أعمال الفنان ضياء العزاوي تحل في متاحف قطر

من لوحات تأثرت بأسلوب بيكاسو.. إلى كتب نادرة تضيف نكهة «أسطورية» إلى الواقع

الفنان العراقي ضياء عزاوي .. ولوحة «مجنون ليلى» للفنان العالمي للفنان العزاوي
الفنان العراقي ضياء عزاوي .. ولوحة «مجنون ليلى» للفنان العالمي للفنان العزاوي
TT

أعمال الفنان ضياء العزاوي تحل في متاحف قطر

الفنان العراقي ضياء عزاوي .. ولوحة «مجنون ليلى» للفنان العالمي للفنان العزاوي
الفنان العراقي ضياء عزاوي .. ولوحة «مجنون ليلى» للفنان العالمي للفنان العزاوي

ضياء العزاوي هو رسام حديث عصري يروي التجربة الإنسانية منذ خمسين عامًا. وفسّر من خلال اللوحات، والأعمال المطبوعة، والملصقات، والنحت الأساطير، والتاريخ المتغير، وحقائق الحياة التي لا يمكن الفرار منها.
وللمرة الأولى في حياته المهنية، يتم الاحتفاء بأعماله من خلال عرض أهمها بشكل متزامن في المتحف العربي للفن الحديث على مدى يومي 16 و17 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، وغاليري متاحف قطر، قاعة الرواق، حتى نهاية شهر أبريل (نيسان) 2017 في العاصمة القطرية.
إلى ذلك يوضح العزاوي في استوديو تتكدس فيه الكتب، والدفاتر، والرسوم، وغيرها من الأوراق: «سيعرضون كتبي أيضًا، لقد ألفت هذا الكتاب بمشاركة الكاتب السوري حليم بركات، الذي يقيم في واشنطن. لقد اخترنا الموضوع معًا، وأنا صنعت الرسوم».
ثم أطلع «الشرق الأوسط» على كتاب ضخم ذي غلاف سميك، كانت كل صفحة منه محمية بورق مناديل. وأشار إليه قائلا: «إنه مطبوع بطريقة طباعة الشاشة الحريرية، لا توجد سوى 12 نسخة منه فقط». سوف يتم عرض بعض هذه الكتب الفنية للمرة الأولى، إلى جانب بعض الكتب الأخرى، ومنها طبعات خاصة من رواية «مدن الملح» لعبد الرحمن منيف، و«مجنون ليلى» لقاسم حداد.
كاثرين ديفيد، نائبة مدير مركز بومبيدو في باريس، هي أمينة المعرض، الذي يحمل اسم «أنا الصرخة.. أي حنجرة ستعرفني. ضياء العزاوي: أهم الأعمال (منذ عام 1963 حتى الغد)». وقد تمت تسمية المعرض باسم أحد أبيات قصيدة لفاضل العزاوي، صديق العزاوي العزيز.
تصور كاثرين المعرض في جزأين: الأول يتتبع مرحليًا نشوء علاقة بين الصورة والنص في أعمال العزاوي، بما في ذلك الكتب الفنية الخاصة.
وتوضح تطور هذه العلاقة كحل لمشكلة التمثيل الفنية.
أما الجزء الثاني، فيتتبع انخراط الفنان في اللحظات المهمة في التاريخ السياسي للعراق والعالم العربي. سيتم عرض واحد من أشهر أعماله، وهو «صبرا وشاتيلا»، في قاعة الرواق. اللوحة، التي رسمها عام 1983، هي لوحة زيتية ضخمة تعبر عن فظائع المذابح المرتكبة بحق الفلسطينيين قبل تاريخ رسم اللوحة بعام. وحجم اللوحة 3 × 7.5 متر، ما يجعلها واحدة من أهم الأعمال الفنية التي تصور التاريخ السياسي في العالم العربي.
كثيرًا ما ينظر إلى اللوحة كشبيهة لجدارية غيرنيكا لبيكاسو في تصويرها الطموح لمأساة إنسانية. ويتذكر العزاوي: «لقد عرضت هذه اللوحة في الكويت، وطلبوا مني الاحتفاظ بها في متحفهم لمدة خمس سنوات على سبيل الاستعارة، فوافقت. وبعد مرور الخمس سنوات، تذكرت أن اتصل بهم لاستعادة لوحتي. وقد جاءت المكالمة في الوقت المناسب. ربما لو كنت قد تأخرت شهرًا واحدًا، لكانت اللوحة قد اختفت من الوجود». وفي عام 2014 حصلت قاعة «تيت مودرن» في لندن على اللوحة، وما زالت هناك حتى يومنا هذا.
ولد ضياء العزاوي في بغداد عام 1939، وبدأ مشواره الفني عام 1964، بعد تخرجه في معهد الفنون الجميلة في بغداد، والحصول على شهادة في الآثار من جامعة بغداد عام 1962.
وقال: «في ذلك الوقت، كنت أعتقد أن الآثار شكل من أشكال الفن». كان للآثار تأثير كبير على أعماله، حيث شكلت إحساسه بذاته، كعراقي وكإنسان، وقادته إلى قصص ورموز قادرة على تعزيز قدراته، وتجسيد هذه الأفكار في لوحاته، ومنحوتاته، وغيرها من الصور والأشكال. وأضاف قائلاً: «كانت مسألة الهوية في العراق أكبر من أي حركة فنية هناك. بوجه عام، يحاول كثير من الفنانين الخروج بأعمال ذات صلة بتاريخهم. بالنسبة لي أصبح جزء من عملي مرتبطًا كثيرًا بالتاريخ، لأني كنت أتعامل معه كل صباح».
ينبع انجذاب العزاوي إلى الأساطير، التي يرويها الأثر، من الطابع العالمي الإنساني لها. وتعد ملحمة جلجامش إحدى القصص التي تتكرر في أعماله. ويتحدث عن ذلك الأمر قائلاً: «إذا كنت تتحدث عن جلجامش من حيث التاريخ، فالقصة تعود إلى 3 آلاف عام، لكن عندما تتحدث عن الجانب الإنساني من جلجامش، فأنت تتحدث حينها عن شخصية، وبطل، يتمحور صراعه حول الموت، فهو لا يريد أن يموت، لذا يحاول الحصول على أي شيء يدوم إلى الأبد، وهو أمر مستحيل». بالنسبة إلى العزاوي، هذا الخوف من الموت هو حالة إنسانية يمكن أن يرى فيها أي شخص ذاته.
شغل العزاوي منصب مدير مديرية الآثار العراقية في بغداد منذ عام 1968 وحتى 1976. ويقيم في لندن منذ عام 1976 حيث عمل مستشارًا فنيًا للمركز الثقافي العراقي بها منذ عام 1977 وحتى 1980. أما اليوم، فيعد واحد من بين أبرز الشخصيات في الفن الحديث والمعاصر في العالم العربي، ومن الشخصيات المعروفة عالميًا. ويتم عرض أعماله ضمن مجموعات خاصة وعامة دولية في عدة أماكن منها متحف الفن الحديث في بغداد، ومتحف الفن الحديث في دمشق، ومتحف الفن الحديث في تونس، والمتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة في عمان، والمتحف العربي للفن الحديث في الدوحة، ومؤسسة بارجيل للفنون في الشارقة، ومؤسسة كندة في المملكة العربية السعودية، ومؤسسة أونا في الدار البيضاء، ومطار جدة الدولي، والمتحف البريطاني، وقاعة «تيت مودرن»، ومتحف فيكتوريا وألبرت في لندن، ومعهد العالم العربي، والمكتبة الوطنية الفرنسية، ومؤسسة كولا في باريس، ومجموعة «حربة كولكشن» في العراق وإيطاليا، ومكتبة الكونغرس، والبنك الدولي في واشنطن العاصمة.
كذلك سيصدر المعرض دراسة عن الفنان وأعماله باللغة الإنجليزية والعربية. سيقام المعرض «أنا الصرخة.. أي حنجرة ستعرفني.. ضياء العزاوي: أهم الأعمال (منذ عام 1963 حتى الغد)» يومي 16 و17 أكتوبر في المتحف العربي للفن الحديث، وحتى نهاية شهر أبريل 2017 في غاليري متاحف قطر، قاعة الرواق.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)