عين ناقدة.. وأخرى سياحية

القرش يحتفي بالسينما عبر كتابه «في مديح الأفلام»

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

عين ناقدة.. وأخرى سياحية

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

يتطرق الكتاب لقضايا وظواهر أساسية خاصة بالسينما، مثل ظاهرة «دولة النجم» في السينما المصرية، وإلى المعايير الخاطئة في ترسيخ مفهوم النجومية، التي تعتمد في معظمها على الظروف التي تتاح لممثل معين ولا تتاح لغيره.
معزوفة سردية شيقة عن الولع بالسينما، وكيف تصبح نافذة للمعرفة والحب والترحال بين عوالم وثقافات متنوعة، يرويها الكاتب الروائي سعد القرش في كتابه «في مديح الأفلام.. مهرجانات ومدن وشعوب تحبها السينما»، الصادر حديثًا عن «مركز الأهرام للنشر» بالقاهرة.
يتسع قوس هذه السردية، بداية من عالم الطفولة ودهشة الانفتاح بدخوله دور العرض لأول مرة، قائلاً: «لم أفكر أن هذا السحر سيكون بساطًا يحملني، وأنتقل وراءه، إلى بلاد بعيدة، من الهند شرقًا إلى هولندا شمالاً، والمغرب غربًا»، فالسينما كما يراها من خلاصة هذا الترحال «أروع خيال خلقه الإنسان وصدقناه».
يطوف الكتاب في أغلب المهرجانات السينمائية، في الداخل والخارج، منها مهرجان أبوظبي السينمائي، ومهرجان أوسيان سيني فان للسينما الآسيوية والعربية، والمهرجان الوطني الثامن للفيلم بطنجة بالمغرب. وبالداخل: مهرجان القاهرة السينمائي، ومهرجان الأقصر للسينما الأفريقية، ومهرجان القاهرة الدولي لسينما المرأة، والمهرجان القومي للسينما، وبانوراما الفيلم الأوروبي، ومهرجان الإسكندرية.
يستهل القرش كتابه بالحديث عن مهرجان القاهرة السينمائي الذي يُعد الأول في المنطقة العربية، يقول عنه: «كان المهرجان حتى نهاية التسعينات، تحديدًا حتى وفاة رئيسه سعد الدين وهبة، مناسبة ينتظرها عشاق السينما، ويصطف الجمهور أمام دور العرض في انتظار الدخول، ومن ذلك الزحام خرجت مقولة (قصة ولا مناظر؟)، سؤال يلخص الفيلم في إجابة من كلمة واحدة.. هل الفيلم درامي؟ أم يحفل بالمشاهد الساخنة؟ ثم أدركت الشيخوخة المهرجان الذي ورثته وزارة الثقافة، بعد وفاة سعد الدين وهبة، وروضه وزيرها الأسبق فاروق حسني وتابعوه بغير إحسان وموظفو الفنون والثقافة، فانتقل من دفء الشارع إلى فتور دار الأوبرا وأرستقراطيتها».
وعن المهرجانات الأجنبية، يقول عن مهرجان «أوسيان سيني فان للسينما الآسيوية والعربية»، الذي حضر دورتيه عامي 2007 و2012، وشهد الاحتفال بمئوية السينما الهندية: «يتشابه الهنود في قيم عليا: الذوق الرفيع، والابتسام غير المصطنع، وقلة الكلام، وانخفاض الصوت، والصبر وعدم العجلة رغم عدم انتمائهم ولا معرفتهم بثقافتنا العنيفة التي تقول إن العجلة من الشيطان»، لافتًا إلى أن كل ذلك ينعكس في أفلامهم، كما أنهم يحبون الرقص والموسيقى، وهما من عناصر الفن الأساسية. ويختم حديثه بقوله: «في الهند شعب مسكون بالتاريخ. تاريخه ليس عبئًا عليه. لا يتبرأ منه، ولا يباهي به أحدًا، لكنه ذخيرة نفسية مهمة، تغنيه عن استعارة ذاكرة غيره، ليتفرغ لإبداع المستقبل».
ويذكر الكاتب زيارته الأولى للمغرب لحضور المهرجان الوطني الثامن للفيلم بطنجة، في عام 2005، قائلاً في إشارة إلى طغيان اللغة الفرنسية: «ستفاجأ بأن الاستعمار، الذي غادر المغرب قبل نصف قرن، لا يزال يحتفظ بظلال وآثار لغوية، تحاصرك منذ وصولك إلى المطار، إلى أي مكان.. في التاكسي أو المحال التجارية». وينتهز مشاهدته في المهرجان لفيلم «شاهدت اغتيال بن بركة» من إخراج المغربي سعيد السميحي والفرنسي سيرج لوبيرون، ليحدثنا عن المهدي بن بركة «كأيقونة للنضال الوطني، ومحاربة الجهل والفقر والمرض، والتطلع إلى تنمية شاملة تعم البلاد».
ومن اللافت في الكتاب، الربط بين العين الناقدة، والعين السياحية، التي تبرز جماليات المكان والتمتع بها في الأماكن والمدن، ولا تخلو هذه النظرة من مقارنة بين واقع الحال في هذه البلاد، وبلده مصر، فحين يعود للقاهرة يتذكر المغرب في سياق مفارق ساخرة، فيقول متأسيًا: «في المغرب، الشوارع ومحطات القطار نظيفة، لدرجة تدفعك للاشتياق لما تعودت عليه في مصر، من زحام وفوضى وتلوث وغياب للقانون، كأن العشوائية تحولت إلى إدمان».
أيضًا يتطرق الكتاب لقضايا وظواهر أساسية خاصة بالسينما، مثل ظاهرة «دولة النجم» في السينما المصرية، وإلى المعايير الخاطئة في ترسيخ مفهوم النجومية، التي تعتمد في معظمها على الظروف التي تتاح للممثل ولا تتاح لغيره، فيقول عن هذه «الدولة» كما سمّاها: «وسط فورة التصديق المؤقت، لا بد أن تصدق نجمك المفضل في الدور، وكل دور يشبه ما سبقه وما سوف يليه، ولأسباب غامضة لم يتح لفنانين موهوبين مثل زكي رستم ومحمود المليجي وصلاح منصور، أن يصعدوا إلى عرش النجوم، على الرغم من قدرتهم الهائلة على التجدد، والدراسة المتأنية لكل دور، والتوحد التام مع الشخصية، بعيدًا عن أقنعة النجومية، تلك التي يذيبها الزمن في فرزه الصارم للأصيل من المفتعل».
كما يتحدث عن قضايا الرقيب والرقابة مستشهدًا بما حدث أثناء حضوره مهرجان السينما الأفريقية 2012 بمدينة الأقصر، يتطرق إلى دور الرقابة والرقيب في السينما: «وقبل ساعات من عرض فيلم (الخروج من القاهرة) لهشام عيسوي، سنفاجأ بعدم حصوله على ترخيص العرض، ولو للصحافيين والنقاد ولجنة التحكيم، الفيلم في الرقابة، والرقيب خائف، لا يجرؤ على منع الفيلم، وفى الوقت نفسه، يخشى أن يمنحه تصريحًا بالعرض، تركه في مساحة ضبابية ظنها لا تدينه أمام المهرجان والسينمائيين أو السلطة التي يخاف أن يغضبها إذا وافق على عرض فيلم شائك». ويشير القرش صاحب روايتي «النهار» و«أوزير» إلى بعض النقاد السينمائيين الذين نعدهم من ركائز النقد السينمائي في العالم العربي، فيقول عن الناقد سمير فريد: «هذا ناقد أصر منذ منتصف الستينات على أن يتخصص في نقد السينما، حين كان النقد السينمائي والفني جزءًا من هامش اهتمام الناقد الأدبي» (صـ43)، والناقد علي أبو شادي، يقول عنه الكاتب: «محارب لا يستريح، وهب حياته للسينما، وإن شغلته عنها حينًا من الدهر مواقع أخرى فإنه يعود إليها» (صـ80).
ويختم القرش كتابه الشيق بحديث مليء بالأسى والشجن، عن الفنانة الراحلة سعاد حسني، سندريلا السينما المصرية، معبرًا عن مدى حبه وتعلقه بهذه الفنانة التي طالما أسعدتنا بأفلامها التي أثرت بها السينما المصرية، وبكلمات موجزة بليغة، يقول عنها: «محطة سعاد حسنى هي الأكثر أهمية في تاريخ السينما»، وعن انتحارها واللغط الذي أثير بهذا الشأن، يقول: «لهذا اللغط منزوع الذوق والحكمة، معنى إيجابي واحد، فإذا كانت سعاد قد شغلتنا في حياتها، بكل ما تمثله من معانٍ، فإن هذه القيمة باقية، بعد أن آثرت أن تشغلنا مرة أخرى في حياتها الثانية.. بعد الرحيل. طوبى لها».
ويوجه القرش رسالة محبة وصدق إلى القارئ قائلاً: «هذا الكتاب فصول يعوزها المنهج والترتيب، ولا تدعي نضالاً، ولا تتبنى رسالة أكثر من تأكيد محبتي لهذا السحر، عبر كلام من القلب، عن أفلام أو مهرجانات تعرض أفلامًا، وأردت أن أشرك القارئ في المتعة، وأقرب إليه أفلامًا أحببتها، وأنقله إلى أماكن جديرة بمحبته لها».



طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين
TT

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

يحتلّ موقع الدُّور مكانة كبيرة في خريطة المواقع الأثرية التي كشفت عنها أعمال المسح المتواصلة في إمارة أم القيوين. بدأ استكشاف هذا الموقع في عام 1973، حيث شرعت بعثة عراقية في إجراء حفريّات تمهيديّة فيه، وتبيّن عندها أن الموقع يُخفي تحت رماله مستوطنة تحوي بقايا حصن. جذب هذا الخبر عدداً من العلماء الأوروبيين، منهم المهندس المعماري البريطاني بيتر هادسون، الذي قام بجولة خاصة في هذا الموقع خلال عام 1977، وعثر خلال تجواله على طبق نحاسي علاه الصدأ، فحمله معه، واتّضح له عند فحصه لاحقاً أنه مزيّن بسلسلة من النقوش التصويرية تتميّز بطابع فنّي رفيع.

وجد بيتر هادسون هذا الطبق في ركن من جهة جنوب شرقي الموقع، وحمله بعد سنوات إلى الشارقة حيث كشفت صور الأشعّة عن ملامح حلية تصويرية منقوشة غشيتها طبقة غليظة من الصدأ. نُقلت هذه القطعة المعدنية إلى كلية لندن الجامعية، وخضعت هناك لعملية تنقية وترميم متأنية كشفت عن تفاصيل زينتها التصويرية بشكل شبه كامل. يبلغ قُطر هذه القطعة الفنية نحو 17.5 سنتيمتر، وعمقه 4.5 سنتيمتر، وتتألّف قاعدة حليته التصويرية من دائرة ذات زينة تجريدية في الوسط، تحوطها دائرة ذات زينة تصويرية تزخر بالتفاصيل الدقيقة. تحتل الدائرة الداخلية الصغرى مساحة قاع الطبق المسطّحة، ويزينها نجم تمتدّ من أطرافه الخمسة أشعة تفصل بينها خمس نقاط دائرية منمنمة. تنعقد حول هذا النجم سلسلتان مزينتان بشبكة من النقوش، تشكّلان إطاراً لها. ومن حول هذه الدائرة الشمسية، تحضر الزينة التصويرية، وتملأ بتفاصيلها كل مساحة الطبق الداخلية.

تتمثّل هذه الزينة التصويرية بمشهد صيد يحلّ فيه ثلاثة رجال، مع حصانين وأسدين، إضافةً إلى أسد مجنّح له رأس امرأة. يحضر رجلان في مركبة يجرها حصان، ويظهران متواجهين بشكل معاكس، أي الظهر في مواجهة الظهر، ويفصل بينهما عمود ينبثق في وسط هذه المركبة. يُمثّل أحد هذين الرجلين سائق المركبة، ويلعب الثاني دور الصياد الذي يطلق من قوسه سهماً في اتجاه أسد ينتصب في مواجهته بثبات، رافعاً قائمته الأمامية اليسرى نحو الأعلى. من خلف هذا الأسد، يظهر صياد آخر يمتطي حصاناً، رافعاً بيده اليمنى رمحاً طويلاً في اتجاه أسد ثانٍ يرفع كذلك قائمته الأمامية اليسرى نحوه. في المسافة التي تفصل بين هذا الأسد والحصان الذي يجرّ المركبة، يحضر الأسد المجنّح الذي له رأس امرأة، وهو كائن خرافي يُعرف باسم «سفنكس» في الفنين الإغريقي والروماني.

يحضر كل أبطال هذا المشهد في وضعية جانبية ثابتة، وتبدو حركتهم جامدة. يرفع سائق المركبة ذراعيه نحو الأمام، ويرفع الصياد الذي يقف من خلفه ذراعيه في وضعية موازية، ويبدو وجهاهما متماثلين بشكل متطابق. كذلك، يحضر الأسدان في تأليف واحد، ويظهر كل منهما وهو يفتح شدقيه، كاشفاً عن لسانه، وتبدو مفاصل بدنيهما واحدة، مع لبدة مكونة من شبكة ذات خصل دائرية، وذيل يلتفّ على شكل طوق. في المقابل، يفتح «سفنكس» جناحيه المبسوطين على شكل مروحة، وينتصب ثابتاً وهو يحدّق إلى الأمام. من جهة أخرى، نلاحظ حضور كائنات ثانوية تملأ المساحات الفارغة، وتتمثّل هذه الكائنات بدابّة يصعب تحديد هويتها، تظهر خلف الأسد الذي يصطاده حامل الرمح، وطير يحضر عمودياً بين حامل القوس والأسد المواجه له، وطير ثانٍ يحضر أفقياً تحت قائمتَي الحصان الذي يجر المركبة. ترافق هذه النقوش التصويرية كتابة بخط المسند تتكون من أربعة أحرف، وهذا الخط خاص بجنوب الجزيرة العربية، غير أنه حاضر في نواحٍ عديدة أخرى من هذه الجزيرة الواسعة.

يصعب تأريخ هذا الطبق بشكل دقيق، والأكيد أنه يعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد، ويُشابه في الكثير من عناصره طَبَقاً من محفوظات المتحف البريطاني في لندن، مصدره مدينة نمرود الأثرية الواقعة قرب الموصل في شمال العراق. كما على طبق الدُّوْر، يحضر على طبق نمرود، صيادٌ برفقة سائق وسط مركبة يجرها حصانان، ملقياً بسهمه في اتجاه أسد يظهر في مواجهته. يحضر من خلف هذا الأسد صياد يجثو على الأرض، غارساً رمحه في قائمة الطريدة الخلفية. في المسافة التي تفصل بين هذا الصياد والحصانين اللذين يجران المركبة، يحضر «سفنكس» يتميّز برأسٍ يعتمر تاجاً مصرياً عالياً.

ينتمي الطبقان إلى نسق فني شائع عُرف بالنسق الفينيقي، ثمّ بالنسق المشرقي، وهو نسق يتمثل بمشاهد صيد تجمع بين مؤثرات فنية متعددة، أبرزها تلك التي تعود إلى بلاد الرافدين ووادي النيل. بلغ هذا النسق لاحقاً إلى جنوب شرق الجزيرة العربية حيث شكّل نسقاً محلياً، كما تشهد مجموعة من القطع المعدنية عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عدة تعود اليوم إلى الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان. وصل عدد من هذه القطع بشكل كامل، ووصل البعض الآخر على شكل كسور جزئية، وتشهد دراسة هذه المجموعة المتفرّقة لتقليد محلّي تتجلّى ملامحه في تبنّي تأليف واحد، مع تعدّدية كبيرة في العناصر التصويرية، تثير أسئلة كثيرة أمام المختصين بفنون هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر مشهد صيد الأسود في عدد من هذه القطع، حيث يأخذ طابعاً محلياً واضحاً. يتميّز طبق الدُّوْر في هذا الميدان بزينته التي يطغى عليها طابع بلاد الرافدين، ويمثّل كما يبدو مرحلة انتقالية وسيطة تشهد لبداية تكوين النسق الخاص بجنوب شرقي الجزيرة العربية.