قرطاج تفتتح مهرجانها السينمائي بمشاركة أكثر من ألف عرض

احتفاء بالذكرى الخمسين لانطلاق المظاهرة

قرطاج تفتتح مهرجانها السينمائي بمشاركة أكثر من ألف عرض
TT

قرطاج تفتتح مهرجانها السينمائي بمشاركة أكثر من ألف عرض

قرطاج تفتتح مهرجانها السينمائي بمشاركة أكثر من ألف عرض

انطلقت أمس في العاصمة التونسية الدورة السابعة والعشرون لأيام قرطاج السينمائية، التي تتواصل إلى الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. وتقترح أيام قرطاج السينمائية، التي تحتفل بالذكرى الخمسين لتأسيسها، نحو ألف عرض، على عشاق الفن السابع، وجهزت دور السينما في معظم المدن شاشاتها لاستقبال نحو 322 فيلما قادمة إليها من عشرين دولة.
وينفرد المهرجان بعرض «ديفين» للمخرجة المغربية هدى بنيامينة، وهو فيلم حائز جائزة الكاميرا الذهبية في الدورة الـ69 لمهرجان كان السينمائي (فرنسا)، ونجحت أيام قرطاج السينمائية في الانفراد بعرضه العربي والأفريقي الأول على الرغم من تهافت مهرجانات سينمائية عدة على عرضه لأول مرة.
ويشارك في المسابقة الرسمية للمهرجان فيلم «اشتباك» للمخرج المصري محمد دياب، وقد عرض في خلال الدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي ضمن قسم «نظرة ما» وهو مرشح السينما المصرية في أوسكار أفضل فيلم أجنبي.
ولا تخلو أيام قرطاج السينمائية من مشاركة مهمة للسينما الأفريقية، وذلك من خلال فيلم «خشب الأبنوس» للمخرج موسى توري، وفيلم «لن يقع بث الثورة في التلفزيون» للمخرجة راما تياو. كما تشارك بوركينا فاسو بفيلم «توم» للمخرج ودراووغو تاهيرو تاسار، وتشارك تشاد بفيلم وثائقي عن الديكتاتور حسن حبري للمخرج محمد صالح هارون.
أما المشاركة العربية، فهي متنوعة؛ إذ تسجل سوريا حضورها في المسابقة الرسمية لأيام قرطاج السينمائية بفيلمين، هما «منازل بلا أبواب» لإيفو كابرليان، و«مزرعة الأبقار» لعلي الشيخ خضر، كما ستكون الأردن ممثلة بفيلم عنوانه «المدينة» لعمر الشرقاوي، ولا يغيب المغربي هشام العسري عن المسابقة الرسمية لأيام قرطاج السينمائية ويشارك بآخر فيلم في ثلاثيته «جوع كلبك». ومن مصر يشارك خالد الحجر بفيلمه المثير للجدل «حرام الجسد»، وتشارك المملكة العربية السعودية بفيلم «بركة يقابل بركة» للمخرج محمود الصباغ، وهو مرشح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي.
أما المشاركة الجزائرية، فستكون من خلال فيلمي «وحكاية الليالي السود» للمخرج سالم إبراهيمي و«في هذا العمر ما زلت أتخفى عندما أدخن».
ويفتح المهرجان نافذة على السينما الروسية من خلال موعد مع أهم الأفلام الروسية المنتجة في السنوات الأخيرة، من بينها «إيلينا» للمخرج أندري زفياغينتساف الحائز جائزة أفضل فيلم في قسم «نظرة ما» بمهرجان كان السينمائي 2011.
ومن المنتظر عرض فيلم «زهرة حلب» للمخرج التونسي رضا الباهي في الافتتاح، وهو فيلم روائي طويل من إنتاج مشترك تونسي لبناني، وتوزعت مختلف المشاهد بين تونس ولبنان، وجسدت أدواره مجموعة من الممثلين، حيث أسندت الشخصية الأساسية إلى الممثلة التونسية هند صبري. ويشاركها من تونس هشام رستم وفاطمة ناصر ومحمد علي بن جمعة وباديس الباهي، كما تمت الاستعانة بعدد من الممثلين السوريين، من بينهم جهاد الزغبي وباسم لطفي ومحمد آل راشي. ويتطرق هذا العمل إلى فكرة انضمام الشباب التونسي إلى تنظيم داعش الإرهابي، ويسعى إلى تعرية مجتمع «داعش» المظلم، كما يتطرق إلى ممارساته اللاإنسانية. وتؤدي الممثلة التونسية هند صبري دور أم تونسية تقرر السفر إلى بؤر التوتر في سوريا في رحلة شاقة بحثا عن ابنها الذي انضم إلى التنظيمات الإرهابية.
في هذا الشأن، قال إبراهيم اللطيف، مدير المهرجان في مؤتمر صحافي، إن الدورة الجديدة حرصت على اختيار أفلام متميزة في مختلف أقسامها، بعضها قادم من أرفع المهرجانات السينمائية ونال جوائز عالمية في «كان» و«برلين» و«البندقية» تنفرد بعرض عدد منها للمرة الأولى على المستويين العربي والأفريقي. وأشار اللطيف إلى رؤساء لجان التحكيم المختلفة، وأكد أن عبد الرحمن سيساكو من موريتانيا سيرأس لجنة التحكيم الكبرى (الأفلام الطويلة)، أما لجنة الأفلام القصيرة وقرطاج السينما الواعدة، فسترأسها ميمونة اندياي من بوركينا فاسو. وأسندت رئاسة لجنة العمل الأول (الطاهر شريعة) للمخرج التونسي سفيان الفاني.
وستشهد هذه الدورة تكريم عدد من الوجوه السينمائية كيوسف شاهين وجبريل ديوب مامبيتي وعباس كيروستامي.
وتشارك تونس في الدورة الـ27 من أيام قرطاج السينمائية بـ13 فيلما تونسيا للمشاركة بصفة رسمية في مختلف مسابقات هذه المظاهرة السينمائية الدولية المهمة.
وتشارك أربعة أفلام تونسية في مسابقة الأفلام الطويلة، وهي «شوف» لكريم دريدي و«تالة حبيبتي» لمهدي الهميلي و«زينب تكره الثلج» لكوثر بن هنية و«غدوة حي» للطفي عاشور.
كما تشارك أربعة أفلام تونسية كذلك في مسابقة الأفلام القصيرة، وهي «علوش» للطفي عاشور و«ليلة كلبة» لآمنة بويحي و«نساجات الشعانبي» لنوفل صاحب الطابع و«طليق» لقيس زايد.
وأعلنت لجنة تنظيم المهرجان أن فيلمين تونسيين سيشاركان في المسابقة الرسمية للعمل الأول وثلاثة أفلام في المسابقة الرسمية التي تحمل اسم «قرطاج سينما الواعدة».
وحملت معلقة هذه الدورة التي تم تصميمها خصيصا للاحتفال بمرور خمسين سنة على تأسيس مهرجان قرطاج السينمائي، أسماء المتوّجين بالتانيت الذهبي في أيام قرطاج السينمائية خلال الدورات الماضية الممتدة على 50 سنة، وضمت القائمة مخرجين عالميين عدة انطلقت شهرتهم من قرطاج على غرار يوسف شاهين وتوفيق صلاح (مصر) ومرزاق علواش (الجزائر) والنوري بوزيد وفريد بوغدير والناصر خمير (تونس) وسليمان سيسي (السنغال) ومحمد ملص (سوريا).



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)