حمص أيقونة الثورة السورية، لم يتبقَّ منها في أيدي الثوار سوى حي الوعر، الذي كان، وما زال، وعرًا على القوات الطائفية والهمجية التي لم تدع حجرا أو بشرا واقفا بقصفها الجنوني لمدينة ابن الوليد، وديك الجن، والقاشوش.
لم يتبق في حي الوعر سوى بضعة آلاف وشاعر تحت حصار القتلة. عبد الكريم عمرين، شاعر حمص، شاعر الوعر، شاعر الحب في زمن الموت.
في ديوانه الذي صدر أخيرا «حمص: للحب وقت.. وللموت وقت»، يقصّ يوميات الحصار، في زمن الموت الأعمى. يوميات القصف، يوميات القتل الممنهج، والتهجير، والتجويع. إنها يوميات شاعر في الستين من العمر، مع ابنه فادي في جهنم حمص:
أعيش وحيدا وسط الحرب القذرة
بائس أنا
رجل غادر الستين بخطوتين
لم يتبق مني سوى
جسد نخر وروح خرقاء
إنها حكاية ألم مزمن، ألم نصف قرن من القمع، وسنوات خمس من القتل والتدمير وسحق ما تبقى من روح التمرد على الظلم، والمطالبة بالحرية، والعدالة الإنسانية.
إنها كلمات مثقلة بمزيج الألم والحزن اليومي المتجدد مع فقدان الأقرباء، والأصدقاء الذين قضوا، أو هجروا، أو اعتقلوا في أقبية التعذيب. حتى إن الكلمات لم تعد تعبر عن حجم المأساة:
القذائف والشظايا جعلت بيتنا
كبيت العنكبوت
الريح نصال من صقيع
والجوع ينهش فينا..
نخر فينا فعل الأوغاد والأوباش
الرعاع والدهماء
ماتت الحروف
وانتحرت الكلمات
الأيام تتوالى متشابهة في معاناة من هم تحت وطأة البراميل المتفجرة لنظام يريد قتل شعب ينشد الحرية، وقذائف المقاتلات الروسية المساندة له ضد شعبه. تتجدد الفجيعة مع كل برميل تسقطه يد لئيمة، وكل قذيفة فسفورية من شارب فودكا على تجمع أمام طالبي كسرة خبر في ظل الحصار:
الوالد المفجوع
يبحث عن أشلاء ابنه
أمام بائع الخبز
الأم الثكلى وجدت
يده فقط قابضة على بقية رغيف
والوالد وجد قدمه
بفردة حذاء أحمر
في يوم ميلاد السيد المسيح، كان يوم ريح، وصقيع، ومطر، العالم يحتفل بشموع، وشجرة ميلاد، وديك رومي سمين، وهدايا، إلا في حي الوعر، فهدايا النظام للأطفال المحاصرين برميل متفجر، ورصاصة قناصة، وقذيفة شيلكا.. في يوم ميلاد المخلص:
كم سيغضب منكم المسيح
في هذا الميلاد
حيث الوقت ضياع البلاد
وبيع الأرواح بالمزاد
حيث عاد البرابرة والقياصرة
لشرب الدماء في المدن المحاصرة
حمص مدينة العاصي، والعصاة، مدينة البسمات على الشفاه، والأبواب المشرعة لكل زائر وكل ضيف. مدينة بحيرة قطينة، ماء وحياة، مدينة وسط عقد المدن السورية، كلؤلؤة الدانة. اليوم باتت بلا جدران، ولا أبواب، وبلا بنائين، ونجارين وصناع أقفال:
لم يعد في حمص صانعو أقفال ومفاتيح
المفتاح ليس قطعة مدن يا سادة
المفتاح وطن وأمان
فرحة طفل ونوم ملء الأجفان
يحكي الشاعر في أكثر من قصيدة حياته مع ابنه المذعور في كل مرة من آلة الدمار والقتل. في يوم يفقد صديقا، وآخر يفقد جزءا من طفولته:
يجلس فادي في الشرفة وحيدا
يبدأ بعد القذائف المتساقطة على الوعر
ويصرخ في وجه من يطلق الشيلكا
يناديني خائفا فأضمه
ويسألني متوجسا متطيرا مرتعشا:
بابا.. هل مات أحد؟
في ظل الكآبة اليومية، والموت الذي بات عاديا كهطول مطر، يتذكر الشاعر حبيبته، ففي خراب الدمار هناك وقت أيضًا للحب، لأنه وحده يزرع الأمل، ووحده يؤلف القلوب، هو العزاء الوحيد في مدينة العزاء:
لم يعد للمدينة حيطان
لأكتب عليها: أحبك
الحرب دمرتها
ودمرت الأرصفة
التي حلمت أني
أضم خصرك
ونمشي فوقها معا
.....
الحب هذا ما نفتقد، هؤلاء الذين رحلوا وصاروا سكان خيام ما وراء الحدود بانتظار عودة لا مفر منها، عودة إلى أحضان ما بقي من أحبة، أو إلى قبور الذين لم يحالفهم الحظ في تحاشي برميل متفجر، أو أخطأهم قناص متربص.
يا أنتم
إذا متنا وعدتم
انثروا الورود فوق قبورنا
الورد يليق بنا
والحياة تليق بكم
جاء الديوان بمائتي صفحة من القطع الكبير.
شاعر تحت حصار القتلة
عبد الكريم عمرين يكتب من
شاعر تحت حصار القتلة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة