المتوسط: المدى الحيوي لمصالح فرنسا الاستراتيجية

* «الأميرال كوزنتسوف» هو اسم حاملة الطائرات الروسية المتجهة حاليًا مع السفن الحربية المرافقة وعددها سبع سفن من المياه الباردة في الشمال الأوروبي إلى «المياه الدافئة» شرقي البحر الأبيض المتوسط للمشاركة في العمليات العسكرية في سوريا، تعيد إلى الأذهان أهمية هذا البحر شبه المغلق بالنسبة للعبة الجيواستراتيجية الروسية.
منطلق الاهتمام الغربي هو السعي الروسي التاريخي الحثيث للتمدد جنوبًا والخروج من البحر الأسود عبر مضيقي الدردنيل والبوسفور إلى مياه المتوسط. لكن التحولات السياسية التي عرفتها المنطقة في السنوات الأخيرة قلصت الحضور السوفياتي، ثم الروسي، وتراجع نفوذ موسكو حيث إن بحريتها خسرت مواطئ القدم التقليدية ولم يبق لها عمليا في الوقت الحاضر إلا قاعدة طرطوس على الساحل السوري. وهذا المعطى يشكل أحد مفاتيح السياسة الروسية في سوريا الداعمة للنظام السوري. وكما أن دمشق وقعت مع موسكو اتفاقية منحت الثانية بموجبها حق استخدام قاعدة حميميم الجوية لفترة غير محدودة، فإن الخطوة التالية ستكون بلا شك حصول البحرية الروسية على «تسهيلات» موازية في طرطوس، وربما في مرافئ سورية أخرى.
الحقيقة أن المتوسط الذي يعاني من بؤر توتر كثيرة (الحرب في سوريا، الحرب في ليبيا، الإرهاب، الهجرات الكثيفة باتجاه الشواطئ الأوروبية، النزاع الفلسطيني - العربي - الإسرائيلي، قبرص، البلقان، الصحراء الغربية، مصير جبل طارق، المستوطنات الإسبانية على الشاطئ المغربي...) فتح دائما شهية البلدان الكبرى. فبريطانيا تحتفظ في مياهه بقاعدتين عسكريتين رئيسيتين (من أصل أربع خارج أراضيها) هما أكروتيري – إبيسكوبي (قبرص) وجبل طارق. والأسطول السادس الأميركي يمخر عبابه منذ عشرات السنوات. بل خلال الأعوام الأخيرة، بدأت البحرية الصينية تطل عليه وتظهر اهتمامها به. والمتوسط الذي لا يشكل سوى 1 في المائة من المساحة المائية يستوعب 25 في المائة من حركة الملاحة البحرية في العالم ويبقى، بكل المقاييس، محورا أساسيا في اللعبة الجيوسياسية مع بلدانه المشاطئة الـ23 وسكانها الذين يزيد عددهم على الـ450 مليون نسمة.
ولكن من بين كل القوى الكبرى، تبدو فرنسا الأكثر اهتماما بما يجري في المتوسط. ذلك التاريخ الفرنسي مربوط إلى حد كبير بتاريخ المتوسط منذ القدم، وليس أدل على ذلك من الاتفاقية التاريخية الشهيرة بين ملك فرنسا فرنسوا الأول والسلطان العثماني الشهير سليمان القانوني التي مُنحت بموجبها فرنسا امتيازات تجارية وسياسية كثيرة أحدها حماية المسيحيين في الإمبراطورية العثمانية. إلا أن الهدف الأول للاتفاقية كان إقامة تحالف فرنسي - تركي لمواجهة الإمبراطور شارل الخامس ذي الأطماع الواسعة. ولا يسع الباحث أن ينسى حملة الجنرال نابليون بونابرت على مصر عام 1799 وسعيه لقطع طريق الهند على البريطانيين وكذلك فتح قناة السويس بفضل دينامية الدبلوماسي والمهندس الفرنسي فرديناند دليسبس. ودامت أشغال القناة من العام 1859 إلى العام 1869. إلا أنها لاحقا وقعت في يد البريطانيين بفضل احتيالهم على خديو مصر. لكن فرنسا وبريطانيا تحالفتا مع إسرائيل بعدما عمد الرئيس جمال عبد الناصر إلى تأميم القناة ما أفضى إلى العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956.
مع هذا لم يتراجع الاهتمام الفرنسي بالمتوسط بتاتًا. فالبحرية الفرنسية عبرت مياهه لتطلق حرب السيطرة على الجزائر في 14 يونيو من العام 1830. وتحولت الجزائر إلى مستعمرة ثم ضمت إلى الأراضي الفرنسية ولم تتركها إلا بعد حرب دامية طالت عشر سنوات وانتهت بـ«اتفاقية إيفيان» في العام 1962. وتوسع الحضور الفرنسي في بلدان المغرب ليشمل تونس والمغرب وموريتانيا، ومنها ذهب جنوبا باتجاه ما يسمى بلدان الساحل الأفريقي. ورغم انتهاء مرحلة الاستعمار، فإن الاهتمام الفرنسي لم يضعف خصوصا أن باريس احتفظت بعلاقات وثيقة مع مستعمراتها السابقة بما فيها الجزائر. وآخر محاولة فرنسية متوسطية واسعة، كان مشروع إقامة الاتحاد من أجل المتوسط الذي أطلقه الرئيس نيكولا ساركوزي في العام 2008 الذي جاء امتدادا لما يسمى «مسار برشلونة». لكن النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي ولاحقا اندلاع «الربيع العربي» والتردد الأوروبي وحروب المنطقة كلها عوامل جاءت لتضعف البنية الرئيسية للمشروع ولتهمشه إلى حد بعيد.
تشغل فرنسا وضعا استراتيجيًا فريدًا بين الدول المشاطئة. فهي، من ناحية، الدولة النووية الوحيدة التي تتمتع بمقعد دائم في مجلس الأمن الدولي وهي الأكبر جغرافيًا وديموغرافيًا على الضفتين الشمالية والغربية للمتوسط كما أن اقتصادها هو الأكبر حجما. ويحتل مرفأ مرسيليا التجاري موقعا متميزا لأنه الأول من بين كل المرافئ المتوسطيةـ فيما مرفأ طولون العسكري هو الأهم إذ أنه مركز الثقل للبحرية الفرنسية ومنه تنطلق حاملة الطائرات شارل ديغول ذات الدفع النووي وإليه تعود. وهذه الحاملة موجودة في الوقت الحاضر في المياه الشرقية للمتوسط للمشاركة في العمليات الجوية ضد «داعش» في سوريا والعراق. ويشرح «الكتاب الأبيض» الخاص بالعقيدة العسكرية الفرنسية في فصله الرابع، أولويات فرنسا الاستراتيجية المتوسطية تحت عنوان: «بسط الاستقرار في الجوار الأوروبي». وجاء في الجزء الخاص بالمتوسط ما يلي «المتوسط وهو الواجهة البحرية الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي، يشكل قلب العلاقات والتاريخ المشترك منذ ثلاثة آلاف عام. وهذه العلاقات الاستراتيجية والاقتصادية والثقافية والإنسانية تتمتع بكثافة خاصة فمصالحنا مشتركة مع المتوسط والتحديات التي نواجهها واحدة ومنها التحدي الأمني واستقرار المنطقة والتهريب والإرهاب».
هذه الرؤية الفرنسية تبين كم أن المتوسط «حيوي» بالنسبة لفرنسا ولمصالحها الاستراتيجية وغير الاستراتيجية. إلا أن باريس تراقب أيضا تواجد «القوى» الأخرى في المتوسط وخصوصا الحضور الروسي القديم - الجديد والدور الذي تسعى موسكو للقيام به بالاستناد إلى قوتها العسكرية.