بيروت منصة لـ«الفن التشكيلي» و«التصميم» في المنطقة العربية

فرنسيان يراهنان على «المواهب الشابة» اللبنانية لإطلاقها عالميًا

إحدى قاعات العرض - غيوم تاليه اليان - لور دوتفيل
إحدى قاعات العرض - غيوم تاليه اليان - لور دوتفيل
TT

بيروت منصة لـ«الفن التشكيلي» و«التصميم» في المنطقة العربية

إحدى قاعات العرض - غيوم تاليه اليان - لور دوتفيل
إحدى قاعات العرض - غيوم تاليه اليان - لور دوتفيل

تصرّ لور دوتفيل، مؤسسة «بيروت آرت فير» ومديرته، على أن «لبنان هو المركز الأهم للفنون في المنطقة اليوم، وأنه يعيش مرحلة غليان إبداعي، وأن كل المؤشرات تدلّ على ذلك». والدليل الدامغ أن «معرض بيروت للفن» الذي أغلق أبوابه مؤخرًا، حقق أرقاما لافتة. فقد زائر المعرض 23 ألف شخص مقابل 21 ألفًا العام الفائت، وحين يتعلق الأمر ببلد صغير مثل لبنان، يعاني من مشكلات جمّة، ويفترض أن الفن ليس أولوية عند الناس، عندها يطرح السؤال حول سبب الاهتمام المتصاعد إلى هذا الحد؟
الأرقام المنشورة، تشير أيضًا إلى أن المبيع وصل إلى 3.2 مليون دولار أميركي، أي بمتوسط أرباح أكثر بـ25٪ لكل صالة عرض مقارنة مع الدورة السابقة، إذ إنّ 87 في المائة من صالات العرض المشاركة حقّقت مبيعات، وإن كانت النسب متفاوتة. قدّم «بيروت آرت فير» في نشرة مفصلة أسماء الغاليريات التي باعت، وكذلك أسماء الفنانين، وأحيانًا اللوحات أو المنحوتات التي تم بيعها، كي لا يظن أحد أن ثمة مبالغة في الأرقام، أو محاولة للتضخيم. فمن الذي يشتري؟ وما هي الدوافع؟ خاصة أن الأزمة الاقتصادية كبيرة، ليس في لبنان وحده بل في المنطقة كلها.
عشرات الزوار أتوا من خارج لبنان هذه السنة، للمشاركة أو الاستفادة من «بيروت آرت فير»، بينهم مجمّعون محترفون، أصحاب غاليريات، وفنانون بطبيعة الحال. تقول لور دوتفيل: «هؤلاء لم يأتوا ليروا أعمالا شبيهة بما يمكن أن يجدوه في باريس أو نيويورك أو لندن، هم جاءوا لأنهم يعرفون أن ثمة في بيروت ما هو مختلف عن أي مكان آخر. المجمّعون تهمهم الخصوصية ويحبون اكتشاف المواهب الجديدة والشابة. وهذا متوفر في لبنان أكثر من أي بلد آخر في المنطقة». تعطي دوتفيل مثلاً، الفنان أيمن بعلبكي الذي أصبح عالميًا، وكانت بداياته في معرض «جبل» الذي نظمته في مدينة طرابلس عام 1998، يومها اكتشفه صالح بركات، صاحب غاليري «أجيال» واهتم بموهبته. صعد، بعد ذلك نجم هذا الفنان الشاب سريعًا وبيعت لوحته «برج بابل» العام الماضي، في مزاد كريستيز بمبلغ 485 ألف دولار.
من اللافت أيضا أن «مجموعة مقبل الفنية» من الأعمال اللبنانية بيعت في المزاد نفسه - وبينها عمل بعلبكي - بضعف قيمتها التقديرية، أي بمبلغ مليون و600 ألف دولار، بدلاً من 750 ألف دولار كانت متوقعة لها، وهو ما يشير إلى اهتمام عالمي متزايد بالأعمال التشكيلية اللبنانية.
لكن دوتفيل تقول إن الاهتمام ليس خارجيًا فقط، ففي «دبي آرت فير» يشتري اللبنانيون كثيرًا من الأعمال، وهناك اهتمام مستجد من قبل اللبنانيين عامة بالفنون التشكيلية وعودة قوية إلى فن الرسم بكل ما يمثله من أصالة، ربما لأنهم تعبوا من الحروب والبشاعات، وباتوا بحاجة إلى فسحة جمالية ولاكتشاف تراثهم والغنى الذاتي».
لور دوتفيل فرنسية، حطت في لبنان عام 1991 وقامت بتنظيم الكثير من المعارض، واهتمت منذ البداية بالفنانين الشباب، وفي عام 1998، أسست في لبنان أول معرض دولي للفن المعاصر ARTSUD وتولت إدارته حتى عام 2005، وأدى نجاحه إلى تنظيم دورات أخرى موازية. وهي تنظم منذ عام 2010 «بيروت آرت فير» ويلقى نجاحًا متزايدًا رغم أن انطلاقته كانت في فترة حرجة جدًا. لكنها تعتقد أن الوضع أفضل بكثير مما يتصور اللبنانيون أنفسهم، وتدعوهم لأن يؤمنوا ببلادهم، وأن يقرأوا ما يكتب عنهم ويحكى في وسائل الإعلام العالمية، كي يعرفوا أهمية ما بمقدورهم أن يقدموه.
«هل يرسل التلفزيون الفرنسي 3 صحافيين لتغطية بيروت آرت فير طوال أربعة أيام، ويتحمل تلك التكاليف الكبيرة، لو لم يكن هناك ما يستحق العناء؟» تقول دوتفيل. «أن يشتري مجمّع من هونغ كونغ بمبلغ 800 ألف دولار أثناء وجوده في بيروت آرت فير، معناه أن هناك ما يهم العالم». هي ترفض أن تعتبر الحروب التي لفتت النظر إلى المنطقة، سببًا رئيسيًا، رغم أن كثرة الأخبار عن بلد ما تشجع بالتأكيد على رؤية الطريقة التي يعبر بها الفنانون عن آلامهم. وتشرح: «هذا قد يكون عاملاً لكنه ثانوي. الأصل هو في وجود المواهب».
«الانطباع العام لدى الوافدين الأجانب إلى (بيروت آرت فير) الذين شكلوا 30 في المائة من الزوار أن الأعمال التشكيلية اللبنانية لا تعكس حربًا ولا اضطرابًا بل سلامًا واستقرارًا. والعنصر الأهم أن الفنانين في لبنان يتمتعون بحرية كبيرة، وهذا يتجلى في أعمال عرضت، كانت قد أنجزت في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي». وتلفت دوتفيل إلى أن إحدى اللوحات الجريئة التي عرضت هذه السنة هي للفنانة هيلين الخال وتعود إلى عام 1940، وتعود ملكيتها إلى مقتنيات وزارة الثقافة. مما يعني أن من تناوبوا على الوزارة واختاروا الأعمال تمتعوا بفكر منفتح وحر.
ثمة عوامل قديمة وأخرى جديدة تلعب دورًا في إعطاء دفعة كبيرة للفن في لبنان اليوم. فالفنانون الجدد لا يبنون على فراغ، أسلافهم درسوا وتمرسوا في عواصم غربية بين باريس وروما، هؤلاء تتلمذوا هناك وشكلوا مدرسة لمن أتى بعدهم، حاليًا يلعب الإنترنت دورًا كبيرًا، وكثرة تسفار الفنانين اللبنانيين، جعلتهم على صلة بعواصم كبرى ومنهم من عرض في «اللوفر» و«سنتر جورج بومبيدو»، ومتاحف أخرى كبيرة في نيويورك ولندن.
تجربة دوتفيل الإيجابية في لبنان، جذبت فرنسيًا آخر ليدخل السوق الفنية اللبنانية من باب آخر، هو التصميم. وبدءًا من سبتمبر (أيلول) العام المقبل سيكون إلى جانب «معرض بيروت للفن» وبالتزامن معه «معرض بيروت للتصميم» الذي سيطلقة غيوم تاليه دليان، في دورته الأولى. ويرى أن «في لبنان حرفيين مبدعين يستحقون أن يسلط عليهم الضوء. كما أن لبنان بما له من خبرة في التصميم في شتى المجالات، يمكن وبقليل من الجهد، أن يصبح منصة للتصميم لكل المنطقة العربية». هناك روافع عدة بالنسبة لهذا الفرنسي الآتي من بعيد، وهو يعتقد أن معاهد التصميم التي افتتحت، واهتمام الجامعات المتزايد في هذا المجال، كما وجود مصممين لبنانيين بات لهم اعتراف عالمي في شتى المجالات أن في الأزياء أو المجوهرات أو المفروشات وغيرها، يشكل دفعًا كبيرًا يمكن البناء عليه، خاصة أن المصممين الشباب، من خريجي الجامعات ذوي المواهب المهمة، لم يعد عددهم قليلا.
بين «معرض بيروت للفن» الذي أنهى دورته السابعة، و«معرض بيروت للتصميم» الذي سيصبح شقيقًا له، ومع الاهتمام العالمي المتزايد بالمواهب اللبنانية، كنموذج عربي يزاوج بين المحلية والانفتاح، تؤكد لور دوتفيل أن بمقدور لبنان أن يفتح بابًا واسعًا على السياحة الثقافية، التي تدر ربحًا وفيرًا.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.