خالد الفرج.. صوت الخليج النهضوي

حمل خطابه الشعري توجهين رئيسيين: مقاومة المستعمر ونقد الأنظمة السياسية العربية

خالد الفرج  -  الاذاعة السعودية في بدايات تأسيسه
خالد الفرج - الاذاعة السعودية في بدايات تأسيسه
TT

خالد الفرج.. صوت الخليج النهضوي

خالد الفرج  -  الاذاعة السعودية في بدايات تأسيسه
خالد الفرج - الاذاعة السعودية في بدايات تأسيسه

اسم مهم في تاريخ الجزيرة العربية عامة والخليج العربي بشكل خاص. خالد الفرج (1898 - 1954)، الكويتي المولد والنشأة، تحول إلى شخصية خليجية بامتياز ليس على المستوى الثقافي، مجاله الرئيسي بوصفه شاعرًا وكاتبًا، فحسب وإنما أيضًا على المستويات السياسية والإدارية والإعلامية. عاش في فترة من تاريخ الخليج هي فترة مخاض وتحول استطاعت مناطقه أثناءها أن تقاوم الاستعمار الإنجليزي من جهة ومشكلات التخلف والفقر من جهة أخرى (فهي فترة سبقت اكتشاف النفط). شارك الفرج في تلك المقاومة وعلى أصعدتها كافة سواء من خلال صوته الشعري المناضل أو من خلال المشاركة في عملية التنمية سواء في المناطق التي رزحت تحت الاستعمار أو المستقلة التي عانت من مظاهر التخلف وتحديات البناء.
حمل الخطاب الشعري لخالد الفرج توجهين رئيسيين: مقاومة المستعمر ونقد الأنظمة السياسية العربية. والتوجهان متداخلان غالبًا، لأن الشاعر يلقي بجزء كبير من اللائمة في ضعف مواجهة الأجنبي على الحكام، لكن الفصل بين الاتجاهين ممكن وضروري لاختلاف لغة الخطاب واستراتيجياته أو آلياته النصية التي يعنى بها هذا الكاتب ويتتبعها. فهو في مواجهة المستعمر واضح وصريح، لكنه في الحالة الأخرى متردد بين صراحة وتضمين. ولعل أبرز سمات التوجه الأخير عموميته الحارسة للتأويل، فهو خطاب شعري عام للساسة وليس لساسة محددين. فلا تسمية لأحد. ثم إن مما يلفت الانتباه حضور المثقف في شخصية الشاعر بوصفه مهمشًا في مجتمعه مع أنه أهل للقيادة.
في قصيدة حول الاتحاد، أي اتحاد الدول العربية والإسلامية، يقول الفرج ساخرًا: «الاتحاد الاتحاد-قول نكرره معاد- لكنه والله أعلم- قد يحققه المعاد».
إلى أن يقول مشيرًا إلى من ينبغي أن يقودوا، أو من هم جديرون بالقيادة: «لو يصدقون لقدموا- للأمر من سادوا وشادوا- الأولون الأقدمون- ومن على المضمار زادوا». ومما يؤكد اتجاه الدلالة إلى النابهين من العلماء وأهل الفكر والثقافة قوله في قصيدة أخرى متغنيًا بالكويت ومؤكدًا في الوقت نفسه حبه لقول الحقيقة «ولو غضبت علي عداته»: «وطني سويداء القلوب محله عندي وإنسان العيون (صَفاته)- فإذا تألم والخطوب كثيرة- هاجت علي من الحشا زفراته». وكان قبل إشارته إلى إهمال الوطن للنابهين قد أشار في القصيدة نفسها إلى الثورة الفرنسية من حيث هي مثال لدور المثقف التنويري: «ما قام (روبسبير) حتى هزه - (فلتير) تذكي ناره نفحاته».
نقد السلطة المحلية، بعد نقد السلطة الأجنبية، في تلك الفترة، استلزم لدى الفرج وضع اليد على موضع الداء الذي تمثل له، بين مواضع أخرى، في هامشية أبناء البلاد من النابهين علمًا وفكرًا، وهو بهذا ينضم إلى قافلة طويلة من المثقفين العرب في فجر النهضة العربية الذين رأوا أنفسهم منفيين في بلادهم عن صناعة القرار لا سيما والمستعمر يفرض سلطته عليهم وعلى حكام البلاد التي عاشوا فيها. ومما يشير إلى ذلك تنقل الفرج بين بلاد الخليج، من الكويت إلى البحرين إلى السعودية (الناشئة آنذاك)، لا يرى فرقًا بين تلك البلاد، فهو في وطنه حيثما تنقل وإن احتلت الكويت مكانتها الخاصة بوصفها موطن أهله الأقربين ومسقط رأسه ومنشأه. ومع ذلك فإن انتماءه لم يحل بينه وبين نقد الأوضاع في تلك البلاد، بل إن حبه، كما يؤكد هو، كان مصدر حبه للصدق والمصارحة في كشف مواطن الداء والإشارة إلى احتمالات الدواء.
غير أن الصورة لم تكن قاتمة كل القتامة في وجه الفرج، فلم يمض وقت طويل حتى اتصل بالملك عبد العزيز في بدايات التأسيس للدولة السعودية الحديثة فرأى فيه الملك موهبة تستحق أن تكرم ويستفاد منها فاستدعاه وقربه منه ثم عينه في عدة مناصب منها مدير لبلدية الأحساء ثم لبلدية القطيف ثم أوكل إليه مهمة تأسيس الإذاعة السعودية. وكان من الطبيعي أن يترك هذا كله أثره في نفس المثقف الخليجي بامتياز ويرى فيه تقديرًا لأهل الفكر والثقافة، فامتدح الملك عبد العزيز في كثير من القصائد منها قصيدتان مطولتان أو ملحمتان هما «أحسن القصص» و«تاريخ نجد»، روى فيهما تاريخ الدولة السعودية وحروب الملك عبد العزيز في توحيد البلاد والقضاء على الفتن، ثم نشر شرحًا لهما تحت عنوان «الخبر والعيان» (1343هـ-1924م – 1347هـ-1928م). وهو في هذا يذكرنا بموقف أمين الريحاني الذي أعجب به الملك عبد العزيز وأُعجب هو بالملك المؤسس وبمواقفه القومية الوحدوية. ومن اللافت أن يشير الفرج في مقدمة القصيدتين إلى أن مديحه ليس تملقًا وإنما هو تعبير عن مشاعر صادقة، فكأنه بذلك يؤكد أنه المثقف المنتمي إلى الوطن بقدر ما هو المواطن أو الفرد المعجب بقائد كبير من القادة في تاريخ ذلك الوطن.
ومما يستوقف القارئ في سياق بحثنا هذا دفاع الفرج عن نفسه إزاء تهمة المادح المتملق، التهمة التي لم يكن الكثيرون يكترثون لها أصلاً سواء في تلك الفترة وغيرها حين يعبرون عن إعجابهم بملك أو خليفة أو ذي سلطان، لكننا إزاء كاتب ذي ضمير حي وعقل ناقد وهو لذلك حريص على سمعته وعلى تبرئة ساحته من الكذب. يقول: «والذي يقرأ هذه القصيدة يضعها – دون شك - في أبواب المديح ولا يلام على ذلك، لأن الناس اعتادوا أن يقرأوا آيات الثناء البراق في من يستحق ومن لا يستحق، ولا يهتمون بعد ذلك بحقيقة ما قيل إن صدقًا وإن كذبا... وليس في هذه القصيدة من المديح – المصطلح عليه – إلا مطلعها، وإلا فكل ما فيها حقائق لا غبار عليها يعرفها كل من درس تاريخ نجد وكان من المنصفين».
إنها إشكالية الشاعر المثقف أمام السلطة من ناحية وأمام الضمير الأدبي والأخلاقي من ناحية أخرى، فالحاجة ملحة لتبرير الموقف في حالة شاعر أراد أن يعبر عن إعجابه بملك من بلاده وخشي من تهمة المحاباة والتملق الجاهزة، التهمة التي لم يكن الكثيرون يرونها تهمة أساسًا، ناهيك عن الحاجة إلى سوق كل تلك المبررات والحجج لدفعها. لكن حقيقة الأمر هي أن خالد الفرج أنشأ خطابًا من الشعر السياسي يختلف عما عبر عنه شعره في الملك عبد العزيز. ذلك الخطاب كان خطابًا حادًا غالبًا وساخرًا أحيانًا في هجائه للساسة وللأوضاع السياسية، على النحو الذي رأينا أمثلة له في بداية هذه الملاحظات.
وفي ذلك الخطاب كان هجاؤه للساسة يترافق مع حزنه لبلاده التي تتمثل في الوطن العربي والإسلامي حينًا والخليج حينًا آخر، ومنه قوله في واحد من أشهر مطالعه وأقواها: «أنا شاعر لكن ببؤس بلادي- أفؤادكم يا قوم مثل فؤادي». وكان ذلك سنة 1345هـ (1926م)، أي قبل سنة واحدة من انتهائه من الحلقة الأولى من قصيدته «تاريخ نجد» ورفعها للملك عبد العزيز. فلم يكن غريبًا إذن أن يقلق الشاعر من إساءة فهم الآخرين لصدق شعوره تجاه زعيم عربي وهو الذي ظل ينتقد الزعماء الآخرين ويرسم مآسي البلاد.
والإنصاف في تقديري هو أن نقرأ موقف الفرج على أنه موقف وطني سواء في هجائه أو مديحه السياسي، فاختياره للتاريخ ديباجة لقصيدته في الملك عبد العزيز تعزز نزعته الوطنية وتجعل إعجابه صنوًا لإعجاب أمين الريحاني بذلك الملك العربي الذي ظهر ظهورًا مختلفًا عن غيره وأسس كيانًا سياسيا لم يجاره أحد فيه، فجسد بذلك حلمًا عربيًا حقيقيًا امتزج فيه نقاء الصحراء بشهامة العربي وإبائه مذكرًا الجميع بلحظات تاريخية سابقة فاستعيد الحلم بنهوض سياسي وقومي وحضاري لم يستغرب معه أن يحتفي الشعراء والكتاب به. غير أن تردد الفرج وقلقه يظل سمة عربية أيضًا من حيث هو تعبير عن أزمة ثقافية تتمظهر أدبيًا في الخوف من سوء فهم الناس للمقصود. فلم تكن الأوضاع السياسية أو الثقافية عمومًا مما يشجع على مديح أحد، بل كان العكس هو المتوقع، حتى إن الفرج، مثل شعراء الهجاء السياسي في فترته وقبلها وبعدها لم يخش من أن يلام لنقده للأوضاع وإنما لإعجابه بأي وضع قائم آنذاك.
إن المواجهة التي خاضها خالد الفرج مع السلطة السياسية والاجتماعية في منطقة الخليج والجزيرة العربية أنموذج لتنوع المواجهات التي عاشتها الثقافة العربية في عصر نهضتها الحديث في مختلف أنحاء الوطن العربي، على الرغم من الخطوط المشتركة التي تربط تلك المواجهات بعضها ببعض. فلم يكن غريبًا أن يستدعي الفرج أنموذج عبد الرحمن الكواكبي في قصيدة نظمها في خمسينات القرن الماضي، قبيل وفاته بأربعة أعوام. استذكر فيها حزن الكواكبي على تفرق المسلمين. كما لم يكن غريبًا أن تكون حقوق الإنسان التي طالب بها فرح أنطون من زاويته الأقلوية المسيحية مطلبًا للفرج أيضًا. كانت خطوط المواجهة في جوهرها واحدة.



الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي
TT

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

تصدر قريباً الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي كمال سبتي (1955 - 2006)، أحد أهم شعراء ما عُرف بجيل السبعينات في العراق. متضمنة ثمانية دواوين، مستهلةً بديوان «وردة البحر ـ 1980»، ومختتمةً بـ«صبراً قالت الطبائع الأربع ـ 2006». هنا نص مقدمة هذه الأعمال التي ستصدر عن «دار جبرا للنشر والتوزيع ـ الأردن»، وبالتعاون مع «دار النخبة للتأليف والترجمة والنشر - لبنان».

وقد كتب مقدمة المجموعة الكاملة الشاعر العراقي باسم المرعبي، التي جاءت بعنوان «كمال سبتي... المرافعة عن الشعر» ويقول فيها:

«يحتاج شعر كمال سبتي، بالمجمل، إلى جَلَد عند قراءته، فهو على نقيض الكثير مما هو شائع من تقنيات شعرية تعتمد البساطة والعفوية والمباشرة، مع عدم تسفيه هذه النزعات الأسلوبية، طالما أن الشعر كقيمة وجوهر يبقى مُصاناً، غير منتهَك به. على أنّ إشاحة الشاعر عن مثل هذا الاتجاه ومخالفته، لم يجعل شعره غامضاً أو عصيّاً.

شعر مثقل بالمعنى ومزدحم به، لأنه ذو مهمة توصيلية، وهو يتطلب إصغاءً وإعمال فكر. والقصيدة لدى كمال معمار ذهني - فكري ونفسي، في الآن ذاته، يستمدّ فيها الشاعر مادته من مغاور النفس والسيرة الشخصية، فضلاً عن استثمار راهن التجربة الحياتية، مشظّياً كلّ ذلك في النص، صراحةً أو رمزاً. دون أن يستثني مادة الحلم من استثماره الفني والموضوعي، وهو ما يُتبيَّن أثره في نصوصه، لا سيّما النصوص النثرية الطويلة، المتأخرة، ليتصادى ذلك مع قراءات الشاعر في الرواية أو اعتماده السينما مصدراً مفعّلاً في كتابته الشعرية. وعن هذه الأخيرة قد أشار إلى ذلك الشاعر نفسه في واحد من الحوارات التي أُجريت معه، ليرقى كلّ ذلك إلى أن يكون جزءاً عضوياً من تجربته الحياتية، الذهنية هذه المرة، مُسقَطة بالمحصلة على القصيدة، لتنعكس خلالها حركةً وتوتراً درامياً. وهو ما ينسحب بالقدر ذاته على نزوع الشاعر في سنواته الأخيرة إلى قراءات في التصوف والقرآن والتراث، ما نجمَ أثره بشكل جلي، في مجموعته الأخيرة «صبراً قالت الطبائع الأربع»، وإلى حد ما في المجموعة السابقة لها. وهو فارق يلمسه القارئ، إجمالاً، بين المنحى الذي اتخذه شعر كمال سبتي في السبعينات أو الثمانينات وما صار إليه في التسعينات وما بعدها. وعلى الرغم مما ذهب إليه الشاعر من مدى أقصى في التجريب الكتابي مسنوداً برؤية يميزها قلق إبداعي، شأن كلّ شاعر مجدّد، إلا أنه وبدافع من القلق ذاته عاد إلى القصيدة الموزونة، كما تجسد في كتابيه الأخيرين. وكان لقراءاته المذكورة آنفاً، دورها في بسط المناخ الملائم لانتعاش هذه القصيدة، ثانيةً، وقد بدت محافظة في شكلها، لكن بالاحتفاظ بقدر عال ورفيع من الشعرية المتينة، المعهودة في شعر كمال سبتي، وبدافع من روح المعنى الذي بقي مهيمناً حتى السطر الأخير، لأن الشعر لديه مأخوذ بجدية حدّ القداسة، وهو قضية في ذاتها، قضية رافع عنها الشاعر طوال حياته بدم القلب.

تصدر هذه الأعمال في غياب شاعرها، وهو ما يجعل من حدث كهذا مثلوماً، إذ عُرف عن كمال اهتمامه المفرط بنتاجه وتدقيقه ومتابعته، واحتفائه به قبل النشر وبعده، لأن الشعر كان كل حياته، هذه الحياة التي عاشها شعراً. فكم كان مبهجاً، لو أن مجموع أعماله هذا قد صدر تحت ناظريه.

ولأهمية هذه الأعمال وضروة أن لا تبقى رهينة التفرّق والغياب، أي في طبعاتها الأولى المتباعدة، غير المتاحة للتداول إلّا فيما ندر، ولأهمية أن تأخذ مكانها في مكتبة الشعر، عراقياً وعربياً، كانت هذه الخطوة في جمعها ومراجعتها وتقديمها للنشر. وقد كان لوفاء الصديق، الفنان المسرحي رياض سبتي، لشقيقه وتراثه الشعري، دوره الحاسم في حفظ مجموعات الشاعر، ومن ثمّ إتاحتها لكاتب سطور هذه المقدمة، حين تم طرح فكرة طباعتها ونشرها، إسهاماً في صون هذا الشعر وجعله قابلاً للانتشار من جديد، بما يجدر به».

من المجموعة الكاملة:

«الشاعر في التاريخ»

الرجل الجالسُ في المكتبة

مورّخٌ يكتبُ عن شاعرٍ

الرجل الهاربُ في سيرةٍ

مشرّدٌ في الليل كالليلِ

رغيفهُ باردْ

رغيفهُ واحدْ

عنوانه مصطبة

محطّةٌ مغلقةُ البابِ

الرجلُ الخائفُ في سيرةٍ

يغيّر الشكلَ تباعاً، فمرّةً

بلحية كثةٍ

ومرّةً بشاربٍ، ثمّ مرّةْ

بنصفِ قلبٍ حائرٍ في الطريقْ

يسيرُ فوقَ جمرةٍ، ثمّ جمرةْ

تلقيه فوقَ جمرةٍ، في الطريقْ.