استنادا إلى ما قاله ثراسيماخوس في الكتاب الأول من متن «الجمهورية» - لم يكن يعتني حتى بمسح نخامته، كما لديك وصف لشفتيه الغليظتين وعينيه الجاحظتين، وكرشه البارز، ورأسه الذي اكتسح الصلع مقدمته، مع إجماع الرسامين – ومنهم محبوه - على قبحه الجسدي البَيِن! بل حتى توصيفه الروحي لك عنه أكثر من مستمسك، إذ أفاض الرواة في وسم طيبة نفسه وسمو أخلاقه... فأجمعوا بذلك على تقديمه كشخص بالغ الدمامة والدماثة معا!
لكن المفارقة هي أنه إذا كان كل قارئ لمكتوبات الفلسفة اليونانية يعرف جيدا الملمح الخَلْقي والخُلُقي لسقراط، فإن ملمحه المعرفي عليه غبش كبير. ولا شك أن صاحبنا نفسه، مسؤول عن هذا الالتباس والغبش؛ لأنه أصر على أن لا يكتب فلسفته، بل كان كارها للكتابة وحذرا منها، حتى أنه نعت الشخص الذي يثق في سكب فكره في الصحيفة بأنه بسيط ساذج؛ لأن إيداع الفكر في الكتاب خطر عليه، إذ يصير بفعل ذلك عرضة للوقوع بين يدي من يقدره ومن لا يقدره، بين من يثمنه وبين من يقسو عليه. ولذا بدل إيداع الأفكار في الصحائف؛ فيتلقاها من لا يستحقها ومن ليس بمكنته فهمها، يدعونا سقراط إلى الوثوق في الكلمة الصائتة، التي نتخير لها من يُقَدِّرُ الإنصات إليها.
الكلمة في تقدير سقراط، كالبذرة التي يجب انتقاء محل وضعها. والفيلسوف كالزارع الماهر الذي يتخير الأرض المناسبة للبذور، والوقت الصالح للغرس. لذا كان يفتخر بأنه يزرع أفكاره في نفوس الرجال بدل أن يخطها على جلد الماعز، ذاك الذي كان يستعمل في الكتابة في زمنه.
ولعلنا نضيف أيضا، بأن استهجانه للكتابة راجع إلى أن المنهج الفلسفي في تقديره يتطلب جدلا بين عقلين فأكثر، وهذا ما يوفره الملفوظ لا المكتوب.
لكن، هل فعلا حفظ من أنصتوا إليه درسه الفلسفي؛ أم صوروه لنا بما شاءوا من تخييل وتغيير؟
نرى أن مكر التاريخ أَوقع هذا الذي احترس من الكتابة ونعت من يثق فيها بالسذاجة، في شر عمله، حيث سرعان ما صار هو نفسه تحت رحمة المكتوب. فغدت صحائف أفلاطون وكزينوفون وأريسطوفان، مدخلا إلى «معرفة» سقراط. ذاك المستهجن للورق ومسطوره. بل بالإضافة إلى نصوص أولئك الكتبة المعاصرين له، تكاثرت المكتوبات، متخذة من شخصه موضوعا لها. والناظر في مقدارها الكبير، ينتهي إلى أن فيلسوفنا الذي ترفع على القلم، صار موضوعا تتلاعب به الأقلام؛ حتى أصبح مخصوصا بنوع أدبي منثور عليه، خلص التقليد التاريخي إلى تسميته بـ«اللوغوا سقراطيكوا» LOGOI SOKRATIKOI. فما السر الذي يفسر هذا المقدار من الاهتمام بالكتابة عن هذا الذي ترفع على الكتابة ومسطورها؟
نعتقد أن الذي صنع سقراط ابتداء، ليس أفلاطون ولا كزينوفون ولا أرسطو، بل الذي صنعه وأسس لشهرته في تاريخ الفكر، ميلتوس Meletus، وليكون Lycon، وأنيتوس Anytus، أي متهموه الذين تسببوا في الحكم عليه بالإعدام.
أجل إن موته الدرامي هذا هو الذي جعله يرتفع إلى مقام شهيد الفلسفة الأول وقديسها الأكبر.



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.