ليبيا.. العودة إلى «المربع صفر»

البحث عن حكومة جديدة لتوحيد المؤسسات المنقسمة على نفسها

ليبيا.. العودة إلى «المربع صفر»
TT

ليبيا.. العودة إلى «المربع صفر»

ليبيا.. العودة إلى «المربع صفر»

عادت محاولات التوصل إلى توافق بين الليبيين إلى «المربع صفر». ويجري حاليا البحث عن حكومة جديدة لتوحيد المؤسسات المنقسمة على نفسها. وتشهد العاصمة طرابلس استنفارا بين الميليشيات بعد نحو أسبوع على إعلان «حكومة الإنقاذ» برئاسة خليفة الغويل العودة للعمل، في أقوى تحدٍ للمجلس الرئاسي وحكومته برئاسة فايز السراج المدعوم من الأمم المتحدة. ويبدو مستقبل طرابلس غامضا مع توجه عدة ميليشيات موالية للسراج لمواجهة الميليشيات التي وقفت وراء الغويل معتبرة ما قام به هذا الأخير «انقلابا». لكن مجموعة الغويل بدأت هي الأخرى في اتخاذ إجراءات لترسيخ سياسة الأمر الواقع، فقد دعت البرلمان للحوار ودعت الحكومة المنبثقة عنه، المعروفة باسم الحكومة المؤقتة برئاسة عبد الله الثني، للتوافق.
من خلال اللقاءات التي أجريت على عجل في المنطقة الشرقية من ليبيا والبرلمان الذي يعقد فيها، بدا أنه لا توجد بعد تلك الثقة الكاملة في قدرة خليفة الغويل، رئيس ما يسمى «حكومة الإنقاذ»، على بسط سلطانه على العاصمة طرابلس، خصوصا بعد أن قام فايز السراج، رئيس حكومة المجلس الرئاسي المدعومة دوليًا، خلال اليومين الماضيين بجولة في طرابلس التقى خلالها شخصيات أمنية وعسكرية. ومن ثم حصوله على دعم دولي جديد، حتى لو كان من خلال التصريحات التي أطلقها بعض زعماء الدول خصوصا «مجموعة دول جوار ليبيا» في اجتماعها الأخير في مدينة نيامي عاصمة النيجر.
مع ذلك، يبقى الشأن الليبي في أيدي الليبيين أنفسهم رغم أي طموحات دولية. ويقول نائب رئيس الوزراء الليبي الأسبق، الطيب الصافي، لـ«الشرق الأوسط»، إنه ينبغي على رئيس مجلس النواب (البرلمان) عقيلة صالح، التدخل بشكل عاجل لتوحيد المؤسسات الليبية من الحكومة إلى مؤسسات النفط والبنك المركزي. ومن جانبه، يتحدث لـ«الشرق الأوسط»، إبراهيم عميش، رئيس لجنة العدل والمصالحة في البرلمان الذي يضطر لعقد جلساته في طبرق منذ عام 2014، بثقة كبيرة عن أن المرحلة الجديدة في ليبيا ستكون في أيدي الليبيين، وليس المبعوث الأممي إلى ليبيا مارتن كوبلر. وكان كوبلر يشرف على الحوار بين عدد من الأطراف الليبية، وتمكن في ديسمبر (كانون الأول) الماضي من إعلان توافق بين هذه الأطراف في مفاوضات احتضنتها مدينة الصخيرات المغربية. ونتج عن الصخيرات مجلس السراج الرئاسي وحكومته التي ما زالت تراوح مكانها بسبب رفض برلمان صالح منحها الثقة.

مرحلة الصخيرات
يعلن السراج في الاجتماعات التي حضرها مع شخصيات عسكرية وأمنية في العاصمة أنه مستمر في مزاولة أعماله، وأنه سيتخذ إجراءات سريعة لإثبات وجود حكومته في العاصمة وفي عموم البلاد، والتواصل مع باقي الخصوم. لكن عميش يرد بشكل قاطع قائلا إن مرحلة اتفاق الصخيرات انتهت، وإن «الحوار الليبي - الليبي» بدأ، و«أنا مستعد للمغادرة إلى طرابلس لبحث الأمر مع المؤتمر الوطني (جماعة الغويل)».
وموقف رئيس لجنة العدل والمصالحة هذا يدعمه عدد كبير من نواب البرلمان الذين كان لهم موقف سابق من رفض حكومة السراج. وهم في الوقت الراهن يمدون خيوط التواصل بالفعل مع حكومة الغويل. لكن الأمر ربما لن يكون بتلك البساطة. فمن جانبه، بعثت أطراف في البرلمان ما يمكن تسميته «كشافين» إلى العاصمة للاطلاع على الحالة الأمنية فيها، وعلى موازين القوى التي تسيطر على الشارع، وما إذا كانت الغلبة للسراج أم للغويل.
وشعر كثير من نواب البرلمان، الذي يرأسه المستشار صالح، بارتياح ملحوظ لما قاله كوبلر قبل أيام من أنه ينبغي إيجاد حل لكيفية إنشاء جيش موحّد على أن يكون تحت إمرة قائد الجيش الوطني الجنرال خليفة حفتر، بشرط أن تكون القيادة العليا للجيش بيد المجلس الرئاسي. وفي المقابل رد قادة مقربون من السراج بغضب على ما قاله كوبلر. وقام السراج نفسه مع قيادات، مثل عبد الرحمن السويحلي رئيس مجلس الدولة، بالاجتماع مع ضباط من الجيش ليسوا ممن يأتمرون بأوامر حفتر. وشن عدد من هؤلاء الضباط هجوما لاذعا على الجنرال الذي يتخذ من منطقة الرجمة القريبة من بنغازي مقرا له.
ووفقا لمصادر حضرت اجتماع طرابلس، فقد كان هناك «ضباط من أبناء المنطقة الغربية من طرابلس وما حولها، وضباط من الشرق الليبي ممن يقيمون منذ زمن في العاصمة وفي بلدات أخرى في غرب البلاد». إلا أن مجموعة الضباط المشار إليها لا يبدو أنها تملك تلك القوة التي يمكن من خلالها تقديم أي دعم يذكر للسراج وجماعة اتفاق الصخيرات. وعموما لا تقارن إمكانيات الضباط الذين شاركوا في الاجتماع في قاعة فندق المهير بالعاصمة، مع إمكانيات الميليشيات من حيث عدد العناصر المقاتلة والتسليح.
وترفض قوى في الشرق ترك القيادة العليا للجيش للسراج، كما يريد كوبلر. وترى في المقابل أن القيادة العليا للجيش ينبغي أن تستمر في يد رئيس البرلمان المستشار صالح، وفقا لما ينص عليه الإعلان الدستوري المعمول به منذ سقوط نظام معمر القذافي. أو كما يقول عميش: «أمور الليبيين يجب أن يقررها الليبيون. يكفي ما أصابنا من عثرات بسبب مبعوث الأمم المتحدة، السيد كوبلر. اتفاق الصخيرات، بمخرجاته، أصبح من الماضي، والآن نفتح ملف الحوار مع المؤتمر الوطني ومع حكومة الغويل».

لا اتفاق مع كوبلر
مع ذلك لا يوجد اتفاق كبير بين بعض القيادات السياسية الموالية لحفتر تجاه ما قاله كوبلر عن إيجاد دور للجنرال على رأس جيش موحّد في المرحلة المقبلة. هناك من يرى أنه موقف إيجابي من كوبلر وهناك من يرى أنه «تدخل سافر من كوبلر في سلسلة تدخلاته في الشأن الليبي»، وخطوة لإرباك المشهد، أو كما يقول عميش: «حين يأتي كوبلر اليوم ليفرض ويتحدث في هذا الموضوع يمكن أن يخلق فتنة ويعقد العملية أكبر مما هي عليه». ومن جانبه، رفض مجلس السراج طرح كوبلر بشأن حفتر بطريقة غير مباشرة وذلك عن طريق اجتماعه أخيرا مع ضباط من الجيش في المنطقة الغربية، وكأنه يريد أن يقول إنه يوجد جيش هنا أيضا يمكن التعويل عليه في المعادلة.
عمومًا، تبدو حكومة السراج المقترحة وكأنها قد تعلمت الدرس مما قام به رئيس حكومة الإنقاذ. وهي تريد أن تصلح كثيرا من الملفات العالقة، وإزالة العراقيل التي تفاقم الأزمة الأمنية والاقتصادية ليس في طرابلس فقط، ولكن في عموم البلاد. ويقول الدكتور عارف الخوجة، وزير الداخلية في حكومة السراج، لـ«الشرق الأوسط»، في لقاء معه: «فلنعمل بكل قوة، وبتعاون كل القوى الوطنية سواء من خلال قوى رسمية أو غير رسمية لحلحلة الموضوع من خلال مشروع عام لكل المؤسسات وليس فقط مؤسسة وزارة الداخلية»، في إشارة إلى ما أعلنه السراج في لقائه مع قيادات الوزارة قبل يومين، من أنه لا بد من إصلاح وزارات الحكومة.

أخطاء السراج
من الأخطاء التي ارتكبها السراج وأدت إلى عودة حكومة الغويل، تركه للأمور في طرابلس بما فيها من هشاشة دون حسم الموضوع منذ البداية. فوفقًا لمصادر في المجلس الرئاسي، كان الغويل يلتقي دبلوماسيين أجانب في العاصمة باعتباره رئيس حكومة الإنقاذ على الرغم من أن العالم يعترف بحكومة السراج ويدعمها. ومن الأخطاء أيضا عدم حسم قضية الميليشيات والمجاميع المسلحة في طرابلس. ومن بينها ميليشيات ومجاميع مسلحة دعمت عودة الغويل بعد أن كان الاعتقاد يسود بأنها موالية للسراج.
ولكن رغم التربص والتحركات المريبة لكثير من الميليشيات التي تمتلئ بها طرابلس، فإن السراج يبدو متماسكا. وهو ما زال يسيطر وما زال يدير الأمور، والعاصمة تبدو هادئة. إلا أن هذا الواقع يدفع كلا من جماعة المؤتمر الوطني العام في طرابلس وجماعة البرلمان في طبرق، للضرب بقوة من أجل استثمار العاصفة التي أثارها الغويل. ويقول عميش: «يكفينا أنه أصبح يوجد تغير في السياسة الدولية فيما يتعلق بعدة ترتيبات لم تكن مطروحة من قبل».
وبينما يستمر التجاذب السياسي وتستمر محاولات التوافق مرة هنا ومرة هناك، يبدو أن البلاد تسير في حلقة مفرغة، أثرت بالسلب على الحالة الأمنية المنفلتة، وبخاصة عقب اقتحام مقر المخابرات في طرابلس على يد إحدى الميليشيات، وانتشار حالات الخطف والتصفية الجسدية في الشارع. كما أثرت هذه الأوضاع بالسلب على اقتصاد الدولة التي تعد من أغنى الدول الأفريقية بالنفط. ورغم تعدد الحكومات، فإن معظم المواطنين لا يجدون الأموال في المصارف، والرواتب تتأخر لعدة أشهر، بالإضافة إلى نقص حاد في السلع الأساسية والخدمات، مثل الكهرباء والمياه وغيرها.
وعن رؤيته للتطورات في ليبيا بعد ما قام به الغويل على الساحة السياسية والتنفيذية من خلال إعلانه الاستمرار في العمل رئيسا لحكومة الإنقاذ، يوضح الطيب الصافي: «ما أريد أن أقوله إننا في ليبيا لسنا مع تعدد الحكومات. تعدد الحكومات ظاهرة سلبية. حكومة الغويل وحكومة الثني وحكومة السراج.. أصبح لدينا مصرفان مركزيان ومؤسستان للنفط، ومؤسستان ليبيتان للاستثمار. هذه لها آثار سلبية وربما آثارها السلبية أكثر من إيجابياتها. أنا أدعو الجميع إلى أن نوحد جهودنا، وهذه الدعوة أوجهها للسيد المستشار عقيلة صالح رئيس مجلس النواب بأن يتبنى توحيد كل الإطارات الليبية من الحكومة إلى المصرف المركزي إلى المؤسسة الليبية للاستثمار إلى المؤسسة الوطنية للنفط».

المؤتمر الوطني العام
وعن دعوة رئيس حكومة الإنقاذ للحوار مع حكومة عبد الله الثني، والحوار بين المؤتمر الوطني العام (البرلمان السابق) والبرلمان الحالي، يقول الصافي إنه عندما تتحدث عن المبادرة التي طرحها السيد الغويل، «نعتبرها شيئا من التفكير بصوت عال وتفكيرا إيجابيا، ويجب أن ينسق مع إخوته في البرلمان، وأن يحيل هذه المقترحات للمستشار عقيلة صالح وأن يكون البرلمان هو من يتبنى مثل هذه المقترحات».
ويضيف الصافي أن أي تبن لأي حكومة جديدة يجب أن يمر من خلال البرلمان.. «نحن صراحة نتطلع إلى حكومة كفاءات وليس إلى حكومة محاصصة. أنت تعلم ظروف ليبيا الآن ظروفها السياسية وظروفها الاقتصادية وظروفها التنموية. البلد الآن يحتاج إلى إنقاذ، وإلى كفاءات، وإلى أناس لديهم القدرة والكفاءة على تناول كثير من الملفات الشائكة مثل ملف الصحة وملف التعليم والنفط والإنتاج والخدمات والاستثمار وغيرها».
ومن جانبه، يجيب عميش عما إذا كان ما قام به الغويل يمكن أن يتوافق مع البرلمان ومع حكومة الثني، بقوله إن الحوار قائم بين الطرفين.. كل ما حدث هو أننا عدنا لموضع الحوار الليبي الليبي. وإلى المسودة التي جرى إعدادها مع قيادات المؤتمر الوطني، في إشارة إلى الاتفاق المبدئي الذي توصل إليه مندوب البرلمان، عميش نفسه، ومندوب المؤتمر الوطني، الدكتور عوض عبد الصادق، نائب رئيس المؤتمر، التي بدأت لأول مرة في أواخر العام الماضي، وكانت محل اعتراض من كوبلر ومن أطراف دولية.
وقبل أيام من عودة الغويل والمؤتمر الوطني للواجهة أجرت «الشرق الأوسط» مقابلة مع الدكتور عبد الصادق، تحدث فيها عن العراقيل التي تعرضت لها محاولته مع النائب عميش لبدء حوار ليبي ليبي بدلا من حوار الصخيرات. ويقول: «للأسف نحن تم التضييق علينا (في المؤتمر الوطني) من المجتمع الدولي، منذ البداية.. المجتمع الدولي اعترف بالبرلمان وأغلق الباب في وجهنا». وتطرق أيضا إلى أسباب فشل المجلس الرئاسي في حل كثير من الملفات، ويقول إن من بين هذه الأسباب أن المجلس تم تكوينه بطريقة يصعب معها العمل.. «مجلس يتكون من تسعة أشخاص هؤلاء التسعة يمثلون ربما أجندات مختلة ويمثلون أفكارا فيها عدم التجانس وعدم التطابق»، بالإضافة إلى أن المجلس الرئاسي وحكومته «لم ينتج عن توافق حقيقي على الأرض، وإلا لكان تمكن من الحصول على دعم من قبل كل الشرفاء وكل الوطنيين لإنجاحه، ولكن هذا المجلس من البداية أصبح فيه غلبة لتيار.. أو لطيف معين».
ويضيف الدكتور عبد الصادق موضحًا أن المؤتمر الوطني لم يوافق منذ البداية على اتفاق الصخيرات، وأن ما حدث هو أن «هناك تيارا يمثل (الإخوان المسلمين) هو من ادعى أنه يمثل المؤتمر الوطني وذهب إلى الصخيرات ووقع على الاتفاق، وبالتالي خلق خللا حتى داخل طرابلس العاصمة وكذلك في المنطقة الشرقية، والآن ما نراه هو أن مجلس النواب لم يوافق على حكومة هذا المجلس، ولم يوافق على أعضائه بالكامل، ويرغب في العودة إلى المسودة الرابعة ليكون المجلس الرئاسي من رئيس ونائبين».
ويلخص عبد الصادق القضية بقوله إن «الإشكالية السياسية حدثت في ليبيا ما بين المؤتمر الوطني العام وما بين مجلس النواب ومن يريد أن يقفز على الحل أطراف بعيدة عن المؤتمر الوطني وبعيدة عن مجلس النواب»، لافتا إلى أن أسباب المشكلة في ليبيا كثيرة، منها أن «الأمم المتحدة لم تجد الحل بالطريقة الصحيحة والسليمة، وأن أطرافا دولية، وربما دول إقليمية، عندها مخاوف من تيارات معينة ربما قفزت وأصبحت في هرم السلطة من جديد. لكن هذه التيارات ستُبعد عن المشهد وسيكون هناك دور للشرفاء الوطنيين الذين لا يحملون أجندات سياسية إلا أجندة ليبيا والوطن وبناء ليبيا في محيط عربي ومحيط إقليمي يعمل على أن تكون شريك خير يستفيد بوصفه بلدا وتستفيد كل الدول المحيطة به».
وفي سؤال للنائب عميش بشأن ما إذا كان يخشى أن يكون هناك عقبات جديدة في الحوار مع المؤتمر الوطني حول شخصية المشير حفتر، يجيب قائلا: «لا.. أعتقد أننا كنا قد وصلنا في السابق إلى أننا لا نتحدث عن أشخاص وشخصيات، ولكن نتحدث عن مؤسسة عسكرية لا بد أن تكون باقية. وحين تحدثنا عن هذا الموضوع (مع المؤتمر الوطني) قلنا إن القضية تتعلق بالعسكريين وبالمؤسسة العسكرية، وإن هذا الأمر ليس من اختصاصنا نحن الآن. نحن يمكن أن نتحدث عن حرب في بنغازي أو عن إرهاب في المكان الفلاني، وعن سرت.. من الممكن أن نتحدث عن هذه القضايا وعن أسرى موجودين لدى الطرفين وعن تهدئة يمكن أن تتم حتى يتم حوار صحيح».
أما الدكتور عبد الصادق فيرد قائلا عن موقف المؤتمر الوطني من الجيش الوطني الليبي وقائده المشير حفتر: «نحن نسعى إلى إقامة مؤسسات أمنية عسكرية بالطريقة الصحيحة.. نسعى إلى إقامة جيش وطني.. لا يمكن لبلد أن تستمر بهذه الطريقة. نحن نسعى إلى إقامة مؤسسة شرطة وغيرها من كل المؤسسات الأمنية التي لا تقوم أي دولة الآن في العالم إلا على هذه المؤسسات. لكن أي شخصيات جدلية أو أي شخصيات، فنحن مستعدون أن نبحث (في أمر) هذه الشخصيات».



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.