في مديح الجوائز الأدبية وكراهيتها.. تجربة شخصية

يحلم بها المثقف العربي ويتظاهر بإدارة الظهر لها ويبالغ في انتقادها

من احتفال البوكر في دورتها التاسعة للعام الحالي 2016
من احتفال البوكر في دورتها التاسعة للعام الحالي 2016
TT

في مديح الجوائز الأدبية وكراهيتها.. تجربة شخصية

من احتفال البوكر في دورتها التاسعة للعام الحالي 2016
من احتفال البوكر في دورتها التاسعة للعام الحالي 2016

كل الجوائز الأدبية في العالم عرفت نوعًا من الخلاف؛ من «نوبل» التي تشرف عليها الأكاديمية السويدية، إلى جائزة «الطيب صالح»، مرورًا بـ«البوكر العربية»، و«كتارا»، و«ساويرس»، وعشرات الجوائز الأقل أهمية. في الغرب، تأتي المواقف من الجوائز بسِمات بلدانها، وطرق مثقفيها في التعبير عن خلافاتهم التي تعكس تقاليد وثقافات باتت راسخة. بين المثقفين العرب، تكتسب الاتفاقات والخلافات ملامح مجتمعاتهم، وتعبر عن موروثهم وراهنهم أيضًا.
منذ عام 1901 وحتى 1912، عكست اختيارات نوبل، المزاج السياسي للأكاديمية السويدية. ونتج عن ذلك رفض منح جائزة الأدب إلى الروسي ليو تولستوي، والمسرحي النرويجي هنريك ابسون، والروائي الفرنسي إميل زولا، والأميركي الساخر، مارك توين. وكان غياب تعاطف السويد تقليديا، مع روسيا - على ما تردد - سببا في عدم فوز أنطون تشيخوف أيضا. أما تحيز الأكاديمية لبلدها، فقاد إلى منح الجائزة للسويد نفسها، مرّات تفوق مجمل ما منحته لبلدان آسيا كلها، والقول ليس لي.
ولم يمر فوز البوريفي، ماريو فارغاس يوسّا، بـ«نوبل» عام 2010، من دون خلافات سببتها آراؤه السياسية. كما رفضت الأكاديمية السويدية، دعم البريطاني، سلمان رشدي، عام 1989، بعد فتوى الخميني، وأدى ذلك إلى احتجاج أعضاء في الأكاديمية واستقالتهم.
أما بريطانيا، ولديها أكثر من 60 جائزة، فلم تكن جائزتها الأبرز، «مان بوكر»، بعيدة عن الخلافات. فعندما أعلنت القائمة الطويلة العام الحالي، مدحها رئيس لجنة التحكيم، روبرت ماكفيرلين، ووصفها بـ«الأكثر تنوعا»، لوجود سبع نساء فيها، من بين ثلاث عشرة، وتوزعها على سبعة بلدان. وقال إن هذه الشمولية قد تعكس الرغبة في تجنب الخلافات الكثيرة؛ فقد وصفت ذات مرة بالنخبوية، وهي التي يفترض بها أن تمثل خمسين بلدا. وفي عام 1980، تنافس أديبان بريطانيان عملاقان. وأصر أحدهما، وهو أنطوني بيرغيس، الذي رشح عمله Earthy powers، على عدم حضور حفل التتويج، ما لم تضمن له لجنة التحكيم الفوز. لكن حتى حبك مؤامرة لتلبية طلب بيرغيس الغريب، لم يكن ممكنا. فبالإضافة إلى عدم أخلاقيته، فالقرار اتخذ قبل إعلان النتيجة بنصف ساعة فقط، وربح الجائزة منافسه وليم غولدنغ بعمله Rites of passage. وفي عام 1983، لجأت لجنة التحكيم، وعلى رأسها فاي ولدن، إلى التصويت، وانقسمت إلى فريقين: اثنان إلى جانب جي إم كويتزي، وعمله (Life and time of Michael k)، واثنان إلى جانب رواية سلمان رشدي shame، لكن رئيسة لجنة التحكيم، غيّرت رأيها الذي كان إلى جانب رشدي، قبل دقائق من إعلان النتيجة، ومنحته لكويتزي.
وفي عام 2001، أطلقت الكاتبة الاسكوتلندية آي إل كينيدي، كلمات قاسية بحق «المان بوكر». واعتبرتها «كلاما فارغا». لم تتّهم لجنة التحكيم بالفساد، لكنّها قالت ما هو أسوأ: «إن ما تحكّم في اختيار الفائز، هو عقلية: مَنْ يعرف مَن، ومن ينام مع مَن، ومن يبتاع الحشيش لمن، ومن متزوج مِن مَن، ولمن الدور».
ومن أطرف الاعتراضات، ما حدث عام 1993، عندما هددت عضوتان في لجنة التحكيم، بالانسحاب احتجاجًا على ما وصفتاه بإيذاء رواية «Trainspotting» لايرفين ويلش، لمشاعرهما الأنثوية، إذ تضمنت كلاما سوقيا. في عام 2015، سيطر الأميركيون على القائمة الطويلة لـ«المان بوكر». فقد وصل إليها خمسة أميركيين، بينما لم يصل من الإنجليز سوى ثلاثة. ووصل واحد لكل من آيرلندا، ونيجيريا، والهند، ونيولاند، وجامايكا. ووصف الوكيل الأدبي المعروف، ديفيد غودوين، النتيجة بأنها «تراجيديا بالفعل». ووصف آخرون تغيير قانون الجائزة وتوسيعها لتشمل مشاركة دول أخرى ناطقة بالإنجليزية، بـ«الخاطئ الذي من شأنه أن يغير هوية الجائزة».
* البوكرابيا
في 16 نوفمبر (تشرين الثاني) 2009، أعلنت القائمة الطويلة لجائزة «البوكر»، وأحب أن أسميها «بوكرابيا» (وهذا ليس موقفًا) وبينها روايتي «السيدة من تل أبيب». واندلع جدل إعلامي واسع حول النتائج، اتخذ منحى دراميًا، صبيحة يوم إعلان القائمة القصيرة في بيروت، إذ فتح النهار عينيه على استقالة المصرية عضو لجنة التحكيم، د. شيرين أبو النجا، محتجة على «غياب المعايير النقدية». وقالت، مخالفة تقاليد عمل لجان التحكيم وأمانتها، إنها تعترض على روايتي ربيع جابر «أميركا»، وربعي المدهون «السيدة من تل أبيب». الأولى لأسباب فنيّة، والثانية لأنها «تكرّس صفحات لمديح زعيم عربي راحل». ولم يكن ما أشارت إليه حقيقة، سوى سطور قليلة وردت على لسان بطل روايتي وليد دهمان، عبّرت عن إعجابه بتجمع سكني لافت في بيت لاهيا، في قطاع غزة، ينتصب وسط خراب بشع أحدثته قذائف الدبابات الإسرائيلية. وقد قيل له إنها «مدينة الشيخ زايد، التي بُنِيت بتبرعات من دولة الإمارات العربية المتحدة، لإسكان أسر شهداء وجرحى ومعوقّين»، وكان واحدًا من أجمل مشاهد الرواية.
ومع فوز «مصائر»، وهي أول رواية فلسطينية تنال الجائزة، اندلعت بين مواقع ثقافية وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، معارك «حرب وسلام»، اتسمت بالعنف اللفظي الجارح، الذي قابله ترحيب كبير واحتفاء، وكتابات نقدّية ومراجعات موضوعية، لم تخلُ، بالطبع، من ملاحظات تقع في خانة الاختلاف، وتستحق المناقشة.
* هنا بعض العناوين
يكتب ناقد فلسطيني: «المدهون يكتب الرواية الفلسطينية الشاملة، التي أضافت إلى الثلاثي غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي، بعدًا جديدًا». فيكتب صحافي مصري: «كيف تكون روائيا فاشلا وتحصل على (البوكر)». ويصف وزير الثقافة، د. إيهاب بسيسو «مصائر»، قبل الفوز، بـ«التجربة الروائية المميزة التي تنحت سردًا خاصًا ومغايرًا حول فلسطين والنكبة»، ويعدّها «رواية ذكية، مغامرة، جريئة، ومحرضة على الأسئلة، ولا تركض خلف الشعار»، ويعتبرها الرئيس محمود عباس، ووزارة الثقافة الفلسطينية، «إنجازًا مهمًا»، ويكرم صاحبه، فتلطم فلسطينية خديها صارخة: «مصائر المدهون.. النكبة ونكبة (البوكر)».
ونقرأ لناقد أدبي وفني مصري: «(مصائر).. رواية العودة إلى فلسطين والبقاء هناك». ويكتب ناقد وروائي فلسطيني: «الطريق أصبحت سالكة للتطبيع». ويكتب فلسطيني: «(مصائر).. رواية تختصر الماضي والحاضر وأمنيات المستقبل». فيكتب مصري: «(مصائر) المدهون وصهينة التّاريخ الفلسطيني».
ونال لجنة التحكيم انتقادات كثيرة. فاتهمت باعتماد معايير سياسية وأخرى إقليمية في اختيار «مصائر». وهي تهمة مزدوجة تتكرر، سنويًا، مع إعلان نتائج كل دورة. الطريف في الأمر، أن أحد «الانتقاديين» السابقين، سرق فقرات كاملة من «الدراسة الأكاديمية» - إياها - لدعم مقاله، ولم يُشِر إلى مصدرها. فيما سرق آخر من مقالين آخرين فقرات كاملة، وحاك مقالاً ثالثًا. ولعب الشعبويون الغوغائيون هؤلاء، على حساسية الفلسطينيين والعرب لموضوع «الهولوكوست» - وهي حساسية مفهومة - واتهموني بـ«المساواة بين نكبة 1948 والهولوكوست»، و«إسقاط حق العودة» (في الرواية جميع الأبطال يعودون، بمن فيهم إيفانا التي توصي بحرق جثتها وإعادة نصف رمادها إلى عكا).
ولم يدرك هؤلاء «الانتقاديون» أنهم يلتقون مع إسرائيل وأنصارها في العالم. فما اعتبره أغلبهم «تطبيعًا»، و«إسقاطًا لحق العودة»، و«تقليلاً من نكبة 1948»، اعتبره نفر من أنصار إسرائيل، شكلاً من أشكال «العداء للسامية»، وكراهية إسرائيل. وشنوا حملة صحافية عنيفة ضدي، خلال مشاركتي في مهرجان برلين للأدب العالمي، عنوانها: «كراهية إسرائيل، وعدم الاعتراف بها، ومساواة النكبة (التي تعني تدمير إسرائيل بمفهومهم) بالهولوكوست».
في استفتاء نشره أحد المواقع الإلكترونية، وفي مقالات نشرتها صحف عربية، صور مدهشة وصادمة أيضًا، لمديح بعض المثقفين العرب للجوائز وكراهيتهم لها أيضًا**:
* في المديح
يقول ناقد فلسطيني، إن البوكر «جاءت بطموح أكثر اتساعًا (من جوائز سبقتها)، اعتمادًا على إمكانات مادية وجهاز إداري ذي خبرة، وارتباطا بجائزة أدبية بريطانية مرموقة. وبدت، في قبول أقرب إلى البداهة، جائزة الرواية العربية الأولى».
ويرى روائي عراقي، أن البوكر «أفادت السرد العربي كثيرًا». بينما تؤكد روائية مصرية، أن الجائزة «تطرح اسم الكتّاب الواصلين بقوة على الساحة العربية، وتساهم في الحراك الإبداعي».
ويشيد أكاديمي وروائي جزائري، بالنكهة المميزة للجوائز، والطعم الخاص للتكريمات. ويعتبر ذلك حقيقة «لا ينكرها من الكتاب إلا كذاب».
ولا يختلف شاعر وروائي سوري مع السابقين حول أهمية الجائزة، «من حيث تأثيرها، وانعكاساتها على الحياة الثقافية والنتاج الإبداعي العربي في مجال الرواية». ويقول روائي مصري إن البوكر «فتحت باب الجوائز بقوة، كما صنعت زخمًا كبيرًا للرواية». أما اللبناني، الذي قدَّم نفسه كـ«روائي ناشئ»، فعدّ البوكر «حلمًا يحلم كل روائي بالحصول عليه، لما في ذلك من قوة دفع»، فالجائزة تقدمه «للانطلاق نحو العالمية».
ويعتقد روائي عراقي آخر، بأنها «أحدثت حراكًا في عالم الرواية العربية، وساهمت في جذب عدد من القراء إلى الرواية، بعد أن اتسعت الهوة بين القارئ والكتاب، وهذا يحسب لها». ويذهب روائي وشاعر فلسطيني، أبعد من الآخرين، حين يعتبر البوكر «لاعبا مهما، وتمتلك دورا مركزيا في تشكيل الوعي والاهتمام بالرواية العربية. وتشكل مرشدا للقراء.. وهي تهيئ فرصة ظهور إعلامي، ومجالا للتسويق والتوزيع (...) قد لا يحظى بها كتاب أمضوا عشرات السنين في الكتابة».
ويرى روائي عراقي ثالث، أن البوكر «لعبت دورا كبيرا في تصدر الفن الروائي المشهد الإبداعي في العالم العربي، وحققت شهرة ونجومية للفائزين بها». ويقول روائي مصري آخر: «إن (البوكر) في غاية الأهمية، إذ إنها تلقي الضوء بقوة على الروايات التي تتضمنها قائمتاها الطويلة والقصيرة، فضلاً عن الرواية الفائزة. ولقد ساهمت في رواج الشكل الروائي من الكتابة الأدبية».
* في الكراهية
يقول الروائي العراقي الأول: إن «البوكر» تعتمد ترشيح الناشر لثلاث روايات، أي أنها تخضع لفهم الناشر المالي للفن الروائي، ومزاجه الشخصي، وعلاقاته الخاصة بالكتاب الروائيين، وحساباته الخاصة بالربح والخسارة. ثم هي تخضع لهيمنة لجان التحكيم ومفاهيمها النقدية الخاصة، التي كثيرًا ما تكون مثيرة للتساؤل والريبة. بينما يرى مسرحي وروائي سعودي، أن كل الجوائز «علاقات عامة ترويجية وتُعطى دون تقييم دقيق». ويرى آخر أن سعي الكثيرين إلى الجوائز، يعود إلى الفرصة التي تقدمها للعمل الفائز بالانتشار والترويج والعالمية.
ويقول: «أحب أن يترشح عملي لجائزة ما وأن يفوز». لكنه يكمل: «غير أنني أفضل غياب الجوائز لصالح (ما سماه) حرية تعبير ونشر غير محدودة». وينتقد الروائي المصري لجان التحكيم، ويقول إن عامل ضعفها الرئيسي هو ضعف لجان التحكيم نفسها. وقدم مثالاً على ذلك، بما ظهر في عام 2013، التي «شارك فيها ناقد عراقي لا يعرف معنى الرواية». ويدعو إلى قراءة الروايات بعدل ونزاهة. ثم ينتقد «المناطقية»، وتوزيع الرواية بين الدول.
ويختتم: «المصيبة ألا تحصد روايات ممتازة ما تستحقه». ويقول روائي سوري: «إن من حق أعضاء لجان التحكيم، الانطلاق من ذائقاتهم الأدبية والاحتكام إليها في خياراتهم. لكن عدم تبرير الاختيار بإقناع (إقناع مَن؟)، أو التبرير بطريقة عشوائية (بتقييم مَن)؟! يسيء إلى الذائقة نفسها، والانطباع الذي يخلفه، هو أنه ينطلق من قراءة انطباعية».. كيف توصل الروائي السوري إلى هذا الاستنتاج؟! أما مواطنته الروائية، فتفتي قائلة إن «آلية اختيار الأعمال الفائزة ليست آلية علمية». ولديها دليل قاطع على ذلك، هو وصول أعمال إلى القائمة القصيرة (يجمع القراء على رداءتها)». ولاحظت خلال بحثي في الموضوع أن نسبة من «مالكي الحقيقة» العارفين بالمحكّمين، القارئين لأفكارهم، المتحسسين لمشاعرهم لم يقرأ الأعمال التي يتحدث عنها. ومن قرأ، صار مصدرًا للقيم والمعايير النقدية وغير النقدية وحارسًا.
هنا نص، لروائي عربي معروف، يختصر كل ما سبق: «أي رواية من الروايات الفائزة بجائزة (البوكر)، لم تكن لتستحق، من وجهة نظري، أن تفوز بجائزة. فرواية (واحة الغروب) جميلة، لكنها أقل من أن تفوز بجائزة. و(عزازيل) عميقة، لكنها رواية هجائية وغير مهذبة تجاه بعض الأفكار (...) و(ترمي بشرر) تتبنى مفهومًا باليًا للفن الروائي (الكشف والتعرية). ورواية (طوق الحمام) منفوخة، ولغتها غير فاعلة ولا تفي بالفكرة بأحسن ما يكون. ورواية (دروز بلغراد) لغتها ضعيفة جدًا، وأخطاؤها في التركيب تغثّ القارئ. أما (ساق البامبو)، و(فرنكشتاين في بغداد)، فهما مثالان واضحان على الرواية التي لا تعي ما تريد أن تقول، وكاتباها مثالان جليان للجيل العربي الذي يكتب من دون أي تصور للرواية. إنه يكتب فقط من دون أن يكون له تصور واضح عما يكتبه. ما كان لهذه الروايات أن تفوز لو أن المحكّمين كانوا على قدر كافٍ من التأهيل لقراءة الرواية».
حقًا، يحتاج إلى 45 محكمًا، كانوا، حتى الدورة الأخيرة لـ«البوكر»، أعضاء لجان تحكيم فيها، بينهم، على الأقل، نقاد معروفون، وأكاديميون، ومحررو صفحات ثقافية، وشعراء، وأساتذة جامعة، إلى دورات تأهيل وتدريب، يشرف عليها «الانتقاديون».
واستنتج: «مقابل عقلانية الانتقادات في الغرب، التي يضبطها قانون ينزل عقوبات ويفرض غرامات، على التطاول والذم والشتم والتشهير، تركض في شوارع العرب الثقافية، فوضى أخلاقية لا يضبطها قانون، تسمح بشخصنة الأمور، و(دعوشتها)، واستباحة السمعة والمكانة، خصوصًا في المواقع الإلكترونية المنتشرة مثل العشوائيات، وفي ظل (ديمقراطية) صفحات التواصل الاجتماعي».
الكتّاب بشر، ولجان التحكيم بشر، لهم أهواؤهم وميولهم وذائقاتهم المختلفة، وسلبياتهم، وكذلك النقاد والحركة النقدية، والقراء أيضًا. لا عدالة مطلقة، ولا لجان تحكيم من جنس الملائكة. لكن شيئًا من العقلانية مطلوب، لتجاوز الانتقادات والملاحظات التي لا يخلو بعضها من صحة. ومع ذلك، أقول إن المرشحين الستة لـ«البوكر» عام 2010، استقبلوا النتيجة بشكل عادي، ورحبوا بالفائز في حينها، عبده خال عن روايته «ترمي بشرر». بينما نشأت صداقة مدهشة بين المرشحين الستة هذا العام، جورج يرق، وطارق بكاري، ومحمد ربيع، ومحمود شقير، وشهلا العجيلي، وربعي المدهون، وكل منهم تمنى الفوز للآخر بصدق. والتقيت رئيس الأمانة العامة د. ياسر سليمان، ورئيسة لجنة التحكيم، الدكتورة أمينة ذيبان وبقية أعضاء اللجنة، فرادى، صبيحة يوم إعلان النتيجة، وقد حافظوا جميعهم على سرية قرار اللجنة، الذي تبين، بعد ذلك، أنهم اتخذوه بالإجماع. حقًا، إن ما يجري داخل لجان الجائزة، بعيد تماما جدا عما يجري خارجها. وما تخطئه في اختيارها أدنى من مستوى جرائم بعض المثقفين وأقل تأثيرًا. في مقال له في «الجزيرة. نت»، كتب الروائي السوداني، أمير تاج السر: «(البوكر) حبيبة الجميع وجائزة الجميع المفضلة، وحتى من ينتقدها في العام الذي لا تدخل فيه رواية له في القوائم، يأتي ويمتدح سلالتها كلها حين يدخل عمل آخر له في دورة ثانية». أنا أتمسك بما كتبه أمير.
* المقال اعتمد على نص محاضرة أُلقِيَت في مركز الشيخ إبراهيم الثقافي في المنامة بالبحرين في 3 أكتوبر (تشرين الأول) 2016



كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
TT

كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته

الروائي والمُنَظِّر الما بعد كولونيالي، الكيني نغوغي واثيونغو، (يتوسط الصورة). يقف مائلاً بجذعه إلى الأمام، ميلاً يكاد لا يُدرك، باسطاً كفيه على كتفي ابنته وانجيكو وا نغوغي (يمين الصورة)، وابنه موكوما وا نغوغي (يسار الصورة)، كأنما ليحتضنهما أو ليتأكد من وجودهما وبقائهما أمامه، أو يتوكأ عليهما بدلاً من التوكؤ على العصا التي ربما أسندها إلى الجدار خلفه، أو في أي بقعة من المكان.

الصورة لقطة لاجتماع عائلي صغير، اجتماع ربما لا يتكرر كثيراً ودائماً ولوقت طويل بين أب يعيش وحيداً إلّا من رفقة كلبه في مدينة «إرفاين» في كاليفورنيا، وابن يقيم في مدينة «إثاكا»، حيث يعمل أستاذاً للأدب في جامعة كورنيل، وابنة استقر بها المقام في مدينة أتلانتا، حيث تعمل أستاذاً للكتابة الإبداعية في كلية الفنون الجميلة في ولاية جورجيا. شتات أسري صغير، نموذج من الشتات الأفريقي (الما بعد كولونيالي) الكبير، تتخلله لحظات مثل لحظة التقائهم في الصورة لحدث يظهر خلاله الشبه بينهم، الشبه العصي على الشتات تبديده ومحوه.

الحدث فعالية توقيع موكوما لروايته الرابعة «انبشوا موتانا بالغناء»، شخصياً أفضل «انبشوا قبور موتانا بالغناء»، وتوقيع وانجيكو لروايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر» أو «فصول في بلاد فرس النهر». لا يحتاج إلى تأكيد أن عنواني الروايتين قابلان لأكثر من ترجمة. وبقدر ما تبرز الصورة، أو الحدث في الصورة، من تشابه بين الثلاثة، تقوم بوظيفة المعادل الموضوعي البصري لهذه المقالة التي تجمعهم.

النضال باللغة الأم

لكن هنالك ما لا تظهره الصورة، ولا توحي به. أقصد المفارقة التي يشكلها حضور نغوغي واثيونغو حفل توقيع روايتين مكتوبتين باللغة الإنجليزية لاثنين من أبنائه، اللغة التي توقف عن الكتابة الإبداعية بها في أواخر سبعينات القرن الماضي؛ وكان مثابراً في الدعوة إلى التوقف عن الكتابة بها.

كان قرار نغوغي التوقف عن الكتابة بالإنجليزية والتحول إلى الكتابة بلغته الأم سبباً مباشراً من أسباب اعتقاله والزج به في سجن الحراسة المشددة، عشية السنة الجديدة في عام 1977. كان ابنه موكوما في السابعة من عمره عندما ألقت السلطات الكينية القبض عليه بعد ستة أسابيع من النجاح الشعبي المدوي الذي حققه عرض مسرحيته المكتوبة بلغة «جيكويو»: «سأتزوج عندما أريد»، مسرحية أدّاها ممثلون غير محترفين من الفلاحين، واستهدفت بالانتقاد النخبة الحاكمة الكينية، مما دفع الحكومة إلى اعتقاله تحت ذريعة تشكيله خطراً على البلاد.

في زنزانته التي تحَوَّل فيها إلى مجرد رقم (K677)، وكفعل تحدٍ للسلطة أولاً، وكأداة للمقاومة والنضال من أجل تحرير العقل من الاستعمار ثانياً، بدأ نغوغي، وعلى ورق التواليت، في كتابة روايته الأولى بلغته الأم «شيطان على الصليب». يروي أن ورق التواليت كان مكدساً رصاتٍ تصل سقف الزنزانة، ورق قاس وخشن كأنما أُرِيد أن يكون استخدامه عقاباً للسجناء.

إن توقف نغوغي عن الكتابة بالإنجليزية بعد مرور ما يزيد على عشر سنوات من انعقاد «مؤتمر ماكيريري للكُتّاب الأفارقة الذين يكتبون باللغة الإنجليزية»، وضعه على مفترق طرق في علاقته مع «الماكيريريين»، الذين آمنوا بحتمية وأهمية الكتابة باللغة الإنجليزية، وفي مقدمتهم صديقه الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي. ورغم تعكر صفو العلاقة بينهما ظل نغوغي يكنّ الاحترام لأتشيبي ومعترفاً بفضله عليه. فأتشيبي أول شخص قرأ روايته الأولى «لا تبكِ أيها الطفل» حتى قبل أن يكمل كتابتها، عندما حملها مخطوطة مطبوعة إلى مؤتمر ماكيريري أثناء انعقاده في جامعة ماكيريري في العاصمة الأوغندية كامبالا، في يونيو (حزيران) 1962. وكان له الفضل في نشرها ضمن سلسلة هاينمان للكُتّاب الأفارقة.

يقول نغوغي واثيونغو لمواطنه الكاتب كيري بركه في حوار نشر في صحيفة «ذا غارديان» (2023-6-13): «قال أتشيبي إن اللغة الإنجليزية كانت هدية. لم أوافق... لكنني لم أهاجمه بطريقة شخصية، لأنني كنت معجباً به كشخص وككاتب». أتوقع لو أن أتشيبي على قيد الحياة الآن، لعاد للعلاقة بين عملاقي الرواية في أفريقيا بعض صفائها، أو كله. فموقف نغوغي الرافض للاستمرار بالكتابة بلغة المستعمر، فَقَدَ (أو) أفقدته الأيام بعض صلابته، ويبدو متفهماً، أو مقتنعاً، وإن على مضض، بأسباب ومبررات الكتابة الإبداعية بالإنجليزية. فجلاء الاستعمار من أفريقيا، لم يضع - كما كان مأمولاً ومتوقعاً - نهاية للغات المستعمر، كأدوات هيمنة وإخضاع وسيطرة، فاستمرت لغاتٍ للنخب الحاكمة، وفي التعليم.

قرار نغوغي واثيونغو الكتابة باللغة التي تقرأها وتفهمها أمة «وانجيكو» قسم حياته إلى قسمين، ما قبل وما بعد. قِسْمٌ شهد كتاباته باللغة الإنجليزية الممهورة باسم «جيمس نغوغي»، وكتاباته بلغة «جيكويو» باسم نغوغي واثيونغو، تماماً كما قسّم مؤتمر ماكيريري تاريخ الأدب الأفريقي والرواية الأفريقية إلى ما قبل وما بعد - الموضوع الرئيس في كتاب ابنه موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية».

في نهضة الراوية الأفريقية

من البداية إلى النهاية، يرافق «مؤتمر ماكيريري» قارئَ كتاب موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية... طرائق اللغة والهوية والنفوذ» (الصادر في مارس (آذار) 2024) ضمن سلسلة «عالم المعرفة» للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت). وترجمه إلى العربية الأكاديمي والناقد والمترجم البروفسور صديق محمد جوهر. لم يكن كتاب نغوغي الابن الباعث على كتابة المقالة فحسب، وإنما المحفز أيضاً، حتى قبل البدء في قراءته، على قراءة رواية شقيقته وانجيكو وا نغوغي «مواسم في بلاد أفراس النهر»، وكانت ترقد على الرفّ لبعض الوقت في انتظار قراءة تهرب إلى الأمام باستمرار. فكان أن قرأت الكتابين في الوقت نفسه، منتقلاً من أحدهما إلى الآخر، بينما صورة نغوغي الأب، أو طيفه يحوم في أفق القراءة، ما جعلني أُسَلِّمُ بأن لا مفرَّ من جمع الثلاثة في مقالة واحدة، وقد وهبتِ الصورة نفسَها معادلاً موضوعياً بصرياً لها.

مؤتمر ماكيريري بآثاره وانعكاساته على الأدب الأفريقي هو الموضوع الرئيس في «نهضة الرواية الأفريقية». كانت المهمة الأولى على أجندة المجتمعين في كمبالا، الذين استثنوا من الحضور كل الذين يكتبون بغير الإنجليزية، تطويق الأدب الأفريقي بحدود التعريف. ولأنه لا توجد حدود دون نشوء لثنائية الداخل - الخارج، فإنهم لم يقصوا الآداب الأفريقية بلغات المستعمر الأخرى فحسب، بل أبقوا خارج الحدود كل الأعمال الأدبية المنشورة باللغات المحلية التي نشرت قبل 1962. على اعتبار أن كل ما سبق ماكيريرى من ثمانينات القرن التاسع عشر كان خطابة.

ينتقد موكوما أدباء ماكيريري على تعريفهم الضيق والإقصائي للأدب الأفريقي، ويدعو إلى أدب أفريقي بلا حدود، يشمل الكتابات المبكرة، وآداب الشتات الأفريقي، والقص الشعبي «popular fiction»، وإلى تقويض التسلسل الهرمي الذي فرضته «الإمبراطورية الميتافيزيقية الإنجليزية»، التي امتد تأثيرها إلى ما بعدَ جلاء الاستعمار، ولم يسلم موكوما نفسه ومجايلوه من ذلك التأثير، فقد نشأ في بيئة معادية للغات الأفريقية. من الأسئلة التي قد تبزغ في ذهن القارئ: ألم يمارس موكوما الإقصاء أيضاً؟ فقد انتقد «أصحاب ماكيريري»، ولم ينتبه إلى أن كتابه «نهضة الرواية الأفريقية» لم يتسع للرواية الأفريقية باللغة العربية وبلغات الاستعمار الغربي الأخرى في أفريقيا.

الأشياء لم تتغير في «فيكتوريانا»

بإزميل حاد نحتت وانجيكو وا نغوغي عالم القصة في روايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر»، فجاءت لغتها سهلة وسلسلة، توهم بأن القارئ لن يواجه أي صعوبة في قراءتها. في هذا العالم تتمدد دولة «فيكتوريانا» على مساحة مناطقها الثلاث: ويستفيل ولندنشاير وهيبولاند، ويتربع فيها على عرشه «إمبراطور مدى الحياة». تقدم الرواية «فيكتوريانا» كصورة للدول الأفريقية، التي شهدت فساد وإخفاقات النخب الحاكمة وإحباط آمال الجماهير بعد الاستقلال.

الحكاية في «مواسم في بلاد أفراس النهر»، ترويها بضمير المتكلم الشخصية الرئيسة (مومبي). تبدأ السرد من سن الثالثة عشرة، من حدث له تأثير كبير في حياتها. فبعد افتضاح تدخينها السجائر مع زميلاتها في المدرسة قبل نهاية العام الدراسي بأيام، يعاقبها والداها بإرسالها برفقة شقيقها من «ويستفيل» إلى «هيبولاند» حيث تعيش عمتها سارة.

العمة سارة حكواتية انخرطت في شبابها في حركة النضال ضد المستعمرين، وبعد الاستقلال، وظفت قصصها لبث الأمل والشجاعة وتحريك الجماهير ضد الإمبراطور. الحكاية التي ترويها مومبي هي قصة نموها وتطورها إلى «حكواتية» ترث عن سارة رواية القصص، والتدخل في شؤون الإمبراطورية، لينتهي بها المطاف في زنزانة في سجن الحراسة المشددة. هنا تتسلل خيوط من سيرة نغوغي واثيونغو إلى نسيج الخطاب السردي. إن السرد كقوة وعامل تأثير وتحريض على التمرد والتغيير هو الثيمة الرئيسة في الرواية. ولدرء خطره على عرشه، يحاول الإمبراطور قمع كل أنواعه وأشكاله.

* ناقد وكاتب سعودي